إن خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما أكمل بناء بيت الله الحرام بأمر الله له دعا لأهله بهذه الدعوات قائلاً: رَبّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا ٱلْبَلَدَ آمِنًا وَٱجْنُبْنِى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأصْنَامَ. فتأمل في هذه الدعوة من الخليل عليه السلام، تأمل هذه الدعوة التي دعا بها الخليل عليه السلام لأهل بيتِ الله الحرام: رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ [البقرة: 126].
دعا لهم بأمرين: أولاً: أن يجعله الله حرمًا آمنًا، وثانيًا: أن يرزقهم من الثمرات. فبدأ بالأمن قبل كل شيء؛ لأن الأمن إذا تحقّق وتمّ حصل به الخير كلّه، فبالأمن يتحقق للعباد مصالح دينهم ودنياهم، بالأمن ينالون الخيرات، يسعون في الأرض، يعملون ويجتهدون، ينتقل من هنا إلى هناك في طلب الرزق وتأمين المعيشة بتوفيق من الله، لكن هذا لا يتمّ إلا إذا تحقق الأمن، وإذا فقد الأمن ـ والعياذ بالله ـ فإن كل خير يفقد، فلا يتم للعباد أمر، لا في دينهم، ولا في دنياهم، ولهذا قال الخليل: رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَدًا آمِنًا وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرٰتِ [البقرة: 126].
أيها السلمون، إن نعم الله على الخلق كثيرة، لا تعد ولا تحصى، كما قال الله تعالى: وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱلإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ [إبراهيم: 34].
وأعظم النعم بعد الإيمان العافية والأمن، فالأمن ضدّ الخوف، الأمن طمأنينة القلب وسكينته وراحته وهدوؤه، فلا يخاف الإنسان مع الأمن على الدين، ولا على النفس، ولا على العرض، ولا على المال، ولا على الحقوق.
فالأمن أصل من أصول الحياة البشرية، لا تزدهر الحياة ولا تنمو ولا تخلو بغير الأمن. ما قيمة المال إذا فقد الأمن؟! ما طيب العيش إذا انعدم الأمن؟! كيف تنتعش مناشط الحياة بدون الأمن؟! الأمن تنبسط معه الآمال، وتطمئنّ معه النفوس على عواقب السعي والعمل، وتتعدد أنشطة البشر النافعة مع الأمن، ويتبادلون المصالح والمنافع، وتكثر الأعمال المتنوّعة التي يحتاج إليها الناس في حياتهم مع الأمن، وتدرّ الخيرات والبركات مع الأمن، وتأمن السبل، وتتّسع التجارات، وتشيد المصانع، ويزيد الحرث والنسل، وتحقن الدماء، وتحفظ الأموال والحقوق، وتتيسر الأرزاق، ويعظم العمران، وتسعد وتبتهج الحياة في جميع مجالاتها مع الأمن.
وقد امتنّ الله على الخلق بنعمةِ الأمن، وذكّرهم بهذه المنّة، ليشكروا الله عليها، وليعبدوه في ظلالها، قال الله تعالى: أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء رّزْقًا مّن لَّدُنَّا وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، وقال تعالى: فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ ٱلَّذِى أَطْعَمَهُم مّن جُوعٍ وَءامَنَهُم مّنْ خوْفٍ [قريش3، 4]. وعن عبيد الله بن محسن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
والإسلام عني أشدّ العناية باستتباب الأمن في مجتمعه، فشرع الأوامر، ونهى عن الفساد والشرور، وشرع الحدود والزواجر الرادِعة، قال تعالى: وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ [المائدة: 2]. وأخبرنا الله تعالى أن الأمن لمن عمل الصالحات واستقام على سنن الهدى وابتعد عن سبل الفساد والردى، قال تعالى: ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلاْمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام: 82]. وقد كان النبي إذا رأى الهلال قال: ((اللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، هلال خير ورشد، ربي وربك الله)).
فالأمن نعمة كبرى ومنّة من الله عظمى، إذا اختلّت نعمة الأمن أو فقدت فسدَت الحياة، وشقيت الأمم، وساءت الأحوال، وتغيرت النعم بأضدادها، فصار الخوف بدل الأمن، والجوع بدل رغد العيش، والفوضى بدل اجتماع الكلمة، والظلم والعدوان بدَل العدل والرحمة، عافانا الله بمنه وكرمه.
فاشكروا الله واحمدوه على نعمة الأمن، وعلى النعم الظاهرة والباطنة التي أسبغها عليكم، وذلك بالدوام على الطاعات والبعد عن المحرمات، فإنّ الله تعالى منّ على هذه البلاد بنعمة الأمن وغيرها حتى صارت والحمد لله مضربَ الأمثال في الأمن والاستقرار.
أيها المسلمون، والإسلام يأخذ على يد الظالم والمفسد والمعتدي على النفوس والأموال المعصومة بما يمنعه من ارتكاب الجرائم ويزجره وأمثاله عن البغي والعدوان؛ لأن الإسلام دين العدل ودين الرحمة والخير، فلا يأمر أتباعه إلاّ بما فيه الخير، ولا ينهاهم إلاّ عمّا فيه شرٌّ وضرر.
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ تكونوا من المفلحين، واعتصموا بحبل الله جميعًا يهدكم إلى صراطٍ مستقيم، وكونوا يدًا واحدة على كلّ مجرم أثيم يريد أن يزعزع أمنكم واستقراركم، ويعبث بمنجزاتكم، وينشر الفوضى في مجتمعكم، قال الله تعالى: وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء: 111]، وقال تعالى: لَّيْسَ بِأَمَـٰنِيّكُمْ وَلا أَمَانِىّ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ مَن يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا [النساء: 123].
ثم اعلموا أن من أهمّ الوسائل الموصلة إلى الراحة الأمنيّة من كافة جوانبها دون كلفة أو تجنيد وإعداد هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فإن ذلك عماد الدين الذي فضلت به أمة الإسلام على سائر الأمم، والذي يسدّ من خلاله مداخل كثيرة من مداخل الشر على العباد.
بالنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تتكاتف الجهود، ويلم الشعث، ويرأب الصدع، وتتقى أسباب الهلاك، وتدفع البلايا عن البشر. وفَقدُ ذلك أو تزعزعه من نفوس الناس يعني بداهة حلول الفوضى وانتشار اللامبالاة المولّدة للأمن السلبيّ، وهو الأمن من مكرِ الله، أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ ٱللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْقَوْمُ ٱلْخَـٰسِرُونَ [الأعراف: 99].
بالأمر والنهي ـ عباد الله ـ يصلح المجتمع، ويقوم الفرض الكفائيّ الذي يسقط التبِعَة والإثم عن بقيّة المجتمع، وإلا يتحقّق فينا قول الباري جلّ شأنه: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود: 117]، ولم يقل: (وأهلها صالحون)؛ لأن مجرّد الصلاح ليس كفيلاً بالنجاة من العقوبة الإلهية الرادعة.
الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر بين المسلمين إنما هم في الحقيقة يقومون بمهامّ الرسل في أقوامهم وذويهم، فبقدر الاستجابة لنصحهم تكون الحجة والنجاة، والعكس بالعكس، وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ حَتَّىٰ يَبْعَثَ فِى أُمّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى ٱلْقُرَىٰ إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَـٰلِمُونَ [القصص: 59].
إن انعدام النصح بين المسلمين سمة من سمات اليهود ومعرّة من معراتهم الخالدة، فقد كانت مواقفهم في الصيد يوم السبت عن طريق الحيلة مشهورة، حتى أعلن الفسقة منهم بصيده؛ فنهضت فرقة منهم ونهت عن ذلك، وجاهرت بالنهي واعتزَلت، وفرقة أخرى لم تعصِ ولم تنه، بل قالوا للناهين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [الأعراف: 164]، فلما لم يستجب العاصون أخذهم الله بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون، فنص الله على نجاة الناجين بقوله: فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء [الأعراف: 165]، وسكت عن الساكتين.
إذًا ينبغي لأفراد الناس عمومًا وأهل العلم بخاصة أن يقوموا بواجب النصح لمجتمعاتهم وأسرهم ومنتدياتهم على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية؛ حكمةً وموعظة حسنة ومجادلة بالتي هي أحسن، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|