.

اليوم م الموافق ‏09/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

5699

العلم والدعوة والجهاد

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

سعد بن عبد الله العجمة الغامدي

الطائف

11/5/1424

سعيد الجندول

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- خيرية الأمة الإسلامية. 2- أسباب تفشي المنكرات. 3- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 4- التحذير من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 5- من يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 6- مراتب تغيير المنكر. 7- الضوابط الشرعية لتغيير المنكر باليد.

الخطبة الأولى

أما بعد: فلقد فَخُرَتْ هذه الأمة وحُقَّ لها أنْ تَفْخَرَ بما شهد الله لها به وفضّلها على غيرها حيث قال جل وعلا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]، فمن حَقَّقَ هذه الأمور الثلاثة: الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان من هذه الأمة التي فُضِّلت على الناس، ومَنْ لَمْ يُحَقِّقْهَا خرج من هذا الوصف الجليل بقدر ما فاته من التحقيق. ولن يفوز المسلمون بخيرية هذه الأمة المسلمة التي أُخرجت للناس حتى يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، والمعروف: كل ما أمر الله به ورسوله، والمنكر: كل ما نهى الله عنه ورسوله.

أيها المسلمون، لقد مرضت قلوب كثير من المسلمين وكاد المرض أن يقضي على بعضها بالموت حتى نُزِعَتْ الغيرة الدينية من كثير منها؛ فأصْبَحَتْ لا ترى المعروف معروفًا ولا المنكر منكرًا، أصبح الشخص من أولئك لا يَتَمَعَّرُ وجهُه ولا يتغيّر من انتهاك حرمات الله، وكأَنَّه إذا حُدِّثَ عن انتهاكها يُحَدَّثُ عن أمرٍ عاديٍّ لا يُؤْبَهُ له، وهذا دَاءٌ عُضَالٌ أعظم من فقد النفوس والأولاد والأموال.

فواجب على المسلمين أن يتقوا الله ربهم ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويتعاونوا على الحق والبر والتقوى، وأن لاَّ تأخذَهم في الله لَوْمَةُ لائِمٍ، وأن لاّ يخوِّفَهم شياطينُ الإنس والجن ويُوهِنُوا عَزَائِمَهُمْ، فمتى صدق المسلمون العزيمة وأخلصوا النية وأحسنوا العمل واتّبعوا الحكمة في تقويم عباد الله وإصلاحهم على منهج الكتاب والسنة فكلّ شيء يقوم ضدّ الحق سيضمحلّ ويزول، فالباطل لن تثبت قدماه أمام الحق، قال الله تعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء: 18].

إن الذي ينقص المسلمين كثيرًا في هذا الزمان وفي كل مكان هو عدم التعاون بين أهل الخير لكثرة الخلاف والاختلاف واتباع الأهواء والْحِزْبِيَّاتِ، فنجدهم متفرّقين متباعدين لا ينصر بعضهم بعضًا ولا يقوم بعضهم مع بعض لنصرة الحق إذا جاء عن طريق غيرهم، وغاية الواحد منهم في كثير من الأحيان أنْ يَتَأَلَّمَ في نفسه أو يَمْلأَ المجالس قولاً بلا فائدة، ولو نظر المسلمون في كل مكان إلى ما هم فيه من أمراض وفسادٍ ومنكرات وبحثوا في منشأ تلك الأمراض وذلك الفساد وبدأ كل شخص بإصلاح نفسه وأولاده وأهل بيته ومن تحت يده ورعايته، لو فعل كل شخص منّا ذلك لصلحت الأسر جميعها وصلح المجتمع الذي هو مُكَوَّنٌ من تلك الأسر بإذن الله عز وجل.

أما إن كان منشأ ذلك من بعض ضعاف الإيمان والذين استحوذ عليهم الشيطان وتمّت دعوتهم ومناصحتهم بالتي هي أحسن وتذكيرهم بالله وتخويفهم به وبأليم عقابه إذا لم يقلعوا عن المنكرات فإن الواجب نهيهم عن تلك المنكرات، فإن هم تابوا وأنابوا فلهم من الله الأجر والمثوبة وقبول التوبة إن هم صدقوا في توبتهم، وفوق ذلك تُبَدَّلُ سيئاتِهم إلى حسنات، ولمن نهاهم عن الشرّ والفساد والمنكرات أيًّا كانت لهم مثل أجورهم بإذن الله إن تاب أولئك، وإن لم يتوبوا فلهم أجر هداية الدلالة والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].

فعلى المسلمين والمؤمنين حقًا أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وعليهم مناصرة بعضهم بعضًا على الحق؛ لكي يرحمهم الله عز وجل ويتحقق لهم وعد الله تبارك وتعالى، قال الله سبحانه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 71، 72]. وإذا لم يقوموا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويكونوا أولياء لبعضهم كانوا على العكس من ذلك خاصة إذا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانطبقت عليهم صفات المنافقين، عندها يستحقون الوعيد الوارد في القرآن الكريم، قال الله تعالى: الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 67، 68].

فعلينا أن نحذر عقاب الله ونتذكر عظمته وقهره ونقوم بما أوجب علينا؛ لئلا تُسْلَبَ منا النِّعَمُ وتَحلَّ بنا النِّقَمُ، قال الله عز وجل: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [المائدة: 2]، وقال تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]، وقال عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، ولنتأمل آخر كلمة في الآية عندما قال الله عز وجل: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ولم يَقُلْ: (وأهلها صالحون)؛ لأن الصلاح يختص بالشخص نفسه، أما المصلح فهو غالبًا صالح في نفسه مصلح لغيره حريص على صلاح الناس واستقامتهم على دين الله خائف من حلول عقاب الله عليه وعلى غيره الوارد في عدد من آيات القرآن الكريم كما في الآية السابق ذكرها وفي غيرها، مثل قول الله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وقوله عز وجل: وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: 83]، وقوله عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]، وقوله عز وجل: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف: 164، 165]، وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليّ النبي فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كَلَّمَ أحدًا، فَلَصِقْتُ بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((يا أيها الناس، إن الله يقول لكم: مُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم)) فما زاد عليهن حتى نزل. رواه ابن ماجة وابن حبان رحمهما الله، وقال : ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نُؤْذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) رواه البخاري والترمذي وغيرهما. ومعنى ((القائم على حدود الله)) أي: المنكر لها القائم في دفعها وإزالتها، والمراد بالحدود: ما نهى الله عنه، ومعنى ((استهموا)) أي: اقترعوا.

إذًا، إذا أردنا أن ننجو في الدنيا قبل الآخرة فعلينا القيام بهذه الشعيرة العظيمة حتى تنجو سفينة المجتمع من الغرق، وإذا لَمْ يَقُمِ المسلمون في أي مجتمع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فسوف يغرق الجميع في عواقب المعاصي والمنكرات ويتحقق التشبيه البليغ الوارد في الحديث السابق ذكره وفي أحاديث أخرى وآيات قرآنية تتلى إلى يوم القيامة، عن أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي دخل عليها فزعًا يقول: ((لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحَلَّقَ بأصْبعَيْهِ الإبْهَامِ والتي تليها، فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم، إذا كثر الخبث)) متفق عليه. والخبث: الفسوق والفجور. يدلّ الحديث على أنه إذا كثر الخبث فقد يحصل الهلاك العام وإن كثر الصالحون، وهذا يؤكد الفرق بين الصالح والمصلح، فالحديث يؤكّد ما ورد في الآية القرآنية السابق ذكرها أيضًا في قول الله عز وجل: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، وعن حذيفة رضي الله عنه عن النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع؛ فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)) ثم تلا قول الله عز وجل: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ إلى قوله تعالى: فَاسِقُونَ [المائدة: 78-81]، ثم قال: ((كلا والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرًا ولتقصرنه على الحق قصرًا أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم)) أبو داود والترمذي وهذا لفظ أبي داود.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41].

 

الخطبة الثانية

الحمد للهِ العليمِ الحكيمِ، الرؤوفِ الرحيمِ، قدّر لعباده من الأسباب المعنوية والحسية ما يمنعهم من ارتكاب المعاصي والآثام وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أرجو بها النجاة من العذاب الأليم والفوز بالنعيم المقيم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليمًا.

أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بعينه حسب استطاعته وكما ورد في مراتب ودرجات الناس في تغيير المنكر بحسب المسؤولية والمكانة والصلاحية، أما الأمر بالمعروف والدعوة إلى الله عمومًا بالتي هي أحسن فهي أيضًا حسب القواعد الشرعية الواردة في الكتاب والسنة، ومجال الدعوة إلى الله أوسع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويجب أن يقوم بها جميعًا جهةٌ معينة في مجتمعات المسلمين، ولا تسقط بذلك التَّبِعَةُ عن عموم المسلمين فيما هو في مقدرتهم واستطاعتهم وتحت رعايتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله عمومًا، قال تعالى: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران: 104].

هذه الآية ورد فيها وجوب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على فئة من الأمة الإسلامية لتقوم بهذه الشعيرة العظيمة التي عَدَّهَا بعضُ العلماء ركنًا سادسًا من أركان الإسلام، والآية الأخرى التي جاءت بعد عدة آيات تُرَغِّبُ في هذا العمل الجليل وتَشْحَذُ الْهِمَمَ للحصول على هذه الخيرية، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمْ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمْ الْفَاسِقُونَ [آل عمران: 110]، وقال عز وجل: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، وقال رسول الله : ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)).

إذًا فواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يختص به أحد في كل صغيرة وكبيرة في داخل البيوت وخارجها، إنما هو واجب على الجميع كل فيما يَخَصُّهُ، وهناك فرق بين التخصص والاختصاص في هذا الأمر وفي غيره، ففي هذا الجانب مثلاً يوجد جهة تجمع بين التخصّص والاختصاص، فتلك جهة مختصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأخرى مختصة في شؤون الدعوة إلى الله عمومًا، وهذا في الأمور المتعلقة بأمور العامة من المسلمين كما هو موجود في بلاد الحرمين حيث وجود جهازين حكوميين في هذا المجال والذي يُنظَّم فيه العملُ حسب توجيه ولي الأمر، وليس لكل أحد من عامة الناس حتى ولو كان موظّفًا في إدارة حكومية أخرى أن يقوم بتغيير المنكر باليد في المجتمعات العامة وما ليس تحت إدارته حتى لا تحصل الفوضى كما حصلتْ مِمَّنْ قَلَّ عِلْمُهُمْ وفِقْهُهُمْ وخرجوا عن نصوص الكتاب والسنة وأساؤوا للإسلام والمسلمين، ها هم يقومون بالتفجيرات والتخريب والتدمير وقتل الناس بحجة تغيير المنكر في المطاعم والمقاهي والملاهي، ولم يؤمروا بذلك في قرآنٍ أو سُنَّةٍ، وإنما هو اتباع للهوى وتفسيرات وتأويلات باطلة لا تَمُتُّ إلى لإسلام بصلة، وقِلَّةُ العلم وكثرة الجهل بأمور الإسلام وعدم أخذ العلم عن العلماء والاكتفاء بالقراءة في الكتب واتخاذ الرؤوس الجهال أوردهم تلك الموارد المشينة، وليس تغيير المنكر باليد لكل أحد في أي مكان، ولا يُغَيَّرُ المنكرُ بأَنْكَرَ منه ولو كان في استطاعة أي شخص القيام به، فتغيير المنكر باليد في المجتمعات العامة والأسواق والمتنزهات وغيرها هذا عائد للجهة المختصة للقيام بذلك، أما الشخص في منزله ومع أولاده وأهل بيته ومن تحت يده ورعايته وفي مؤسسته وإدارته حكومية أو أهلية أو مصنعًا أو مزرعة أو محلاً تجاريًا فله التغيير باليد، وليس لكل المشتركين معه التغيير باليد في المنكر إلا على قدر مسؤوليتهم، وإلا أصبحت الفوضى هي الشغل الشاغل في مجتمعات المسلمين، وهذا هو الذي حصل الآن في المجتمعات عامة نتيجة ذلك الفكر التكفيري الذي خرجت به تلك الجماعة التخريبية التي انطلقت في جميع بقاع الأرض لتغيير المنكرات بتدمير الأرواح والممتلكات، ولم يَسْتَمِدُّوا منهجهم ممن خلق الأرض والسماوات العليم الخبير بما يصلح عباده والقائل سبحانه: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 99، 100].

ولنتأمل هذه الآيات التي لو تأمّلها وعقلها المجرمون الآثمون لوجدوا فيها الأجوبة الشافية لما يدور في نفوسهم، لو عرفوها وعرفوا غيرها من الآيات والأحاديث وتفسير ذلك وربطوا بينها لما أقدموا على هذا الإجرام في جميع بقاع الأرض باسم الإصلاح وتغيير المنكرات، والمجال لا يسمح باستعراض سبب نزول الآية الأولى فقط والذي لو لم يكن فيه من الفوائد إلا أن المنكر لا يغير بأنكر منه لكفى بها فائدة عظيمة، قال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، إلى أن قال سبحانه في هذا الترابط العجيب والكلام البليغ: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود: 114-123]. لو تأملوا آخر هذه الآية: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ وفي آيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأخرى التي تنتهي بقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [آل عمران: 109]، وقوله عز وجل: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، فعلى المسلم الصبر والمصابرة في هذا الأمر وفي غيره، وليتأمل قول الله عز وجل الوارد في وصية لقمان لابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [لقمان: 17]، لو تأملوا ذلك وتأملوا قول الله عز وجل: وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وقول الرسول : ((فليغيره بيده)) لعلموا أنَّ هذه النصوصَ وغيرَها لم يرد فيها الإقدام على القتل والتخريب والتدمير لمرتكبي المنكرات من المسلمين أو الكفار، وأنَّ هذه الأعمال المشينة مُعَارِضَةٌ لآيات الدعوة إلى الله عمومًا والتي سوف يكون لها خطبة مستقلة إن شاء الله تعالى، ومنها قول الله عز وجل: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل: 125].

إذًا على الذين يصطادون في الماء العكر أنْ يفهموا أنَّ الإسلامَ بريءٌ من أفعال تلك العصابات الإجرامية وأن هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية والوهابية التي يَعِيبونَ أهلها بهذا الوصف الذي وصفها به الأعداء والمناهج التعليمية ومدارس وجماعات تحفيظ القرآن والمراكز الصيفية ومراكز الدعوة والتوجيه والإرشاد في جميع أجهزتها ومساجدها ومنابرها الدعوية بَرِيئَةٌ مما قاله الأعداء وما تَفَوَّهَ به أهلُ المعاصي والآثام والذين يَتَمَنَّوْنَ أنْ تُتْرَكَ لهم الحرية البهيمية لِيَعِيثُوا في الأرض فسادًا كما ورد على ألسنتهم وبأقلامهم عند أول حدث حصل في المملكة وكما حصل من قبل، فعليهم أن يرجعوا إلى إسلامهم وتعاليمه السمحة ويتمسكوا بالإسلام قولاً وعملاً واعتقادًا بدلاً من اللعب على الْحَبْلَيْنِ، فالله مُتِمُّ نُورِهِ عز وجل، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32]، وقال عز وجل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8]، فهذه الدولة القائمة في بلاد الحرمين قامت بما أوجب الله عليها بعد أنْ مَكَّنَهَا الله في الأرض مع عدمِ ادِّعَاءِ الكمالِ والوصولِ إلى الْمِثَالِيَّةِ، وهذا من العجز البشري الذي يعترف به الجميع، وهذا من فضل الله عليها وعلى جميع من يعيش على هذه الأرض المباركة من المؤمنين والمنافقين والكافرين على حد سواء؛ لأن هذه الخيرية وهذه النعم التي ينعم بها الجميع بسبب تطبيق الشريعة الإسلامية فَعَمَّ خَيْرُهَا الجميعَ، قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج: 41]، فهل يجوز أنْ تُنْسَبَ تلك الأعمالُ الإجراميةُ الإفساديةُ التي يقتل فيها الانتحاريون أنفسَهم ويُفَجِّرُونها ويُفَجِّرُون غيرهم ويُدَمِّرُونَهم هل يجوز أن تنسب تلك الأعمال للمملكة وهيئاتها ودعاتها والمصلحين فيها؟! مع أنَّ كلَّ يوم تَبْزُغُ شمسُه ينكشف شيء جديد حول تعدد جنسياتهم وارتباطهم بشبكة عالمية إجرامية، وعندما تأتي حادثة جديدة في أي بقعة من العالم يأتي الجواب الذي حَارَ فيه كثيرون من عدم تصوره وفهمه له وارتباطه بشبكة عالمية وليس خاصًا ببلاد الحرمين، وهذا شيءٌ مُهِمٌ في جميع الاتجاهات ولجميع القطاعات والإدارات المختصة والمتخصصة وللأفراد أيضًا حتى يعرفوا الأسباب والدوافع لأي قضية تقع خاصة عندما تُشَكِّلُ ظاهرةً اجتماعيةً لِلتَّمَكُّنِ من توفير العلاج الناجع لقادم الأيام، حيث لا يكفي أنْ تُقَامَ الحدودُ مثلاً على السارقين فقط أو أولئك المخربين؛ لأنه لن يتم القضاء على هذه الظواهر إلا بمعرفة الأسباب والدوافع ومن ثم العلاج الصحيح في جميع الاتجاهات وليس من زاوية قاصرة أو زوايا ضَيِّقَةٍ، وإنما بمفهوم واسع واعٍ مستوعبٍ للمشاكل المحيطة بتلك الدوافع وأصحابها. والله عز وجل المسؤول أن يصلح حال أمة الإسلام وشؤونهم وجميع أمورهم ويوفقهم لما يحب ويرضى ويصرف عنهم الشرور والفواحش ما ظهر منها وما بطن ويصلح منهم الظاهر والباطن ويجعل عواقب أمورهم وأحوالهم إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد ودنياهم وآخرتهم.

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وآله...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً