.

اليوم م الموافق ‏11/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الخسوف والكسوف

5661

موضوعات عامة

جرائم وحوادث, مخلوقات الله

سعد بن عبد الله العجمة الغامدي

الطائف

2/5/1420

سعيد الجندول

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- وجوب شكر الله تعالى. 2- من نعم الله تعالى تعاقب الليل والنهار. 3- آية الشمس والقمر. 4- ظاهرة الكسوف والخسوف. 5- الحكمة من الكسوف والخسوف. 6- الحساب القمري والحساب الشمسي.

الخطبة الأولى

أما بعد: فعلينا أن نتقي الله تعالى ونشكره على ما أنعم به علينا من النعم الظاهرة والباطنة، وعلى ما سخر لنا من مخلوقاته، حيث سخّر لنا سبحانه ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، لو تدبّرنا ذلك لوجدناه حقيقة ماثلة أمام أعيننا، ولكننا عن ذلك غافلون.

قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الجاثية: 12، 13]، وقال عز وجل: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان: 20].

ومن نعمته سبحانه وآياته الدالة على عظمته وقدرته وبديع خلقه تعاقبُ الليل والنهار وإدخالُهما في بعضهما، وسَلْخُ الليل من النهار، ومنامُنا بالليل والنهار، وسَعْيُنا لطلب الرزق من فضله في النهار، وتسخيرُه الشمس والقمر مستمريْن دائبيْن إلى قيام الساعة، قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنْ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمْ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمْ الأَنهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 32-34]، وقال سبحانه: وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 23].

فهو عز وجل الذي سخر الشمس والقمر في حركة دائمة مستمرة لا تختلف ولا تتخلف؛ لنعلم عدد السنين والحساب، ولكي تتنوع الثمار مع منازل الشمس حسب الفصول والأزمان والأمكنة، ولنعلم الحساب بمعناه الواسع وما تحمله هذه الكلمة من معنى أوسع مما نعرفه ونتصوره، فهو سبحانه الذي سخرهما يسيران بنظام بديع محكم وسَيْرٍ سريع لا ندركه، وفي مسارات وأفلاك عِلْمُنا عنها قاصر ومحدود، وجَهْلُنا بها يجعلنا نُخَمِّنُ ونتصوَّرُ ونعتقدُ ونصحِّح ونُلْغِي ونقرِّرُ ونخاصِمُ ونهْجُر ونرْغي ونزْبد كلما سنحت لنا الفرصة ونتقَوَّل على الله بغير علم، ونسلك غير منهج السلف الصالح رحمهم الله الذين فهموا هذا وغيره منذ مئات السنين ولم نفهمه نحن في هذا العصر. فالواجب على المسلم أن يلزم حدوده فيما لا يعلم ولا يتكلم إلا بما وافق القرآن والسنة ووضّحه العلم الذي لا يزال أهله في عجز أمام بلاغة القرآن والسنة وإعجازهما.

قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [ الرحمن: 5]، وقال تعالى: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام: 96]، فلو تأملنا هؤلاء الكلمات الثلاث في هاتين الآيتين لكفت وأغنت عن الكثير من البحث والتقصي، فالشمس والقمر لا يختلفان عُلُوًّا ولا نزولاً، ولا ينحرفان يمينًا ولا شمالاً، ولا يتغيران تقدمًا ولا تأخرًا عمّا قدّر الله تعالى لهما في ذلك كما قال عز وجل: صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88]. فالشمس والقمر آيتان من آيات الله الدالة على كمال قدرته وعلمه وبالغ حكمته وواسع رحمته، آيتان من آيات الله في عِظَمِهِمَا وفيما ينبعث من الشمس من النور والأشعة حيث هي مصدر النور والإضاءة والحرارة المتوَهِّجَة والملتهبة، وفيما يعكسه القمر من نور الشمس وإضاءته على الأرض، ففي هذا وغيره من التعاقب ومعرفة عدد السنين والحساب والمنافع وتتابع المصالح الدنيوية والأخروية على هذه الأرض، في ذلك كله آيات عظيمة تدل على عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته وحكمته ورحمته وعلمه حيث وسع كل شيء رحمة وأحاط بكل شيء علمًا لا إله إلا هو العزيز الحكيم، قال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 37-40]، وقال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: 33]، وقال عز وجل: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6]، وقال عز وجل: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، وقال جل جلاله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].

أيها المسلمون، هل تدبَّرنا هذه الآيات القرآنية العظيمة؟! وهل وَعَيْنَا وعرفنا أن كل العلوم والمعارف التي يتباهى بها الناس اليوم ويتشدقون ويفتخرون بالوصول إليها أنها موجودة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأنا عنها غافلون أو متغافلون، وأنا نمرُّ على كثير من آيات القرآن الكريم دون تدبر وفهم لمعانيه مع أنه بِلُغَتِنَا العربية الفصحى التي لا نحتاج معها إلى كثيرِ تأملٍ من حيث وصول الفهم بسرعة للمقصود إلا فيما ندر لمّا ابتعدنا عن لغتنا الأمِّ التي أصبح الاعتزاز والافتخار بغيرها لدى بعض المسلمين موجودًا وأمرًا مقصودًا، بل الدعوة إلى تعلم تلك اللغات ومنها الإنجليزية أصبح أمرًا مفروضًا على الجميع حتى غَدَتْ شرطًا من الشروط التعجيزية للوظائف في هذا البلد ويطلبون إجادتها تحدثًا وكتابة حتى وإن كان التقديم على وظيفة عامل للنظافة، وهذا في معظم البلاد العربية إن كان طالب تلك الوظيفة من البلد نفسها ولا يطلبون ذلك من عمال بلاد لا يتقنون العربية ولا الإنجليزية؛ لأنهم لا يريدون أبناء البلد أصلاً، فيضعون العراقيل والشروط التعجيزية أمامهم، وإن كان هذا الشرط لكثير من الوظائف ذرًا للرماد في العيون؛ لئلا يحصل عليها أحدٌ من أبناء البلد، ومع هذا يحتجّون بأنه لم يتقدم لتلك الوظائف أحد لكي يستقدموا من الخارج. أعود للقول بأننا ابتعدنا عن لغتنا العربية حتى بين بني جلدتنا والذين يتكلمون بلغتنا ونعيش مع بعضنا أصبحنا لا نعتزُّ بها ولا نقيم لها وزنًا.

ومع تقدم وسائل العلم والتعلم وتوفرها بكل يسر وسهولة نجد الجهل يخيم على كثير من عقول الناس حول كثير من الأمور، ومنها: ظاهرة الخسوف والكسوف التي عَلِمَهَا علماءُ المسلمين منذ مئات السنين وليس لديهم شيء من مخترعات اليوم ومراصده وآلاته، ولكنه نور البصيرة التي أعطاهم الله إياها ووصلتنا علومهم تلك عن طريق كتبهم ومؤلفاتهم، وفَهِمَ ذلك وغيره ابنُ تيمية وابنُ القيم وغيرُهما رحم الله الجميع، ولم ينكر أحد منهم علم الحساب، ولكنه لا يعتمد عليه لوحده إلا بالرؤية الشرعية للقمر لإثبات دخول الأشهر، وإلا فالعلم موجود من قديم الزمن يعلمه كثير من الناس في ذلك الزمن ليعرفوا متى يزرعون ويسقون ويحصدون وغير ذلك من حياتهم المعيشية، فهو عِلْمٌ عَلَّمَهُم الله إياه بمعرفة البروج والفصول الموجودة بنصِّ القرآن الكريم، ومنها قول الله عز وجل: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا [الفرقان: 61، 62]، وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران: 190]، وقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج: 1]، والآيات التي سبق ذكرها والتي تدلّ إضافة إلى هذا على تداخل الليل والنهار وتعاقبهما واختلافهما تدلُّ على أنهما آيتان عظيمتان أمام أعينهم وهما الشمس والقمر، فعلموا رحمهم الله السبب الشرعي والظاهري من الكسوف والخسوف الذي يجهله كثير من الناس اليوم ويعلمه المتخصصون وبعض المتعلمين وخاصة من المسلمين الذين لم يزدهم علمهم هذا وتعلمهم إلا تفاخرًا وشموخًا بالأنوف كأنهم قد أَتَوْا بشيءٍ غريب وعجيب.

والأغرب من ذلك بعض المتعالمين الذين لا يفقهون شيئًا ويردّدون ما يقوله غيرهم مع أن أحدهم لا يعلم متى يحصل الكسوف أو الخسوف، ولو قيل لأحدهم ما يلي لما علم الإجابة الصحيحة التي عرفها علماء المسلمين بأن كسوف الشمس لا يحصل إلا آخر يوم من الشهر سواء كان ثلاثين يومًا أو تسعة وعشرين يومًا، في هذين اليومين فقط إذا كان أحدهما هو آخر يوم من الشهر القمري، وخسوف القمر لا يكون إلا ليلة النصف من الشهر القمري، وبهذا يكون الخسوف دليلاً ثابتًا ودلالة واضحة على الشهر إن كان تسعة وعشرين يومًا أو ثلاثين يومًا عندما يتم حساب ذلك حسابًا دقيقًا، ومن هنا يتبين عدم صحة حساب أهل الحساب في بعض الأحيان عندما يكون خسوف القمر ليلة الرابع عشر من الشهر، أي: أن الخطأ في حسابهم للشهر السابق حيث اعتمدوه ثلاثين يومًا، فلا يمكن أن يكون الشهر القمري الهجري سبعة وعشرين يومًا أو ثمانية وعشرين يومًا، مع علمهم بأن حساب الشهر القمري هو: تسعة وعشرون يومًا واثنتا عشرة ساعة وأربع وأربعون دقيقة وثانيتان وثمانية أعشار الثانية (29 يومًا، و12 ساعة، و44 دقيقة، و2 ثانية، و8 من العشرة من الثانية)، ومع ذلك نجد الاختلاف بينهم في الحساب مع وجود الآلات الحاسبة بين أيديهم، وذلك لاختلافهم في نقطة بداية الحساب من حيث خطوط الطول والعرض على وجه الأرض، لهذا فإن الحساب بالقمر لا يؤخذ على إطلاقه بالحسابات الحالية لأن الاختلاف بين أهل الحساب موجود وواقع نعلمه ونُعَايِشُهُ في هذا الزمان، ولهذا فإن هذا الحساب يؤخذ على أنه مقرِّبٌ ومُؤَيِّدٌ للرؤية الشرعية لإثبات دخول شهري رمضان والحج وغيرهما من الأشهر القمرية المرتبط بها أي عبادة من صيام وحج وعدّة ومواقيت أخرى كما قال الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].

لذلك أعود للقول بأنه يحصل الكسوف والخسوف عدة مرات في كل سنة من مرتين إلى ثلاث مرات ولكنه على مناطق ودول مختلفة من العالم وبنسبٍ متفاوتة جزئية أو كلية، وقد تمرّ عشرات السنين لا يعود كسوف الشمس على تلك المنطقة بنفس النسبة، فالمسلمون الأوائل قد علموا أن البروج منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائلة التي تسبح فيها، ومنها: الشمس والقمر حيث وُصِفَتْ الشمس بالسراج الوهّاج في الآية السابق ذكرها وفي قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا [النبأ: 13]، وبأنها مصدر الضوء وأن القمر نور ومنير وعاكس لأشعة الشمس ونور الشمس ووهجها ولهيبها المنبعث منها الذي لو اقترب من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقها، وهذا مشاهد في فصل الصيف، ولو ابتعدت عنها أكثر من ذلك لتجمد كل ما على الأرض، وهذا واضح في فصل الشتاء وفي المحيطيْن المتجمديْن الشمالي والجنوبي من الأرض لعدم طلوع الشمس عليهما عدة أشهر في السنة.

لقد ذكر الله الشمس والقمر معًا في عدة آيات واضحة الدلالة لمن كان له أدنى بصيرة وعلم باللغة العربية ومعرفة دقيقة للجمع بينهما في هذا الأمر والمعنى في سريانهما وجريانهما أيضًا حيث تكرر ذلك في آيات عدة، قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا [يونس: 5]، وقال عز وجل: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 16]، وقال سبحانه وبحمده: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا [الفرقان: 61]، وقال تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [ الإسراء: 12]، فآيةُ الليل: القمرُ، وآيةُ النهار: الشمسُ.

ولننظر إلى هذا الوصف الدقيق والجمع العجيب بين وصف الشمس والقمر وبين منازلهما وبروجهما وسيرهما في أفلاكهما في السماء، والسماء هنا المكان المرتفع عن الأرض والبعيد عنها حسب تقدير الله لتلك الأفلاك والمسارات وسير الكواكب والنجوم في مساراتها وطرقها التي قدرها الله لها في هذا الكون الواسع والفضاء الهائل واستمرارها في حركة دائبة ما دامت الحياة على هذه الأرض إلى أن تقوم الساعة وتُكشطَ السماءُ وتقع الآيات التي قبل ذلك كما جاء في سورة التكوير والانفطار والانشقاق وغيرها من السور والأحاديث النبوية.

وقد جاء أيضًا في آيات أخرى ربْطُهما بالليل والنهار واختلافهما وسلْخُهما وتكويرُهما وغير ذلك من التعبير القرآني الفريد ما دامت الحياة مستمرة في الدنيا، ومنها: ذِكْرُ السَّكَنِ في الليل وأنها لا تهدأ الأعصاب إلا في الليل والظلام ومنها أعصاب البصر، وكان التعبير بالسكن وليس بالنوم فلم يقل: (بليلٍ تنامون فيه)، وإنما قال: بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ، النوم المقترن بالسكن والهدوء لهذه الأعصاب، لذا أذكر الآيات كما هي ليزداد المؤمن إيمانًا، وحتى يرتبط ويربط الخبراءُ من المسلمين هذه الآيات العظيمة ودلالاتها الدقيقة بين الذي تعلَّموه ويعلِّمونه لغيرهم بأسلوب مجرد عن الإيمان وعدم ربط ذلك بما ورد في القرآن الكريم، وإلا لو تمَّ التعلم والتعليم بما ورد في القرآن والسنة لاستفادوا هم أنفسهم في كثير من أبحاثهم وعلومهم ومعارفهم، وعلموا أن ذلك موجود في قرآنهم بعبارات دقيقة تَحلُّ جميع إشكالاتهم وتوضّح أن كل تلك المعارف والعلوم التي تعلموها قد سبقهم الإسلام إليها، فاستفادتهم هم أولاً ثم من يعلمونهم ويربطونهم بالخالق جل جلاله، كذلك ليبينوا لغير المسلمين عظمة هذا الدين الإسلامي، وشموله لجميع العلوم والمعارف وأنهم قد سُبقوا إلى ذلك كما قال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38].

ولنتأمل هذه الآيات كاملة ونتدبر ما ورد فيها كلمةً كلمةً وترابطها العجيب والتعبير الدقيق فيها، قال تعالى: فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [الأنعام: 96، 97]، إذًا فالمسلمون يعلمون هذا بنص القرآن الكريم في الآيات التي سبق ذكرها وفي غيرها، ومنها قول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ [غافر: 61]، وقوله عز وجل: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النمل: 86]، وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6]، وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [لقمان: 29]، وقال تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [فاطر: 13-17].

وأوردت هذه الآيات المترابطة التي تدل المسلم على صفاء العقيدة ووجوب التزام التوحيد والتوكل على الله جل جلاله وإفراده بالعبادة والألوهية والأسماء والصفات والبعد عن الشرك والمشركين حيث لا ينفعون في الدنيا ولا في الآخرة ولا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم مقدار ما يكون على نَوَاةِ التَّمْرِ مِنْ غِلافٍ شَفَّافٍ أو خَيْطٍ صغيرٍ أو نُقْرَةٍ، وهو ما تمَّ التعبير عنها في القرآن الكريم بالقِطْمِيرِ والفَتِيلِ والنَّقِيرِ في عدة مواضع من سور القرآن وجاءت أيضًا في سورة النساء: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: 49]، وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً [النساء: 77]، فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا [النساء: 53].

فهذا الترابط العجيب والتذكير في هذه الآيات لو أخذه المسلم وتدبره وتفكر فيه لازداد إيمانه وارتبط بخالقه جل جلاله وتعالى سلطانه، فكيف به إذا بدأ بالآيات من أول سورة فاطر إلى آخرها؟! وكذلك القرآن كله ففيه من الآيات التي لو أنزلت على جبل لكان خاشعًا متذللاً لله رب العالمين.

أعود لذكر بعض الآيات: قال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [الزمر: 5]، ولنتدبر هذه الآيات وترابطها العجيب والتذكير بوحدانية الله جل جلاله والخشوع له وعبادته وحده لا شريك له والبعد عن الكفر والكافرين وطرقهم ومسالكهم وأخلاقهم وتصرفاتهم البعيدة عن الإسلام التي لا يخفى على الله منها شيء وإنما هو الإمهال لهم حتى يأتي يوم القيامة يوم الجزاء والحساب، قال عز وجل: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ [فصلت: 37-43].

وأكتفي بما ذكرته من الآيات؛ لأن المقام لا يتسع لذكر البقية البالغ عشرات الآيات في هذه المعاني المتعددة، ومنها الخسوف والكسوف.

إذًا فالمسلمون يعلمون ذلك وسبب حدوثه وأنه ليس من علم الغيب في شيء، بل هو من باب علم الحساب الذي علمه الله بني آدم من آلاف السنين، قال تعالى: عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5]، وقال عز وجل: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء: 85]. ولعلماء المسلمين باعٌ طويلٌ في هذا في الماضي والحاضر حيث ألّفوا المؤلفات وكتبوا عن ذلك، ومنهم من له مجلدات مدعمة بالدليل من القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولكنه لما حصل الخلط والدمج بين هذا العلم وبين استغلال المنجمين والسحرة والمشعوذين لعقول الناس وسذاجتهم منذ القديم حتى عصرنا هذا كان التخوف من أعمال السحرة والمشعوذين لأنهم يعتمدون في أعمالهم على علم النجوم، ونتيجة لذلك كان سوء الفهم والخلط في معرفة زمن حصول الكسوف أو الخسوف ومدّته ومكانه، وهل هو من علم الغيب أو من علم الحساب؟ فهو من علم الحساب لا علاقة له بعلم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، والإنسان عدو لما يجهل، قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59]، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34].

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد لله ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

أما بعد: فالناس لما اعتادوا كرّ الجديدين ينسون جدّتهما المتكررة فلا يردعهم مطلع الشمس ولا مغيبها ولا يهزّهم طلوع النهار وإقبال الليل إلا نادرًا، ولا يتدبرون ما في تواليهما من رحمة بهم وإنقاذ لهم من البِلَى والأمراض والآفات والتعطل والبوار والملل والسآمة والهمود، فالله جل جلاله يوقظ العباد من همود الإِلْف والعادة ويلفت نظرهم إلى تدبر الكون من حولهم ومشاهده الهائلة العظيمة وإلى منَّتِه عزَّ وجلَّ بتعاقب الليل والنهار الملائم للتكوين البشري وعدم طولهما عما هما عليه في الفصول الأربعة، مع أن الناس يحنّون إلى الليل حين يطول النهار بعض ساعات في الصيف ويحتاجون إلى فترة الليل لتجديد الطاقة والراحة من عناء النهار، فكيف لو طال عليهم النهار عما هو عليه، فالمؤمن يتفكر في ذلك وغيره ويتدبر قول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [القصص: 71-73].

فالمسلمون عندما يكون الكسوف والخسوف يفزعون إلى الصلاة اقتداءً برسولهم محمد الذي أبطل عادة الجاهلية واعتقادهم بأنه لا يحصل ذلك إلا لحياة عظيم أو موته؛ حيث كسفت الشمس في عهد النبي في آخر حياته في التاسع والعشرين من شهر شوال في السنة العاشرة من الهجرة في يوم موت ابنه إبراهيم رضي الله عنه، فقام خطيبًا في الناس بعد أن صلى بالناس صلاة الكسوف التي تختلف عن الصلوات المفروضة في زيادة الركوع الثاني في الركعتين والقراءة والطول، فكان مما قاله : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة وإلى ذكر الله ودعائه واستغفاره)).

فهكذا يكون المؤمنون من المسلمين حيث يفزعون إلى الصلاة عند هذا وغيره إذا نزل بهم أمرٌ من الأمور كما فعل رسول الله ، وبذلك يزدادون إيمانًا مع إيمانهم، ليس خوفًا من انتهاء العالم والحياة على هذه الأرض كما نُقل عبر الوسائل المختلفة من اعتقاد بعض الفئات الضالة من الكافرين حيث أقدم بعضهم على قتل أولاده وزوجته ثم انتحر هو، أو الذين قاموا ببيع ممتلكاتهم حيث روّج المنجمون ذلك ورسخ في عقولهم وأفئدتهم نهاية العالم كما يقولون أو القيامة حسب اعتقاد المسلمين والتي لا تكون إلا بعد علامات وسطى وكبرى وفي يوم الجمعة وبعد مدةٍ اللهُ يعلمها، أما الفاسقون والمنافقون وضعاف الإيمان من المسلمين فقد تبلَّدَتْ أحاسِيسُهم خاصة لمَّا أُعْطِي الكسوفُ هالةً إعلاميةً قبل حلول وقته وعَمَدَ بعضهم إلى اللهو واللعب والأغاني، وأقلّهم سوءًا من جلس يتابع الفضائيات، واغْتَرُّوا بالغرب وقلَّدوهم حيث عمد كثير منهم إلى إقامة حفلات الأغاني واللهو والعبث في تجمعات عامة منقولة عبر القنوات، وهذا هو الذي يحصل ويُشاهد عبر القنوات من تلك الفئات.

ومن باب الشيء بالشيء يذكر ومن باب القول للمحسن أحسنت فقد أحسن إعلام هذا البلد الطيب بنقل شعائر صلاة الكسوف من الحرم المكي الشريف والمسجد النبوي، وقد أحسنت الجهات التي استقبلت الناس في المراصد المعدة لذلك بإقامة المحاضرات والتوعية وبعدها أقيمت صلاة الكسوف، وكذلك التوعية بأضرار النظر إلى الشمس مباشرة حال الكسوف حيث لا يعلمه كثير من الناس، وإننا لنرجو المزيد من ربط الناس بالله عز وجل وبيان أن ذلك موجود في القرآن والسنة بدلاً من عَزْوِه إلى علم البشر ومخترعاتهم ونسبته إلى علمهم القاصر لكي يزداد الناس إيمانًا وعلمًا ومعرفة بقدرة الله عز وجل وإحكامه لهذا الخلق البديع في هذا الكون الهائل، ولكي يزدادوا تدبرًا وتأملاً وتفكرًا في عظيم مخلوقات الله ويدعوا الناس لذلك حيث دعاهم رب العزة والجلال في كثير من آيات القرآن الكريم بدلاً من الجهل الجاثم على كثير من النفوس والمخيم على كثير من العقول، الجهل الذي استغله المروجون ممن له بصيص من هذا العلم الإلهي الذي علمه الله للناس واستغله المنجمون والسحرة والمشعوذون مع أن ذلك مذكور في القرآن الكريم وفي عبارات دقيقة يجهلها كثير من المسلمين حتى الحساب الشمسي والقمري واعتماد ذلك في العبادات والحياة المعيشية سواء بالنسبة للشمس، أو للقمر الذي هو المعتمد في ثبوت ودخول الشهر وعليه يتم الصيام والحج والمداينة وعدد الأيام والشهور في الكفارات وعدة المرأة عند طلاقها أو وفاة زوجها وهكذا، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189]، وعن الحساب بالقمر قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس: 5]، وعن الحساب بالشمس قال تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً [الإسراء: 12]، وفي الحساب بهما والأخذ بذلك وردت أيضًا عدة آيات لإثبات الحساب بهما كما قال تعالى: الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]، وكما قال عز وجل: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا [الأنعام: 96].

وإلى جانب هذه الآيات والآيات السابق ذكرها في الخطبة أسوق هذه الآيات ليتدبرها المشتغلون بعلم الفلك من المسلمين ويعلموا أن كل علومهم التي تعلموها موجودة في القرآن الكريم، وعليهم أنْ يَعُوا معانيَها ومقاصدَها من حيث الإفراد والتثنية والجمع بهذه الصفة والإيجاز ودقة التعبير؛ ليعلم المتعالمون مدى جهلهم بالحقائق العلمية المذكورة في القرآن الكريم بأوجز العبارات وأخصرها وأقصرها، وعليهم أن يرجعوا إلى تفسير علماء المسلمين الأولين ليعلموا أن الله قد أنار بصائرهم لمعرفة مدلولات تلك الآيات مع عدم وجود المخترعات الحديثة التي هي الآن موجودة بين أيدي خبراء الفلك والمشتغلين به ولا أقول: علماء الفلك حيث لم يصلوا إلى هذه الدرجة لأنهم مقلّدون ويردّدون عبارات غيرهم ويخطئون ويصيبون في الحسابات، وهذا مشاهد عند إثبات دخول رمضان ونهايته والحج وكيف يكون التباين والاختلاف بينهم عند ولادة القمر وغروبه في أول ليلة من الشهر وهكذا.

قال تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل: 9]، وقال عز وجل: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17]، وقال جل جلاله: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ [المعارج: 40، 41].

فعلى المشتغلين بالحساب أن يتأملوا هذه الألفاظ ومقاصدها من حيث الإفراد لمعرفة جنس المشرق والمغرب للشمس والقمر، والتثنية الدالة على نهاية الطرفين في المشرق والمغرب من الناحيتين الشمالية والجنوبية، والجمع الذي يدل على اختلاف المطالع والمنازل والبروج والتنقل يوميًا في ذلك من أقصى نقطة في الشمال إلى الجنوب والعكس في الشروق والغروب، وليعلم المشتغلون بالحساب وعلم الفلك بأنهم لم يأتوا بجديد من حيث المبدأ والحقائق ومنها ما تمّ ذكره سابقًا دون توسع، وكذلك الحساب القمري المسمّى بالهجري والشمسي المتعارف عليه أنه ميلادي فهو موجود بكل جلاء ووضوح في آية مكونة من سبع كلمات نزلت على رسول الله قبل أكثر من ألف وأربعمائة وأربعين سنة من الآن حيث الآية مكية أي: نزلت قبل هجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة النبوية، وقد جاءت في سورة الكهف للإخبار عن المدة التي مكثها الفتية المؤمنون في الكهف حيث لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية أي: ما يعادل ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، أي: أن الحساب الدقيق والفارق الواضح الذي لا يخالجه أي شك وهو المعمول به لدى أهل الحساب بأن كل مائة سنة شمسية ميلادية تعادل مائة وثلاث سنين قمرية هجرية أي: في كل مائة زيادة ثلاث سنين كما جاء في قول الله جل جلاله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف: 25]. فسبحان الله العظيم الذي أتقن كل شيء وهو على كل شيء قدير!

ولا يُفهم من هذا أني أدعو إلى الأخذ بالحساب على إطلاقه، ولكن للتقريب واعتماد الرؤية الشرعية في بداية كل شهر لحاجة المسلمين إليها في عباداتهم مثل الصوم والحج، أما مواقيت الصلاة فهي عن طريق الشمس كما ورد بذلك الخبر عن سيد البشر محمد ، لذلك لا أستطرد في هذا وإنما هو التذكير للجميع بما ورد في شريعتنا الغراء، والله الهادي إلى سواء السبيل.

قال تعالى: قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [يونس: 101]، وقال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191]، وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 20، 21]، رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه: 50]، سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى: 1-3]، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ [النمل: 88]، وقال تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر: 57، 58].

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً