أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي رسولنا محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بذكره وعلَّق الفلاح في الدنيا والآخرة بالمداومة على ذلك والإكثار منه، وقد ورد ذلك كثيرًا في القرآن الكريم وفي سنة رسول الله ، قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ ٱلَّذِى يُصَلّى عَلَيْكُمْ وَمَلَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مّنَ ٱلظُّلُمَـٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 41-42]، وقال تعالى: ٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ ٱلْجَهْرِ مِنَ ٱلْقَوْلِ بِٱلْغُدُوّ وَٱلآصَالِ وَلاَ تَكُنْ مّنَ ٱلْغَـٰفِلِينَ [الأعراف: 205]، وقال عز وجل: وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]. وأثنى سبحانه على عباده المسلمين والمسلمات من الجنسين الذكور والإناث، وفي نهاية الآية الكريمة قال تعالى: وَٱلذاكِرِينَ ٱللَّهَ كَثِيرًا وَٱلذاكِرٰتِ أَعَدَّ ٱللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب: 35]. فهنا وعدهم أحسن الجزاء على ذكرهم له تعالى كثيرًا، كما توعد سبحانه في المقابل مَنْ لَهَا عن ذكره بأشدّ الوعيد فقال جل وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوٰلُكُمْ وَلاَ أَوْلَـٰدُكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [المنافقون: 9].
إن ذكر الله تعالى أكبر من كل شيء، فبعد أن ذكر إقامة الصلاة أخبر تعالى بأن المقصود من العبادات والطاعات على اختلاف أنواعها هو إقامة ذكره تعالى: ٱتْلُ مَا أُوْحِىَ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاء وَٱلْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ [العنكبوت: 45].
ولو تتبعنا الآيات الواردة في الذكر عمومًا لطال بنا المقام حيث المقصود هنا هو إثبات الذكر عقب العبادة بأنه أمر مطلوب ومندوب، فعلى المسلم أن لاَّ يغفله وأن لاَّ يتهاون به، وخاصة بعد الصلوات، وهو موضوع خطبتنا هذه، فالدليل على الذكر في ختام الصيام قوله تعالى بعد ذكر الصوم: وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة: 185]، وفي ختام الحج قوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَـٰسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]، والذكر ختام الصلاة وبعد الانتهاء منها قول الله تعالى: وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَـٰرَ ٱلسُّجُودِ [ق: 40]. فالذكر يختم به المسلمُ صلاتَه حتى في حالة الحرب مع العدو بعد صلاة الخوف على أي حال يكون عليه قائمًا أو قاعدًا أو على جنب، وعند الاطمئنان عليه أن يقيم الصلاة حق الإقامة، ومنها ذكره سبحانه وتعالى، فقال عز وجل بعد ذكره صلاة الخوف حال الحرب مع العدو: فَإِذَا قَضَيْتُمُ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ قِيَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا ٱطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰبًا مَّوْقُوتًا [النساء: 103]. وأمر الله المؤمنين المقاتلين بذكره عز وجل كثيرًا عند لقاء العدو فقال تعالى: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال: 45]. والذكر أيضًا هو ختام صلاة الجمعة فقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَوٰةُ فَٱنتَشِرُواْ فِى ٱلأرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة: 10]. فذكر الله تعالى عقب الصلاة المفروضة مطلوب من المسلم أن يفعله ليحوز بذلك على الأجر العظيم في الوقت الذي يحرص الشيطان الرجيم على تذكير المصلي حاجته واستعجاله له لِيُفَوِّتَ عليه الفرصة ليكون المسلم هو الخاسر في هذه الحال في الظاهر والشيطان هو الرابح مع أنه صاحب الخسران المبين لأنه استطاع أن يبعده عن ذكر الله تعالى.
وأورد بعض الأحاديث في الأذكار المشروعة عقب الصلوات ليحافظ عليها المسلم من أجل أن يضيف رصيدًا عظيمًا من الحسنات إلى أعماله الصالحة في كل يوم ليغفر الله ذنوبه ويرفع درجته في الجنة إن شاء الله، عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: ((اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام))، قيل للأوزاعي وهو أحد رواة الحديث: كيف الاستغفار؟ قال: أَسْتَغْفِرُ اللهَ، أستغفر الله، أستغفر الله.
وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كان رسول الله إذا فرغ من الصلاة وسلم قال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)).
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: كان رسول الله يقول دبر كل صلاة حين يسلم: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)). قال ابن الزبير: وكان رسول الله يهلل بهن دبر كل صلاة.
وعن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله قال: ((مُعَقِّبَاتٌ لا يخيب قائلهن أو فاعلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاثًا وثلاثين تسبيحة، وثلاثًا وثلاثين تحميدة، وأربعًا وثلاثين تكبيرة)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين تسبيحة وحمد الله ثلاثًا وثلاثين وكبر الله ثلاثًا وثلاثين وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير غُفِرَتْ خطاياه وإن كانت مثلَ زبد البحر)).
وقد وردت عدة أحاديث في التسبيح والتحميد والتكبير بروايات عِدَّة وعَدَدٍ مُغَايِرٍ فيعمل بما تيسر منها، وكذلك العمل بها ولو مرة، واتباع الأكمل في العدد هو الأفضل عندما يكون الخبر في ذلك صحيحًا.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من قرأ آية الكرسي دبرَ كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت))، وعن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي قال: ((من قرأ آية الكرسي في دُبرِ الصلاة المكتوبة كان في ذمة الله إلى الصلاة الأخرى)).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله أن أقرأ بالمعوذتين دُبرَ كل صلاة. وفي رواية لأحمد وأبي داود: بالمعوذات.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله أخذ بيده يومًا ثم قال: ((يا معاذ، والله إني لأحبك))، فقال له معاذ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إني لأحبك، قال: ((أوصيك يا معاذ، لا تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) رواه أبو داود والنسائي واللفظ له وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم وقال: "صحيح على شرط الشيخين"
هذا الذكر للصلوات الخمس، ولكن هناك زيادة في صلاتَي الفجر والمغرب وهي قراءة المعوذات ثلاث مرات بدلاً من مرة واحدة، وقَوْل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير عشر مرات، وقول: اللهم أجرني من النار اللهم إني أسألك الجنة ثلاث أو سبع مرات بعد صلاتي الفجر والمغرب كما ورد تحديدها في الحديث التالي ذكره، أو قولها في غير هذين الوقتين كما ورد في إطلاق نص الحديث:
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((من قال قبل أن ينصرف ويثني رجليه من صلاة المغرب والصبح: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كتب له بكل واحدة عشر حسنات، ومحيت عنه عشر سيئات، ورفع عشر درجات، وكانت له حِرْزًا من كل مكروه، وحِرْزًا من الشيطان الرجيم، ولم يَحِلَّ لذنب أن يدركه إلا الشرك، وكان من أفضل الناس عملاً إلا رجل يفضله يقول أفضل مما قال)).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار: يا رب، إن عبدك فلانًا استجار مني فأجره، ولا سأل عبد الجنة سبع مرات إلا قالت الجنة: يا رب، إن عبدك فلانًا سألني فأدخله الجنة)) رواه أبو يعلى بإسناد على شرط البخاري ومسلم. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار)) رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: "صحيح الإسناد". وورد من حديث مسلم بن الحارث أنّ رسول الله قال: ((إذا انْصَرَفْتَ من صلاة المغرب فقل: اللهم أجرني من النار سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك ثم مِتَّ من ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك، فإنك إن مِتَّ من يومك كتب لك جوار منها)).
وورد من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي إذا فرغ من صلاته يقول: ((سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين)). وهذا الذكر أيضًا وارد في ختام المجلس الذي يذكر الله تعالى فيه وهو عام، ويكون بهذا خاتمًا وطابعًا على الذكر بعد الصلاة إن شاء الله.
|