.

اليوم م الموافق ‏23/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

العزاء بين السلف والخلف

5793

الأسرة والمجتمع, فقه

الجنائز, قضايا المجتمع

صهيب بن محمود السقار

بنغازي

مسجد المشعر الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- المصيبة بالموت في هذا الزمن. 2- مظاهر سيئة في العزاء في هذا الزمان. 3- ضرورة التوسط والاعتدال في العزاء. 4- نماذج من عزاء السلف.

الخطبة الأولى

فالحمد لله الذي جعل الموت مصيبة، والحمد لله الذي جعل المصيبة للمؤمنين من بعد ذلك صلوات من ربهم وهدى ورحمة. ونحن اليوم نرى صورة المصيبة بالموت ثقيلة، لا نرى فيها معالم الصلوات والهداية والرحمة. نحن اليوم نرى استقبالنا للموت كأنه ينزل بغتة وفجأة على مخلوق، كأنه موعود بالخلود!

أيها المسلم، هل ترضى أن يكون يوم التعزية بوفاتك موعدا للقمعزة والهدرزة؟! هل ترضى أن يكون في جمع المعزين من يتلفّت يمينا ويسارا يحنّ إلى قطع اللحم أكثر من حنينه إليك؟! هل ترضى أن يكون حجم قطع اللحم مقياسا يعبَّر عن تقديرك عند أهلك؟! هل ترضى أن يكون معصية النساء بمجاوزة الحد في الحداد معيارا يعبَّر فيه عن الألم بفقدك؟! هل ترضى أن تسدّ طرقات المسلمين بموتك لكثرة ما اجتمع فيها من المتكلّفين والمجاملين؟! هل ترضى أن يحعلوا من طرقات المسلمين ساحة لا يتناسب شيء من مظاهرها مع حكمة العزاء ومشروعيته؟! حتى القرآن الذي يقرأ فيها تقرؤه المسجّلات، تركه الأحياء لمن سبق إليه الموت من قرّاء المسلمين! هل ترضى أن يكون مصاب أهلك بتكاليف التعزية أعظم من مصابهم بفقدك؟! هل ترضى أن ينفق الشباب من مدخرات زواجهم لإطعام خليط المعزين في يوم وفاتك؟! ما من مسلم يتمنى أن تكون صورة التعزية بوفاته كمثل صورة التعزية التي يشارك بها اليوم.

من منا ينكر أن الصورة التي انتهى إليها العزاء تخالف الأدب الذي يقتضيه نزول المصيبة؟! يجتمع الناس على شرب الشاي والقيل والقال، وينتظر أهل الميت طوال أيامٍ وليال على مقاعد لا يصبرون على الجلوس عليها دقائق معدودة، تراهم يتململون منها مرات بعد مرات يقومون ويقعدون، وتصطكّ عظام الشيوخ من كثرة المصافحة وحرارتها. فكيف تكون هذه الصورة تسلية وتصبيرا لأهل الميت؟!

نحن اليوم جميعا إذا خلا بعضنا إلى بعض تحدّثنا عن أثقال عادات العزاء وتكاليفه، ولكن من منّا يتجاوز مجرّد اللوم والنقد إلى التصحيح والإنكار؟! لماذا يرفع المتديّنون وعمّار المساجد يد الاستسلام والعجز عن إنكار هذا المنكر؟! إلى متى ينتظر المتدينون من الله أن يصلح الحال من عنده؟! ألم نعطل ونؤجّل كثيرا من مشاريع تزويج أولادنا وبناتنا لأنا استهلكنا المدَّخرات بتكاليف العزاء؟! ألم نعطّل ونؤجل كثيرا من مشاريع تزويج أولادنا وبناتنا لأنا أردنا أن نراعي مشاعر الحزن؟!

أما علي رضي الله عنه فقد تزوّج بعد وفاة سيدة نساء العالمين بسبع ليال، فما باله رضي الله عنه؟! ألم يراع مشاعر فراق الزهراء البتول رضي الله عنها؟! وما بال الكثيرين من سلفنا فعلوا مثل ذلك، ولم يعطلوا الحياة بموت أحد؟!

لا تعني الدعوة إلى إنكار هذا المنكر أن نتخلّف عن التعزية، ولا تعني أن نبالغ في الإنكار، وإنما ندعو إلى التوسّط والاعتدال بالمعروف والمشروع. نريد أن ننكر القدر الذي اتفق الفقهاء على إنكاره وتحريمه من غير أن ننحرف عن ظرف المصيبة والتعزية إلى نقاش وصراع جدلي عقيم.

من التوسط والاعتدال في إنكار هذا المنكر أن نتفهم أن الموت مصيبة بنصّ القرآن الكريم، فقد قال تعالى: فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ، فلا ينكر أحد الحزنَ والأسف، لأن الله فطر البشر على الأمن من حلول المنايا والحزن على فراق الأحباب، وإنما ينكر الإفراط فيه وترك النفس لتسترسل في حزنها حتى تصل إلى مجاوزة الحد المشروع إلى النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب.

اتفق الفقهاء على تحريم النياحة على الميت، كان من عادات العرب في الجاهلية اجتماع النساء على البكاء على الميت، لكن الإسلام استأصل هذه العادة بوعيد شديد، يقول فيه نبينا محمد : ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تلبس يوم القيامة سربالا من قطران ودرعا من جرب)).

يجب أن نرجع إلى سيرة السلف الصالح رضوان الله عليهم، يجب أن نستفيد من تجربتهم في استئصال هذه العادات التي كانت مستحكمة فيهم، ثم أفلحوا في استئصالها واستبدالها بهدي محمد ، أفلحوا في ذلك لأنهم لم يجاملوا كما نجامل اليوم.

أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يضع رأسه في حجر زوجته في مرض وفاته، فيسمع منها شيئا يكرهه، ثم يغيب عن وعيه، فلما أفاق غالب نزع روحه وقال: أنا بريء ممّن برئ منه رسول الله ، إن رسول الله برئ من الصالقة يعني: التي ترفع صوتها عند المصيبة، والحالقة التي تحلق شعرها عند المصيبة، والشاقة التي تشق ثيابها عند المصيبة.

كان الاجتماع إلى أهل الميت والمبيت عندهم من أمر الجاهلية أيضا، لكنهم لم يجاملوا في إنكاره. ماتت أخت لعبد الله بن عمر فاجتمع بعض النسوة في بيته، فلما أقبل الليل قال ابن عمر: اخرجن من بيت أختي؛ لا تبيتَن أختي بالعذاب.

اتفق الفقهاء على إنكار الاجتماع على الطعام الذي يصنعه أهل الميت، فقد كانت عادة من عادات الجاهلية، فلما أخرج الله سلفنا بالإسلام من الظلمات إلى النور قالوها صريحة من غير تلميع ولا تلطيف، قالوا: لطم الخدود والطعام الذي يصنعه أهل الميت كل ذلك من فعل قوم لا خلاق لهم، وقال جرير رضي الله عنه: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة.

هذا هدي قوم لم يقدّموا رضا الخلق على رضا محمد ، هذا هدي قوم لم يكن خوفهم من تعيير الناس أشد من خوفهم من ربهم تبارك وتعالى.

قارن هذه الصورة التي تشارك في رسمها بصورة العزاء عند سلفنا رضوان الله عليهم، أولئك الذين صيَّروا الموت من بعد مصيبة صلواتٍ من ربهم وهدى ورحمة، يقول سعيد بن جبير: ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة التي أعطيت قوله تعالى: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ.

دخل عمر بن عبد العزيز على ابنه في وجعه فقال: يا بنيّ، كيف تجد نفسك؟ قال: أجدني في الحقّ، فقال له: يا بنيّ، لأن تكون في ميزاني أحبّ إليّ من أن أكون في ميزانك، فقال: يا أبتِ، لأن يختار الله لنا ما تُحبُّ أحبّ إليّ من أن يختار لنا ما أحب. فلقّنه وأسلمه إلى ربه، ثم كشفَ عن وجهه وقال: رحمك اللّه يا بنيّ، فقد سررت بك يوم بُشِّرْتُ بك، ولقد عشت عمريَ مسرورًا بك، وما من ساعة أنا أسرّ فيها بك من ساعتي هذه، وكيف تكون ساعة أسر من ساعة تسبق فيها أباك إلى الجنة وتدعوه إليها. ولما قام على قبره قال: رحمك اللّه يا بنيّ، فقد كنت سارًّا وبارًّا، رضينا بقضاء الله وقدره، ووالله ما أحبّ أني إذا دعوتك الآن أن يردّك الله إليّ فتجيبَني. فلما جاءه رجل يعزيه قال له عمر: يا ابن أخي، هذا الأمر الذي نزل بعبد الملك أمرٌ كنّا نعرفه، فلما وقع لم ننكره.

هذا جزاء من ذكر الموت وتذكّره وذكّر به، إذا نزل به الموت لم يصعق به كأن الله وعده أن يكون من الخالدين، قال: يا ابن أخي، هذا الأمر الذي نزل بعبد الملك أمرٌ كنّا نعرفه، فلما وقع لم ننكره.

هذه صورة الإيمان التي جعلت مصيبة الموت صلوات وهدى ورحمة، فمن يجدد الإيمان والعمل حتى نعيد فينا صلوات الله مع هدايته ورحمته، ينبغي أن نعمل وننكر حتى تعيد المؤمنات صور الإيمان في مناسبات العزاء.

أمّ خرج أولادها الثلاثة في سبيل الله، خرجت إلى السوق لبعض شأنها، فتلقاها رجلٌ من رفاق أبنائها، فسألته عن أمور بَنِيها، فقال: اسْتُشهدوا في يوم واحد، فقالت: جميع أبنائي في يوم واحد؟ فقال لها: نعم، فقالت: مُقبلين أو مُدبرين؟ فقال: بل مُقبلين، فقالت: الحمد للّه صانوا العرض ونالوا الفوزَ وبنفسي هم وأبي وأمي.

أيتها المرأة المسلمة، تأمّلي كيف كان قلب المؤمنات بعد هدي الإسلام ونوره.

لما جاء نعي أبي سفيان من الشام دعت ابنته أم حبيبة رضي الله عنها في اليوم الثالث بطيب، فمسحت خديها وذراعيها وقالت: ما لي بالطيب من حاجة لولا أني سمعت رسول الله يقول: ((لا يحلّ لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا)).

هذه الأسوة التي ينبغي أن تقتدي بها المؤمنات، هذه الصورة التي تبدل مصيبة الموت بصلوات الله مع هدايته ورحمته.

بهذا الإيمان تحيل المؤمنة مصيبة الموت إلى هداية وصلوات ورحمة، صلوات ورحمة وهداية ينالها من يقطع الحزن والحداد في اليوم الذي أمر الشرع بقطع الحداد فيه، فهل من مؤمنة ترضى أن تكون محلّ شؤم مستمر بطول حدادها؟! هل ترضى المؤمنة أن تكون منبعا للبؤس الطويل والأحزان؟! أليس خيرا من ذلك أن تكون بإيمانها فيضا على أهلها بصلوت الله وهدايته ورحمته؟!

ونحن نتداول الحديث عن هلاك بعض المعزين في طريقهم لأداء واجب العزاء ينبغي أن نعلم أنّ الشرع ما كلّفنا أن نضرب أكباد الإبل من أجل التعزية، فمن رأى أن يقوم بهذا الواجب فلا بأس، لكن الشرع لم يكلفه بذلك، يكفيه أن يكتب رسالة أو يتصل اتصالا، والشرع إنما قصد بالتعزية تسلية أهل المصيبة وحثهم على الصبر والاحتساب، وهذا المقصود يحصل من غير سفر ولا انتقال.

وقد فعله أعرف الخلق بالأدب والواجب والذوق الرفيع، فلما مات ابن لمعاذ بن جبل كتب إليه رسول الله يعزيه فقال فيه: ((أعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، وإن أنفسنا وأموالنا وأولادنا من مواهب الله الهنية وعواريه المستودعة، نتمتع به إلى أجل معدود، ويقبضها لوقت معلوم، وقد افترض علينا الشكر إذا أعطى والصبر إذا ابتلى)).

نحن اليوم نعترف بالخطأ ونعرف الحق ثم يبقى كل واحد منا ينتظر من غيره أن يبدأ بالتضحية في إبطال هذه العادات المنكرة ووقف سيلها الجارف، لكن قوما آمنوا بوعد محمد لما قال: ((من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى قيام الساعة))، قوم تدبّروا قول الله تبارك وتعالى: فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا، قوم تدبروا قول نبيهم محمد : ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به))، قوم قال فيهم حبر الأمة عبد الله بن عباس: لا يأتي على الناس عام إلا أماتوا فيه سنة وأحيوا فيه بدعة حتى تموت السنن وتحيا البدع، ولن يعمل بالسنن وينكر البدع إلا من هوّن الله عليه إسخاط الناس بمخالفتهم فيما أرادوا ونهيهم عما اعتادوا، ومن يسر لذلك أحسن الله تعويضه، قال رسول الله : ((إنك لن تدع كالله خيرا منه)).

 

الخطبة الثانية

لم ترد.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً