أمّا بَعدُ: فإنّ الوَصيَّةَ المبذولَةَ لي ولَكم ـ عِبادَ الله ـ هي تقوَى الله سُبحانَه ومُراقبتُه فيما نَأتي وفيمَا نذَر، فبالتَّقوى تحصُل الولايَةُ وتزَفُّ البُشرَى، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62-64].
أيّها المسلِمون، إنّ من أعظمِ الفِتن التي تُعاني منها جملةٌ مِنَ المجتمعاتِ المسلِمة في عَصرِنا الحَاضِر هِي فتنة غِيابِ الحقّ ولَبسه بالباطل وفقدان هيمَنَة المرجعيّة الصّريحة الصَّحيحة في إبداءِ الحقّ ونُصرَتِه أمامَ الباطلِ وإظهارِه على الوجهِ الذي أنزلَه الله على رسولِه دونَ فُتونٍ أو تردُّدٍ من إملاقٍ أو خَشية إملاقٍ أو تأويلاتٍ غلَبت عليهَا شُبهاتٌ طاغِيَة أو شَهَواتٌ دَاعَّة، مما يجعَلُها سببًا رئِيسًا في تعرُّضِ صُورةِ الإسلاَمِ وجَوهَرهِ في المجتَمَعاتِ لخطَرَين داهمين:
أحدهما: خطَر إفسادٍ لِلإسلامِ، يُشوِّش قِيَمه ومَفاهيمَه الثَّابتةَ بإدخال الزَّيفِ علَى الصَّحيح والغَريب الدخيل على المكِين الأصيل، حتى يُغلَبَ الناس على أمرِهم في هذَا الفهمِ المقلوبِ، ويبقَى الأمَل في نفوسِهم قائمًا في أَن تجيءَ فرصَةٌ سانحة تردّ الحقَّ إلى نصابه، وهُم في أثناءِ ذلك التَّرقُّب يكونون قد أُشرِبوا في قلوبهم الاعتقادَ الفاسدَ بأنّ ما يَفعَلونه من هذا البُعدِ والقصورِ في التديُّن والخَلط بين الزَّينِ والشَّين هو الإسلامُ بعَينِه، فإذا ما قامَت صَيحَاتٌ تصحِيحيّة تدعوهم إلى الرجوعِ إلى المنهج الحقّ والتمسُّك بالشِّرعة الخالدة كما أنزلها الله جلّ وعلا أنكَروا عليهم ما يدعون إليه، واتَّهَموا الناصِحِين بالرَّجعية والجمودِ والعَضِّ على ظاهِرِ النّصوص دون روحِها وأَغوارِها، كَذا يزعُمُ دعاةُ التلبيس والتَّدلِيس، ولسانُ حالهم عند نُصحِ النَّاصحين ينطق بقول الله جلّ وعلا: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة: 11، 12].
ويؤكِّد كلامَنا هذا مَقولةُ ابنِ مَسعود رضي الله عنه التي يقول فيها: (كيفَ بِكم إذا لبِسَتكم فتنةٌ يربُو فيها الصغير، ويهرمُ فيها الكبير، وتُتَّخَذ سُنّة، فإن غُيِّرت يومًا قيل: هذا مُنكَر)، قالوا: ومتى ذلك؟ قال: (إذا قلَّت أمناؤكم، وكثُرت أُمراؤكم، وقلَّت فُقهاؤكم، وكثُرت قُرّاؤكم، وتُفُقِّه في غيرِ الدّين، والتُمِسَت الدنيا بعَمَل الآخرة).
وأمّا الخطر الثاني ـ عبادَ الله ـ فهو أنَّ هذا التَّلبيسَ والتضليلَ ينتهي بالمسلمين إلى الفُرقةِ التي يَصعُب معها الاجتماع؛ إذ كلُّ طائفةٍ سَتزعم أنَّ لها منهجَها الخاصَّ بها، فتتنوَّع الانتماءات إلى الإسلام في صُورٍ يُغايِر بعضُها بعضًا كالخطوطِ الممتدّة المتوازيةِ التي يستحيل معها الالتِقاءُ، حتى إنَّنا لنَرى بسَبَبِ مثلِ ذلك إسلامًا شماليًّا وإسلامًا جنوبيًّا وإسلامًا شرقيًّا وآخر غربيًّا، وإنما الإسلام شِرعةٌ واحدةٌ وصِبغَة ما بعدَها صِبغة، ولكنّه التضليل والتلبيس الذي يفعَل بالمجتمعاتِ ما لا تَفعَلُه الجيوشُ العاتِيَة.
إنَّ المجتمعَ المسلِمَ التَّقيّ النَّقِيّ هو ذلكم المجتمَع الذِي تسود فيه أَجواءُ النّقاء في المنهَج والوُضوح في الهَدَف وسلامة السّريرة في الحكمِ والفتوَى والتربِيَة والتعليم والأحوال الشخصِيَّة والمعاملات والشُّموليّة في الالتزامِ بالإسلامِ على مَنأى وتخوُّفٍ مِن تهميش أيٍّ من جوانِبِه التي شَرعَها الله أو الزَّجِّ بها في رُكامِ الفوضَى والمساوَمَة والتَّندِيد.
وإنّ المتتبِّعَ لِسِيَر عُصورِ الخلافاتِ الرّاشِدَة عَبرَ التَّاريخِ لَيَقطَع باليَقين أنّ تلكَ العهودَ كانَت عرِيّةً عن مزالقِ التلبيس والتضليل والخِداع والمراوَغَة في التعامُلِ مَعَ الشَّريعةِ مِن كافّةِ جوانِبِها، ولذلك حصَل لهم ما حصَل من الشَّأو الرفيع والمُلك الواسع في الدنيا، وما ذلك إلاَّ بفضلِ الله عليهم ثم بما حبَوا به أنفسَهم من الصدقِ مع اللهِ في الباطِنِ والمخبر المتَرجَم في الواقع والمظهَر، وهم مع ذلك ليسُوا أنبياءَ ولا كانوا على شريعةٍ غيرِ شَريعتِنا، وليس لهم كتابٌ غير الكِتاب الذي نقرَأ، ولا سنّةٌ غير سنَّة المصطَفَى ، ولكنَّه إيمانٌ راسخ بالله وبرسولهِ ، صدَّقَه العملُ عَلَى أرضِ الواقِعِ واستِلهامُ العِبَر مِن كِتابِ رَبهم حينَ عابَ وذمَّ من جعَل من التلبيسِ والتضليل منهجَ حياة ليخدَع بِه ربَّه ويخدَع بِه السُّذَّجَ والرّعَاعَ من بني جِنسِه، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9].
إنّ كتابَ اللهِ جلّ وعلا مَليءٌ بالآياتِ الذامَّةِ لممتَهِني التضليل والتلبِيس، إمّا بنصِّ الكلِمة نفسِها أو بمشتقَّاتها ومعانيها، فقد عَابَ الباري سبحانه على بعضِ أهلِ الكتابِ مخادعةَ أقوامِهم وشُعوبهم حينما يدُسّون في شريعتِهم ما لَيسَ مِنها لتلقَى الرواجَ والانتشارَ في صفوفِهم، وليَظهَروا لهم بمظهَرِ المصحِّح المشفِق، وذلك حينما قالَ الله عَنهُم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة: 78، 79]، وَقَالَ في مَوضِعٍ آخَر: وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 78]، ومِن ذلِكَ قولُ الله عَنهُم: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 42]، ويُؤكِّد هَذَا الذَّمَّ بقَولِه في موضعٍ آخَر: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [آل عمران: 71].
إنّه التَّدلِيسُ والمراوغةُ والتَّلبيسُ والخِداع الذي يُردِي بالمجتمعاتِ ويُهلِكها عِندما يدبُّ في صُفوفِها أو يموج فيها كمَوجِ البَحرِ، وذلك من صِفاتِ الأمّة الغضبيَّةِ والأمّة الضَّالّة.
أيّها المسلمون، التَّلبيسُ والتَّضليل هو إظهارُ الباطلِ في صورةِ الحقّ وجعلُ الشَّين زَينًا والشرِّ في صورةِ الخير، وإنَّ من المقَرَّر في هذا الأمرِ الخطير أنّ من يُعاقر لَبسَ الحقِّ بالباطلِ يجِد نفسَه مضطرًّا لأن يكتُمَ الحقَّ الذي يبيِّن أنه باطلٌ؛ إذ لَو بيَّنه لزالَ الباطل الذي كان يُعاقِرُه ويلبِس به الحقَّ، وهذا أمرٌ يَغيبُ عن أذهانِ كثيرٍ من النّاس في التعامُل مع المطَارَحاتِ التَّغريبيّة والمحاولات التسلُّليّة بدعوَى التجديد والتّصحيح والنهوضِ بالمجتَمَع إلى مستوَى مُسايرةِ الرَّكب واستِجلاب كلِّ ما يخدِم ذلك من تأويلاتٍ وشبهات ولَيٍّ لأعناقِ النّصوص الواضحات، يقول بعضُ السلف: "إنَّ الحقَّ إذا لُبس بالباطل يكون فاعلُه قد أظهَرَ الباطلَ في صورةِ الحقّ، وتكلّم بلفظٍ له مَعنَيَان: مَعنى صحيح ومعنى بَاطِل، فيتوهَّم السامعُ أنه أرادَ المعنى الصّحيح، ومُرادُه في الحقيقةِ هو المعنى الباطِل".
ثم اعلَموا ـ يا رَعَاكم الله ـ أنّ للتّدلِيسِ والتلبيس وسائلَ متعدِّدة، فإنّ مُواقِعي ذلكم لا يَلزَمون طريقًا واحدةً، كما أنهم في الوقتِ نفسِه ربما لا يُتقِنون كلّ طرُقِه، ولِذَلك قَد يلجَأ بعضُهم إلى التأويلِ الفاسدِ واتّباع المتشابِهِ مِنَ النّصوصِ الشرعيّة التي تخدِم مصالحَهم وتوجُّهاتهم، فيقعون في لبسِ الحقّ بالباطل، وقد ذمّ الله مَن هذه صفتُه بقولِهِ: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ [آل عِمرَان: 7].
وهَذا المسلَك الخطيرُ ـ عبادَ الله ـ لا يمايِز بين أهلِ الأهواءِ وأصحابِ الزّيغ والشبهات فحَسب، بل يمتدّ أثرُه إلى كلّ من آثرَ الدنيا على الآخرة في عِلمِه وحُكمه وتعامُله كائِنًا مَن كَانَ، يقولُ ابنُ القيِّم رحمه الله كلامًا مَفادُه أنّ من آثرَ الدنيا من أهلِ العِلمِ واستحبَّها فلا بدَّ أن يقولَ على الله غيرَ الحقِّ في فَتواه وحُكمِه وفي خبرِه وإلزامه؛ لأنّ أحكَامَ الربّ سبحانه كَثيرًا ما تأتي على خِلافِ أغراضِ النّاس، ولا سيَّما أهل الرّياسَة، فإذا كان العالم والحاكِم مُحبّين للرِّياسة متّبِعين للشّهوات لم يتمَّ لهما ذلك إلا بدَفعِ ما يضادّه من الحقِّ، ولا سيّما إذا قامَت له شبهةٌ، فتتَّفِق الشّبهة والشّهوةُ ويثور الهوَى، فيختَفي الصوابُ وينطمِسُ وجه الحقّ. انتهى كلامه رحمه الله.
فإذَا كان هذا الأثرُ يبلُغ بالعَالم والحاكِم هذا المبلَغَ فما ظنُّكم بالصَّحَفيّ والمفكِّر والسِّياسيّ والمنظِّر إذًا؟! ألاَ إنَّ الأثرَ أبلَغ والهوّة أشقّ، ولاَ حَولَ ولا قوّةَ إلا بالله.
ثم إنّ أهلَ التلبيس والتَّدليس قد يسلُكون مسلكًا آخَر هو من الخطورةِ بمكان، وذلك من خِلالِ كِتمانِ الحقِّ وإخفائه وعدَم إظهارِه للنَّاسِ وإن لم يَلبسوه بالباطل، ثم هُم يُسوِّغون الحجَجَ والشُبهَ لإخفائه وخطورة إظهاره، ويضخِّمون المفاسدَ المترتِّبةَ على إظهَاره في مقابلِ تهوينِ المصالحِ المترتّبة عَليه؛ لأنّ لَبس الحقِّ بالباطل وكتمانَ الحقّ أمران متلازِمان، يقول شيخ الإسلام ابن تَيمِية رحمه الله: "مَن كتم الحقَّ احتاجَ أن يقيمَ موضعَه باطلاً، فيلَبس الحقَّ بالباطل، ولهذا كان كلُّ من كَتَم من أهل الكتابِ ما أنزَلَ الله فلا بدَّ أن يُظهرَ باطلاً".
وقد توعّدَ الله أصحابَ هذا المسلكِ بقولِه: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة: 159]، وقد جاءَ في الصّحيحِ من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه قوله: (لولاَ آيةٌ في كِتابِ الله ما حَدّثتُ أحدًا شيئًا) وقرأ هذه الآية، وجَاءَ في المسنَدِ من طرقٍ متعدّدَة مرفوعًا إلى النبيِّ : ((من سُئلَ عن علمٍ فكتمَه أُلجم يومَ القيامة بلجامٍ من نار)).
فالواجبُ علينا ـ عبادَ الله ـ التَّسليمُ بشريعةِ الله وأنها شَريعةٌ خالدة، لا لَبسَ فيها ولا زَيفَ، وهي صالحةٌ لكلِّ زمانٍ وَمَكان، وأن لاَ عِزّةَ للأمة إلاّ بها، وأنَّ الخذلاَنَ والخسارَ والبَوارَ مَرهون بمدَى بُعدِ المسلِمين عنها ونأيِهم عن سَبِيلِها.
وعلينا ـ معاشرَ المسلمين ـ أن لا نَغتَرَّ بالأطروحاتِ المزوّقةِ والتلبيسَاتِ المنمَّقة في تهميشِ الشَّريعة، كما أنه ينبَغِي أن يكونَ موقفُ المسلم أمامَ أعاصير التضليلِ وزوابعِ التلبيسِ والتّضليل أن يقول مَا امتدَحَ الله به الرّاسخين في العِلم الذين يقولون أمامَ هذه الفتنِ المضلِّلة والتشكيك بشريعةِ الله: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ [آل عمران: 7].
بارَكَ الله لي ولَكم في القُرآنِ العَظيم، ونَفَعَني وإيّاكُم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذّكر الحَكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
|