أما بعد: فيقول رسول الله : ((قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم، وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتّها بتته)) أخرجه أحمد وأبو داود عن عبد الرحمن بن عوف.
الرحم ـ يا عباد الله ـ هذه الوشيجة وهذه الصلة العظيمة التي جعلها الله سبحانه مدعاة لتواصل الناس وتراحمهم وتزاورهم، هذه العلاقة التي تربط بين كل مجموعة من الناس فيما بينهم، ثم تربطهم جميعًا برباطٍ واحد وهو انتماؤهم لآدم وحواء، هذه الرحم توعّد الله سبحانه قاطعها بوعيد شديد، فاحذروا هذا الوعيد أن يصيبكم، واحذروا هذا النذير أن يشملكم.
كنا في الجمعة الماضية نبحث في صلةٍ أوسع من الرحم وهي التكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع الإسلامي، والذي لا قوام لمجتمعٍ بدونه، والآن نحن في دائرةٍ أضيق هي صلة الرحم ورابطة القرابة، ولعلنا في المستقبل إذا أذن الله سبحانه نتحدث عن صلة أضيق هي العلاقات الزوجية وحقوق الزوجين.
اعلموا ـ عباد الله ـ أن الرحم تناشدكم وتناديكم أن لا تقطعوها، اعلموا أنها تبرأ إلى الله منكم وأنها تعلّقت بالعرش ـ كما ورد في الأثر ـ حتى أعطاها الله سبحانه عهدًا عظيمًا وميثاقًا غليظا، فما هذا العهد؟ وما هذا الميثاق؟ يقول فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ((إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال الله: نعم، أما ترضين أن أصِل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: ذلك لكِ))، إذًا فليحذر من كان يعلم هذا، فليحذر من قطيعة الأرحام، وليعلم من لم يكن يعلم أن الأمر جدُّ خطير وأن وراءه عذاب عسير وغضب من العزيز القدير.
أيها المسلمون، لقد أمر الله سبحانه في أكثر من آية من آيات كتابه بصلة الرحم، وأنذر المتهاون فى هذا الأمر المهم، فلا تحسبوا أن صلة الرحم أمر لنا الخيار في أن نقوم به أو نتركه. وإن كان معظمنا مقصر في هذا الواجب العظيم، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نتواصى ونذكر أنفسنا به، لقد بلغ من عظمة هذه العلاقة وأهميتها أن جعلها رسول الله شعارًا للإيمان وعلامةً من علامات المؤمن الصادق، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحم)) رواه البخاري، ولقد مدح الرحمن عز وجل واصلي الرحم في كتابه العزيز، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد: 21، 22].
هذا إنعام من الله على الذين يصلون رحِمهم وبشارةٌ عظيمة بأن العاقبة لهم والفوز من نصيبهم، ولقد بشّرهم رسول الله أيضًا في أكثر من حديث من أحاديثه الشريفة المباركة، وعدد لنا من الآثار والفوائد العظيمة في صلة الرحم ما لا يملك الإنسان أمامه إلا أن يندهش ويتساءل: أين المسلمون من هذه المنح الإلهية وهذه الفوائد الدنيوية والأخروية العظيمة التي تجلبها صلة الرحم؟! فمن ذا الذي يكره طول العمر والبركة في العمر وبسط الرزق وعمران الديار والبركة في النسل ودخول جنة رب العالمين سبحانه؟! كل هذا وغيره في صلة الرحم، يقول : ((يا أيها الناس، أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصِلوا الأرحام وصَلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام)) أخرجه أحمد والترمذي عن عبد الله بن سلام، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أنس: ((من سرّه أن يُبسط له في رزقه أو يُنسأ له في أثره فليصل رحمه))، ويقول كما في صحيح الجامع من حديث أبي سعيد: ((صدقةُ السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وفعل المعروف يقي مصارع السوء))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((صلة الرحم وحُسن الخلق وحُسن الجوار يعمُرنَ الديار ويزدن في الأعمار)) أخرجه أحمد عن عائشة، إلى غير ذلك من الأحاديث التي لو ذهبنا نستقصيها لما وسعنا المجال.
أما قطع الأرحام فإن الله ـ كما قلنا ـ توعد صاحبه بوعيد عظيم، يقول تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد: 22، 23]، ويقول سبحانه: وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [الرعد: 25]، فهل نسمع ـ يا عباد الله ـ هذا الوعيد بعقولنا؟! وهل نفرّ منه بصلة أرحامنا؟!
لقد بينت هذه الآيات القرآنية الكريمة فداحة هذا الأمر، وبينت بعض عقوباته وعواقبه، كما عددت أحاديث رسول الله عقوبات قطع الرحم وبيّنتها، فمن هذه العقوبات أن الله يقطع من قطع الرحم، ومن هذه العقوبات اللعنة، ومنها الحرمان من الجنة، ومنها تعجيل العقوبة في الدنيا قبل عقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الخزي والإبعاد لقاطع الرحم.
وإليكم هذه الأحاديث والتحذيرات النبوية، عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يدخل الجنة قاطع رحم)) متفق عليه، وقال فيما أخرجه أحمد وأبو داود من حديث أبي بكرة: ((ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم))، ويقول كما في صحيح الجامع: ((من قطع رحمًا أو حلف على يمين فاجرة رأى وبال ذلك قبل أن يموت)).
فاحذر ـ يا عبد الله ـ من قطيعة الرحم، احذر من خراب تجلبه على نفسك ومن غضب الله يحل بك، واعرف لأهلك وأقربائك حقهم الذي بينه الله سبحانه بقوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: 26]، وبينه رسول الله بقوله: ((أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك)) أخرجه الطبراني والحاكم.
بل لقد زاد إسلامنا الحنيف في المحافظة على هذه الوشيجة بأن منع من اليمين أو النذر بقطيعة الرحم، فليس للمسلم أن يحلف أو ينذر لله نذرًا بأن يقطع رحمه، فلا يمين في هذا ولا نذر، وليس مطالبًا ببر هذه اليمين ووفاء هذا النذر، يقول : ((لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب ولا في قطيعة الرحم وفيما لا تملك)) أخرجه أبو داود عن عمران بن حصين.
وأشكال صلة الرحم تختلف وتتعدد، فمنها زيارتهم وعيادتهم والدعاء لهم وإجابة دعوتهم وتوقير كبيرهم إلى غير ذلك، يقول ابن أبي جمرة كما في تحفة الأحوذي: "تكون صلة الرحم بالمال وبالعون على الحاجة وبدفع الضرر وبطلاقة الوجه وبالدعاء. والمعنى الجامع إيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر بحسب الطاقة" انتهى.
فيا أيها المسلم، ويا من ترجو رضا رب العالمين، حافظ على هذا الأدب الإسلامي الكريم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، ولا تقل: أنا لا أواصل أقربائي ولا أصل رحمي لأنهم أيضًا لا يأتون إليّ ولا يصلوني، فهذا قول غير مقبول؛ لأن صلة الرحم ليست ردًا لحقٍ قام به أولو الأرحام نحوك، بل هي واجب أنت تقوم به وتبدؤهم به وإن لم يبدأوك، بل إن صلة الرحم الحقيقية إنما تكون عندما تصل من قطعك وتزور من لا يزورك منهم، فهذه هي صلة الرحم الحقيقية التي يكابد فيها المسلم أهواءه ويجاهد نفسه، والتي يجزي الله عنها أفضل الجزاء، يقول فيما أخرجه البخاري وأحمد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((ليس الواصل بالمكافي، ولكن الواصل الذي إذا انقطعت رحمه وصلها)). هذا هو الواصل حقيقة، واصل لرحمه، وواصل إلى رحمة الله عز وجل ومغفرته، فما أحرانا ـ عباد الله ـ إلى أن نصل ما انقطع من حبال الود بيننا وبين أهلنا وذوي رحمنا.
والناس ـ إخوة الإيمان ـ في هذا الأمر صنفان: صنف مقصر في صلة الرحم، وهذا عليه أن يعالج هذا القصور ويصلح هذا الخطأ، وصنف قاطع للرحم بالكلية، فكم من ابن قاطع لأبويه، وكم من إخوة خرجوا من رحم واحد ولكن حبال الود والخير بينهم مقطوعة، بل قد تجد أخوين متقاطعين حتى إن أبناءهم لا يعرفون بعضهم، وكم وكم من جناة على الرحم، وهؤلاء كلهم على خطر كبير إن لم يتوبوا من ذلك ويصلحوه، فليعلم هؤلاء جميعا أن هذه الرحم التي يقطعونها قد أجارها الله سبحانه ووعدها بقطع من قطعها، فهل لهم طاقة بقوة الله وجبروته؟!
فاتق الله يا قاطع الرحم، واتق الرحم أن تقطعها، وعُد إلى ربك ومولاك.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
|