أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤتِكُم كِفلَينِ مِن رَحمتِهِ وَيَجعَلْ لَكُم نُورًا تمشُونَ بِهِ وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَتَكَلَّمُ النَّاسُ في غَلاءِ الأَسعَارِ، وَيَتَحَدَّثُونَ عَنِ أَسبَابِ ذَلِكَ، وَيَخُوضُونَ في مَصَادِرِهِ، ثم يُعَقِّبُونَ بما يَجِبُ عَلَى الحُكُومَاتِ وَمَا تَتَحَمَّلُهُ الوِزَارَاتُ، فَمِن رَاءٍ أَنَّ عِلاجَ ذَلِكَ تَكثِيفُ الرَّقَابَةِ عَلَى التُّجَّارِ وَالبَاعَةِ وَمُتَابَعَةُ أَصحَابِ الشَّرِكَاتِ وَالمُستَورِدِينَ وَمُحَاسَبَتُهُم، وَمِن ذَاهِبٍ إِلى أَنَّ الحَلَّ في زِيَادَةِ المُرَتَّبَاتِ وَرَفعِ المَعَاشَاتِ وتَكثِيفِ الإِعَانَاتِ، وَيَحدُثُ أَن تَتَفَاعَلَ الحُكُومَاتُ مَعَ رَعَايَاهَا، فَتَزِيدُ في الرَّواتِبِ مَا شَاءَ اللهُ أَن تَزِيدَ، وَتَتَبَرَّعُ بِإِعَانَاتٍ لِدَعمِ السِّلَعِ الضَّرُورِيَّةِ، وَتَسُنُّ مِنَ القَوَانِينِ وَتُصدِرُ مِنَ القَرَارَاتِ مَا تَرَاهُ حَاسِمًا لِلوَضعِ قَاطِعًا لَلمُشكِلاتِ.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ ذَلِكَ في النَّظَرِ القَرِيبِ صَحِيحًا وَهُوَ مِن بَذلِ الأَسبَابِ، فَإِنَّ ثَمَّةَ أَمرًا أَهَمَّ مِن ذَلِكَ وَأَولى بِأَن يُدرَسَ وَيُتَأَمَّلَ، ذَلِكُم هُوَ النَّظَرُ في هَذِهِ القَضَايَا مِن جِهَةِ عِلاقَةِ العِبَادِ بِرَبِّهِم وَخَالِقِهِم وَرَازِقِهِم، الذِي هُوَ أَرحَمُ بِهِم مِن أُمَّهَاتِهِم وَأَنفُسِهِم، فَقَد كَانَ مِنَ الوَاجِبِ عَلَيهِم قَبلَ هَذَا وَبَعدَهُ وفي أَثنَائِهِ أَن يَتَوَجَّهُوا إِلى رَبِّهِم جل وعلا، وَيَلجَؤُوا إِلَيهِ، وَيَطلُبُوا مِنهُ العَونَ وَالمَدَدَ وَالتَّيسِيرَ وَالتَّفرِيجَ، فَهُوَ تعالى الذي بِيَدِهِ الأَمرُ كُلُّهُ، وَإِلَيهِ يُرجَعُ الأَمرُ كُلُّهُ، وَهُوَ المُعِزُّ المُذِلُّ القَابِضُ البَاسِطُ الرَّافِعُ الخَافِضُ، وَهُوَ الذِي لا مَانَعَ لِمَا أَعطَى وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَلا رَادَّ لِوَاسِعِ فَضلِهِ ولا لِمَا حَكَمَ بِهِ وقَضَى، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالى: مَا يَفتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن رَحمَةٍ فَلا مُمسِكَ لَهَا وَمَا يُمسِكْ فَلا مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ .
نَعَم أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا شَاءَ اللهُ كَانَ، وَمَا لم يَشَأْ لم يَكُنْ، وَكُلُّ مَا يَفتَحُهُ لِلنَّاسِ مِن خَزَائِنِ رَحمتِهِ أَو مَا يُضفِيهِ عَلَيهِم مِن سَابِغِ نِعمَتِهِ أَو مَا يُضَيِّقُهُ مِن أَبوَابِ رِزقِهِ وَمَا يُمسِكُهُ وَيَمنَعُهُ مِن عَطَائِهِ فَلَهُ سُبحَانَهُ في كلِّ ذَلِكَ الحُكمُ النَّافِذُ وَالحِكمَةُ البَالِغَةُ، وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ، العَزِيزُ في انتِقَامِهِ ممَّنِ انتَقَمَ مِنهُ مِن خَلقِهِ بِحَبس رَحمتِهِ عَنهُ وَإِمسَاكِ خَيرَاتِهِ، الحَكِيمُ في تَدبِيرِ شُؤُونِ خَلقِهِ وَفَتحِهِ الرَّحمةَ لهم إِذَا كَانَ ذَلِكَ صَلاحًا، وَإِمسَاكِهَا عَنهُم إِذَا كَانَ إِمسَاكُهَا حِكمَةً، وَهَذَا كَقَولِهِ تَعَالى: وَإِن يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمسَسْكَ بِخَيرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدُيرٌ ، وَقَولِهِ جل وعلا: وَإِنْ يَمسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيرٍ فَلا رَادَّ لِفَضلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ ، وقَولِهِ سُبحَانَهُ: قُلْ أَفَرَأَيتُم مَا تَدعُونَ مِن دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَل هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَو أَرَادَني بِرَحمةٍ هَل هُنَّ مُمسِكَاتُ رَحمتِهِ قُلْ حَسبِيَ اللهُ عَلَيهِ يَتَوَكَّلُ المُتَوَكِّلُونَ ، وَفي الصَّحِيحِ أَنَّه كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لا مَانِعَ لِمَا أَعطَيتَ، وَلا مُعطِيَ لِمَا مَنَعتَ، وَلا يَنفَعُ ذَا الجَدِّ مِنكَ الجَدُّ)).
إِنَّهَا صُورَةٌ جَلِيلَةٌ مِن صُوَرِ قُدرَةِ اللهِ وَعِزَّتِهِ، حِينَ تَقَعُ في قَلبِ عَبدٍ وَتَتَمَلَّكُهُ وَتَستَقِرُّ فِيهِ فَإِنَّهَا تُحدِثُ فِيهِ تَحَوُّلاً كَامِلاً في شُعُورِهِ وَتَصَوُّرَاتِهِ، وَتُغَيِّرُ مَوَازِينَهُ وَاتِّجَاهَاتِهِ، وَتُصَحِّحُ نَظرَتَهُ لِهَذِهِ الحَيَاةِ وَمَا فِيهَا، إِنَّهَا تَقطَعُهُ عَن قُوَّةِ أَيِّ مَخلُوقٍ في هَذَا الكَونِ أَو رَحمتِهِ، وَتُوصِدُ أَمَامَهُ بَابَ كُلِّ مَخلُوقٍ وَتُغلِقُ عنه كُلَّ طَرِيقٍ إِلَيهِ، وَتَصِلُهُ بِقُوَّةِ الخَالِقِ الرَّازِقِ المُعطِي، وَتُطمِعُهُ في رَحمةِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ الوَدُودِ، وَتَفتَحُ أَمَامَهُ أَبوَابَ الوَاسِعِ العَطَاءِ العَظِيمِ المَنِّ، وَتُفسِحُ لَهُ الطُّرُقَ إِلى القَادِرِ الذِي لا يُعجِزُهُ شَيءٌ في الأَرضِ وَلا في السَّمَاءِ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيًا لَهُ إِلى تَقوِيَةِ العِلاقَةِ بِهِ، وَتَفرِيغِ القَلبِ لِعِبَادَتِهِ وَالجَوَارِحِ لِطَاعَتِهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ مَا مِن نِعمَةٍ يُمسِكُ اللهُ مَعَهَا رَحمتَهُ إِلاَّ تَحَوَّلَت إِلى نِقمَةٍ، وَمَا مِن مِحنَةٍ تَحُفُّهَا رَحمةُ اللهِ إِلاَّ قَلَبَتهَا إِلى نِعمَةٍ، يَنَامُ الإِنسَانُ عَلَى الشَّوكِ مَعَ رَحمةِ اللهِ فَإِذَا هُوَ كَالمِهَادِ، وَيَتَقلَّبُ عَلَى الحَرِيرِ وَقَد أُمسِكَت عَنهُ الرَّحمةُ فَإِذَا هُوَ مِثلُ شَوكِ القَتَادِ، لا ضِيقَ وَاللهِ مَعَ رَحمةِ اللهِ، وَإِنما الضِّيقُ في إِمسَاكِهَا مِنهُ دُونَ سِوَاهُ، لا ضِيقَ مَعَ رَحمةِ اللهِ وَلَو كَانَ العَبدُ في غَيَاهِبِ السُّجُونِ أَو يَتَقَلَّبُ بَينَ أَنيَابِ الفَقرِ، وَلا سَعَةَ مَعَ إِمسَاكِهَا وَلَو تَمَتَّعَ في أَعطَافِ النَّعِيمِ وَسَرَّحَ نَظَرَهُ في مَرَاتِعِ الغِنى وَالرَّخَاءِ، وَمِن هُنَا فَإِنَّ عَلَى المُسلِمِينَ أَن يَعُودُوا إِلى اللهِ وَيَتُوبُوا إِلَيهِ وَيُقَوُّوا الصِّلَةَ بِهِ، وَيَسأَلُوهُ مِن خَيرِهِ العَمِيمِ ويَرجُوا رَحمتَهُ الوَاسِعَةَ، التي مَا ضَاقَ مَعَهَا رِزقٌ وَلا سَكَنٌ، وَلا مُلَّ عَيشٌ وَلا سُئِمَت حَيَاةٌ، وَأَن لاَّ يُصبِحَ هَمُّهُمَ كَم زِيدَ الرَّاتِبُ؟ وَلا كَم رُفِعَتِ العَلاوَةُ؟ وَلا كَم دُعِمَت به تِلكَ السِّلعَةُ؟ وَلا كَم لَدَى فُلانٍ مِنَ المَالِ أَوِ الوَلَدِ؟ أَو مَاذَا أُعطِيَ عَلاَّنٌ مِنَ الصِّحَّةِ وَالقُوَّةِ؟ أَو مَاذَا مَلَكَ زَيدٌ مِنَ الجَاهِ وَالسُّلطَانِ؟ فَإِنَّ كُلَّ تِلكَ الأُمُورِ بِلا رَحمةِ اللهِ تُصبِحُ مَصدَرَ تَعَبٍ وَشَقَاءٍ وَقَلَقٍ، وَتَصِيرُ مَبعَثَ هَمٍّ وَنَغصٍ وَنَكَدٍ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعلَمُوا أَنَّ مِن رَحمةِ اللهِ أَن تُحِسُّوا بِحَاجَتِكُم إِلى رَحمةِ اللهِ، وَأَن تَرجُوهَا وَتَتَطَلَّعُوا إِلَيهَا وَتَطلُبُوهَا، وَأَن تَثِقُوا بِاللهِ وَتَتَوَقَّعُوهَا في كُلِّ حَالٍ وَزَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَأَن تَعلَمُوا أَنَّ النَّصرَ مَعَ الصَّبرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا. ثم اعلَمُوا في المُقَابِلِ أَنَّ العَذَابَ كُلَّ العَذَابِ وَالضَّلالَ كُلَّ الضَّلالِ في الاحتِجَابِ عَن رَحمةِ اللهِ أَوِ اليَأسِ مِنهَا وَالقُنُوطِ أَوِ الشَّكِّ في حُصُولِهَا مِن وَاهِبِهَا سُبحَانَهُ، إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللهِ إِلاَّ القَومُ الكَافِرُونَ ، وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ .
|