.

اليوم م الموافق ‏11/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

حصاد الفتن

5425

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

الفتن, المسلمون في العالم, قضايا دعوية

صالح بن عبد الله بن حميد

مكة المكرمة

3/4/1428

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- تاريخ الصحوة. 2- فتنة الخلاف والتناحر الفكري. 3- وقود فتنة الغلو والتنطع في الدين. 4- مداخل الشيطان على هؤلاء الشباب الأغرار: سوء الظن بولاة الأمر، الطعن في العلماء، الغلو والتنطع. 5- نتائج الفتنة. 6- سبيل الإصلاح والتغيير. 7- مشروعات الفتن في أقطار الإسلام. 8- مفتاح السعادة والسلامة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رَحمكم الله، فالعَجَبُ لمن يأنس بالدنيا وهو مفارِقُها، وكيف يأمَن النارَ من هو وارِدُها، يلهو من يقودُه عمره إلى أجله، ويغفَل من أنفاسه تخطُو به إلى مصيرِه، بقاؤُه قائده إلى فنائه، وصحَّتُه تسوقه إلى سقَمِه، وما يُؤتى الحذِرُ إلاّ من مأمنه. فالجدَّ الجدَّ ـ رحمكم الله ـ قبلَ حلولِ المنَايا، والتوبةَ التوبةَ مِن الذنوب والخطَايا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 5، 6].

أيُّها المسلمون، قبلَ أيامٍ قلائِل عُقِد مؤتمرٌ في هذه البلاد الطيِّبَة اجتمع فيه قادَةٌ من قيادات المسلمين، كان اجتماعَ إخلاصٍ ومصارَحَة وتصميم وصلابةٍ ونقد بنّاء وقرارات فاعلة، فكانت الثمارُ كبيرةً والآثار عظيمة، فسدَّدَ الله الخُطَى وبارك في الجهودِ وهَدَى للتي هي أقومُ.

معاشِرَ الأحِبَّة، وفي سياقِ المكاشَفَةِ ومَسلَك المصارَحَة والنقدِ البنَّاء ونهجِ الإصلاح الذي تنتَهِجه هذه البلادُ بقيادتها وما يَنبَغي أن تسيرَ عليه الأمة في قياداتها ومسؤوليها ومفكِّريها، في هذا النهج وفي ذاتِ السياق وفي حديثٍ للشباب وخطابٍ لطلبة العِلم ولكلِّ مريدٍ للإصلاح وناصح لنفسِه ودينه وأمّته وبلاده وولاة أمرِه لنَرجِعْ إلى الوراءِ قليلاً بِضعَ سنين، حينما بَدَأ يَظهَر الصَّلاح على الناشِئَة والشبابِ، وفَشَت فيهم مظاهِرُ الاستقامة والمحافَظة على الدين وشعائره، فعُمرت المساجد، وأُحيِيَ ما اندرسَ من بعض السنن والفضائل، وازدحمت مجالس العلم، وزَخَرتِ المكتبات الإسلاميّة بإنتاجٍ علميّ مبارَك في شَتى فنونِ العلوم والمعارف والتخصُّصات الإسلاميّة والدعوية من مقروء ومسموع، وانتَشَرَت المراكز الإسلامية، ونمت الجهود الدعويّة، وانتشرت الأعمال الخيريّة والإغاثات المادّية، ليس في ربوع العالم الإسلاميّ فحسب، ولكن في أرجاء الدنيا كلِّها، وشعَر الناس بالخير العميمِ والأمَل العَظيم؛ صلاحٌ ونَشاط واستبشار وآثار وإنتاج، لم يكن قاصرًا على المنتسبين إلى العلوم الشرعية فحَسب، بل عمَّ العلومَ والأعمال في أهل الإسلامِ أجمعين، صلاحٌ في الرِّجال وفي النساء، وانتشرت الفضيلةُ، وظهرت مظاهِرُ الصّلاح، وتَقَارَبَت النفوس.

أيُّها المسلمون، أيُّها الأحبَّة، هذا الامتداد والانتِشار ومظاهِرُ الوئام لم يدُم طويلا, بل سُرعانَ ما تقلَّص هذا المدّ المبارك عندما ذرّ قَرن الخلافِ والتناحر الفكريّ، وارتَفَع الغلوُّ والتعصّب في صفوفِ أهل الحقّ، وادَّعَى الواحِدُ والفِئَة أنّه وحدَه صاحبُ الحقّ والمستقيمُ على السنة، فارتفعت الأصواتُ بالاتهامات والمثالب، واستُهدِف العلماءُ والحكام، وقامت دولة الإشَاعَات في كلِّ وَسيلة وفي كلِّ مجتمع وناد، في المجالس العامّة والخاصّة، وهم في ذلك على مراتِب؛ مُقِلٌّ ومُكثر، ومُظهِر ومُستَخفٍ، فأُوغِرَت الصدور على أهل العلم وولاةِ الأمور وأهلِ الصلاح، وأُسقِطَت هيبة كلِّ ذي هيبة، وتزعزع مفهومُ السّمع والطاعة والولاءِ والبراء، وسَرَت بِدَعُ التكفيرِ والتَّبدِيعِ والتفسِيقِ حتى كُفِّر الموَظَّفون والجنودُ والطلابُ، وسَرَت الوَقيعةُ في أهلِ العلم، ولا سيّما ... ورموزهم وقياداتهم، واتُّهِموا بالسَّطحيّة والجَهل بالواقِع والمداهَنَة وبيع الدين بالدنيا؛ مما لا يجوز أن يتفوَّه به عاقل، فضلا عن أن يعتقدَه مسلم ممن ينتسب إلى أهلِ العلم والدين والصلاح.

والله، لقد أسرفوا على أنفسِهم، وأسرَفوا في حقّ غَيرهم، اشتغَلوا بتتبّع العثرات وتعقُّب الأخطاءِ والزّلاّت وتضخيمِها ونشرِها، فكانت الأخطاء عندهم بِدَعًا والغلطاتُ مروقًا، وشاع فيهِم الهَجر والتَّهاجُر، جرأةٌ في التجهيلِ والتَّضليل، ناهيكم بالتّكفير والتّبديع والتّفسيق. ثم ماذا؟ ثم كانتِ الفتنةُ والفُرقة، فِتنةٌ للجاهل والعَامّة، وفرقةٌ في الأمّة، وسُخرِيّة من العدوّ وأهل الفُجور، فتنةٌ استبِيحَت فيهَا الأعراضُ ولحومُ الناس ودماؤُهم، وقودُ هذا كلِّه شبابٌ أغرار، قلَّت بضاعتُهم في علم الشَّرع، ونقَص فقههُم في الدّين، وضَعُف رأيُهُم في إدراك العواقِبِ والمآلات، شبابٌ غضٌّ دُفِع به إلى أتونِ العنف والموتِ والقَتل والإرهابِ، لا يسمَعون نصحَ ناصح، ولا يقبلون توجيهَ عالم، بل إنهم ليسفِّهون العلماءَ، ويتّهمون أهلَ الصّلاح، ويشكِّكون في المخلصين.

وفي حكم بعض الأمم: "الضجيجُ العظيم تصدِرُه الأواني الفارغة"، إنها حكمةٌ تجسِّد حقيقةَ سالكي مسالِكِ العنف والقتل الذين يملأ ضجيجُهم الدنيا وهم خلوٌ من العلم والفقه وصحيح التدين. أغرارٌ يائِسون بائسون أغلَقوا على أنفسهم المنافِذَ، وسَدّوا الأبواب، وأحكموا الإغلاقَ، لم يجعلوا لأنفسهم خياراتٍ ولا اختِيارات، ومن وسَّع الخياراتِ على نفسه كان أرشدَ وأصلح وأوفَق، توسيعُ المنافذِ والمخارج خيرٌ من طريقٍ واحِد ضيِّق يحمِل على اللّجاجة والغَضَب، ويؤزُّ الشيطانُ فيه أزًّا، فيكون صاحِبُه مغلولَ اليدين إلاّ مِن الانتقام والتشفِّي وإزهاقِ نفسِه ونفوسِ الآخرين. أغلقوا على أنفسِهم، وانطوَوا إلى فِئَتهم، لا يسمعون نصحَ ناصح، ولا يبالون بتوجيهِ موجِّه واعتراضِ معترِض. ولو تأمَّلوا بِعينِ البَصيرةِ ونَظَروا بفِقهِ الدين ومسالِكِ الورَع لوجدوا أنهم أسرى عقولٍ وفُهوم بعيدةٍ عن منهج الشَّرع وأنوارِ النبوَّة، بل إنهم أسرَى هَوى خفيٍّ لم يدَع لهم سبيلاً للتَّصحيح والمراجَعةِ.

ومِن الغريب العجيبِ ـ أيّها المسلمون ـ أن التاريخَ هنا يعيد نفسَه، فهذه البليَّة هي التي ابتُلِيَ بها الإسلامُ في أَواخِر عهدِ الصَّحابة رِضوان الله عليهم، فالإِسلامُ لم يضارَّ إلاّ بمثل أصحابِ هذه العقول والفهوم غيرِ الراشدة، أصواتٌ عالِيَة وأفعال قاتلة. إنها فتنةُ الخَوض والشغَب والإشاعاتِ والكلام في الفتن والقَدح في الأئمّة والافتيات عليهم، ضلّوا وأضلّوا، يتكلَّمون في دينِ الله بالظنِّ والخَرص، فصارُوا فتنةً للمفتونين ورُؤساءَ للجاهلين. ولقد وصَف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أسلافَهم وهو الذي أدرَكَهم ونظَرَ في مسالكهم فقال: (أتباعُ كلِّ ناعق، يميلون مع كلِّ داعٍ، لم يستضيئوا بِنورِ العلم، ولم يلجَؤُوا إلى ركنٍ وثيق).

أيّها المسلمون، ومن أبرزِ ما أدخَلَ عليهم الشيطان أمور عظام ثلاثة، وقد تكون هذه الأمورُ معلومةً، ولكنّ الحديثَ عنها والتذكير بها بعدما تجلّى من أوضاع الأمة وأحوالها وما آلت إليه يحتاجُ هذا إلى مزيدِ تأكيد وتذكير.

أول هذه الأمور: إساءةُ الظنِّ بولاة الأمور وعدَمُ الطاعة والخروجُ على الأئِمّة والاستخفاف بالولاية والجرأةُ على مخالفة وليّ الأمرِ والافتيات عليه، وهذا كما يقرِّر مشايخُنا والمحقِّقون من أسلاف علمائنا هذا والله من دين الجاهلية الذين لا يرَونَ السمع والطاعةَ دينًا، بل كلّ منهم يستبدّ برأيه، وهذا من الجهل بالدين والسعيِ في الأرض بالفسادِ، ويعرِف ذلك كلُّ ذي عقلٍ وإيمان. وهذه الأحوال والآثار والنتائج ظاهرةٌ ماثلة في ديار ضعُفت فيها الولايَة، فسالت فيها الدماء، وتفرّق أهلها، وتمكَّن الأعداء والمفسِدون منها، عياذًا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله. وقد عُلِم بالضرورة من دين الإسلام أنه لا دينَ إلا بجماعة، ولا جماعةَ إلاّ بإمام، ولا إمامَ إلا بالسمعِ والطاعة.

الأمر الثاني: الوقوعُ في أهلِ العلم واتهامُهم بالمداهَنَة والضعف والسكوتِ عن البيان وسوء ُالظنّ بهم وعدم الأخذ عنهم، ولقد قال علماؤنا من أئمّة هذه الدعوة وتلاميذهم: وهذا سببٌ للحرمان من العلم النافع، والعلماءُ هم وَرَثَة الأنبياء في كلّ زمانٍ ومكان، فلا يُتلقَّى العلم إلاّ عنهم، فمن زهد في الأخذ عنهم ولم يقبَل ما نقلوه وقرّروه فقد زَهدَ في ميراث المرسلين، واعتاضَ عنه بأقوالِ الجهلة الخالصين، ومن وقع في أهل العلم بالعيبِ والثَّلبِ ابتلاه الله بموتِ القلب، وهذا هو والله ما يُخشَى على هؤلاء الشبابِ الأغرار ومن سلك هذه المسالك.

الأمر الثالث: الوقوعُ في الغُلوّ والتَّنطّع الشَّديد وجهلُ كثيرٍ مِنهم بمقاصِدِ الشريعة وأصولها وقواعِدِها الكلّيّة، أو عدم التوفيق في مراعاة ذلِك كلِّه؛ مما جعلهم لا يبالون بالعواقب ومآلاتِ الأفعال، فكان منهم الانحرافُ عن فهمِ أهلِ الحقّ القائمِ على العلم والعَدل في التعامُل مع المخالف. فيا لله! كم بَدَا من بعض هؤلاء من جعلِ مسائِلِ الاجتهاد من جملة مسائِلِ الأصول التي يُعقَد عليها الولاءُ والبراء، بل كم كفَّروا بمعاصِي أو بقيودٍ أحدثوها وأوصافٍ اخترَعوها، وأحدثوا مسائلَ مَن خالف فيها لا يقبلون منه صرفًا ولا عدلاً، ولا تنفَعه عندهم شَفاعةُ الشافعين؛ فخَرَجوا من الانتصارِ للحَقِّ إلى الانتصارِ إلى الهوَى والفِئَة والحِزب والطائفة، حتى دخلت الأمّة في سراديبَ مظلمةٍ وأنفاق طويلةٍ ملتَويَة من الإفسادِ والحِرابة والبغيِ والقتل والتفجيرِ والتّخريب ونقضِ البيعة والخروج عن الطاعة.

هذا كلُّه قد حَصَل، فماذا كانتِ النتيجة يا عباد الله؟ ماذا كانتِ النتيجة مع أن هذه نتيجة؟ كانت النتيجة ضعفٌ في الدين وانحسارٌ في الدعوة وتجفِيف لمنابعِ الخير وتسلّط من الأعداء وفشوٌّ للتحزّب والتعصّب، فخسر أهل الحقّ، وكسب أهل الباطل، واتَّخَذ الأعداءُ هذه الأحوالَ والشتات سُلَّمًا وذرائع للنيل من الدين وأهله ودِيارِه، ولا حول ولا قوّةَ إلاّ بالله العليِّ العظيم.

يا إِخوتَنا، يا أبناءَنا، الهدمُ سهل، وسَفكُ الدماء إذا فتِح صعُب إيقافه، وإذا استُرخِصَت النفوسُ عمَّت الفوضى. البِناءُ هو الصَّعب، تربيةُ النفوس وإِصلاحها أصعَب، وهذا هو طريقُ المرسلين. إنَّ هذه التصرفاتِ التدميريّة والسلوكيّات القاتلة لا تبني بيتًا، ولا تعمر مسجدًا، ولا تفتَح مدرسةً، ولا تعلّم جاهلا، ولا ترشِد ضالاًّ، ولا تطعِم جائعا، ولا تعالج مريضًا. حُسنُ النية وصلاحُ القصد إذا وجِد فإنّه لا يكفي وحدَه البتة، بل لا بدَّ أن يقتَرنَ به صحّة المنهج وحسنُ العمل وإيجابيَّةُ الأثر، وبخاصّة الأعمال المتعدّية التي تمسّ الأمّةَ والديار.

أيّها المسلمون، إخوتَنا وأبناءَنا، العِصمةُ ليست لأحدٍ مِن البَشر سوى أنبياء الله فيما يبلِّغون عن الله، والحقُّ ضالّة المؤمن، ومن ابتغى في الناس الكمال فقد طلب المحالَ، والخطأُ من ولاةِ الأمورِ وأهل العلم واردٌ وواقِع، ومَن أراد الحقَّ وتصويبَ الخطأ فليَبحَث عن ذلك بطريقِه، وليصَحِّح ولينصَح بأسلوبِ الحكمة، مَع حسن القصدِ وحِفظ بيضةِ المسلمين وهَيبةِ الأئمّة وأهلِ العلم.

اسمعوا هذا الكلامَ النفيس لشيخِ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، وهو من هو في إمامتِه وقوَّته وصدقِه وجهاده، يقول رحمه الله: "إنّنا نرى بعضَ أمورٍ تجرِي وننصَح إخواننا في هذا البابِ، إنَّ بعضَ أهل العلم ينكِر منكرًا وهو مُصيبٌ، ولكنّه يخطئُ في تغليظِ الأمرِ إلى شَيءٍ يوجِبُ الفُرقَة"، قال رحمه الله: "الخللُ يدخُل على صاحبِ الدين من قلَّةِ الفهم"، ويَقول في مقامٍ آخَر: "إنَّ إنكار المنكر إذا صارَ يحصُل بسببه افتراقٌ لم يجُز إنكارُه، فاللهَ اللهَ العملَ بما ذكرنا والتفقّه فيه، فإنكم إن لم تفعَلوا صار إنكارُكم مضرّةً على الدّين، والمسلِمُ لا يسعَى إلاّ في صلاحِ دينه ودنياه" انتهى كلامه رحمه الله.

 وقد اجتمَعَ الفقهاء عند الإمامِ أحمد رحمه الله حين اشتدَّت فتنةُ القولِ بخَلق القرآن، وقالوا له: إنَّ الأمرَ قد تفاقَمَ وفشَا، فَحاوَرَهم وناظَرَهم ثمّ قال: "عَليكُم الإنكارُ في قلوبِكم، لا تخلَعوا يدًا من طاعة، ولا تشقّوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءَكم ودماء المسلمين معكم، وانظُروا في عاقبة أمرِكم، واصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجِر"، رحمه الله من إمامٍ فقيهٍ بصيرٍ ناصح.

عبادَ الله، إنَّ المؤمنَ الذي يبتَغي الحقَّ وينصِف من نفسِه ويتأمَّل في كِتابِ الله وما صحَّ مِن سنّة رَسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وعملا وتقريرًا ينظر هذه النصوصَ في اجتماعِ الكلمة وحِفظ حقّ الأمة والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر وعذابه والتناصح وحبّ أهل الإسلام، ثمّ ينظر في كلام المحققين من أهل العلم، وبخاصّة أولئك الذين باشروا الدعوةَ وخالطوا الحكّامَ، وعَلِم أنه موقوفٌ بين يدَي الله ومَسؤولٌ عمَّا يقول وما يفعل، فإنه يقف عند حدِّه، ويخشى العاقبةَ على نفسِه وعلى أمّته، أمّا من غلبه الهوى والجهلُ وأُعجِب برأيه وانحازَ إلى فئةِ الأغرار فلاَ حيلةَ فيه، وَمَنْ يُرِدْ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ [المائدة: 41].

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسمعوا وأطيعوا، واحفظوا حقَّ الولايةِ وحقَّ الأمة باجتماعها وحمايتِها وتجنيبِها تسلُّطَ أعدائها، فلا يسلم ـ والله ـ من الفتن إلاّ من راقبَ الله في سرِّه وعلانيته، ووقَف عند أقواله وأفعاله وحرَكاته وسكناتِه، ونظر في عاقبة أمره ومآله، وراجع أهلَ العلم والبصائر والمعرفة أصحابَ الأقدام الراسخة في الفهم والنظر.

ومن زين لكم ـ أيّها الشباب ـ ما أنتم فيه فاعلَموا أنه مِنفاخُ سوء، يبدي لكم ما تخفِي كيره، ويلبِّس عليكم دينَكم. اعرِفوا نعَمَ الله علينا وعليكم في الأمن والإيمان واجتماعِ الكلمة ووحدَة الدّين والدولةِ، فإنَّ النعم إذا شكِرَت زادت وقرَّت، وإذا كُفِرت وجحِدَت وبُطِرَت زالت وفرَّت، وعليكم بالنَّظر الصادِق الناصِح المخلِص فيما يصلح به أمرُ أهل الإسلام ويسدّ بابَ الفِتنة ويردمُ سبيل الفُرقة؛ نصحًا لله ولكتابه ولرسولِه ولأئمّة المسلمين وعامّتهم، فليس لهذه المسالك ـ والله ـ إلا غاية وخيمةٌ وعاقبة ذميمة، ولله عاقبة الأمور.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 24-26].

نفعني الله وإيَّاكم بالقُرآنِ العظيم وبهَدي محمّد ، وأقول قَولي هذا، وأستغفِر الله لي ولكم ولِسائر المسلِمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغَفور الرَّحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، لا مانعَ لما أعطاه، ولا رادَّ لما قضاه، أحمده سبحانه وأشكُرُه، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله، وأشهد أنّ محمّدًا رسول الله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن والاه.

أمّا بعد: أيُّها المسلمون، ما خرَج من خرَج عن جادّةِ الحقّ والوسَط جادّةِ المسلمين في علمائِهم وولاتهم إلاّ سلَك أحدَ طريقين، إمّا الجفاء والإعراض، وإما الغلو والإفراط والتنطّع، وهذه من مصائدِ الشيطان ومكائدِه، وقد قال الله في أقوامٍ محذِّرًا سلوكَ مسالِكهم واتِّباعَ طريقهم: لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77].

وإن من يتأمّل في أوضاع الأمة وفي سنواتها المتأخِّرَة وينظرُ في شبابها وبَعضِ المنتسِبين إلى العِلم فيها ويتأمَّل ما تعيشُه في بعضِ أقطارِها من الهرج والمرجِ والخِلافِ بل التقتيل والتشريد يُدرك أنَّ هناك مشروعاتٍ للفتن بين أبنائِه على كلِّ المستويات والأقطار، وكأنهم يريدون أن لا تبقى ديارُ الإسلامِ مُستقِرَّة مطمئنّة آمنةً متَّحِدة.

إنها فِتنٌ يُراد نَشرُها في كلِّ قطر وإقليم، ومِنَ المؤسِف حقًّا أنَّ الناسَ والدوَلَ قليلاً ما تتعلَّم من دروس الماضي وعِبَر التاريخ القريبِ منه والبعيد، ولو كان هناك استفادةٌ ونظَر وصِدق وحبّ وإخلاص، ناهيكم أن يكونَ هناك دينٌ حاجز وعقل مانع، لو كان ذلك كذلك لما رأيتَ مَن يندفع بجهالةٍ في الاشتراكِ في هذه الفتنِ وإشعالِها مع أنّه ـ والله ـ لا رابِحَ إلاّ الذين يقِفون من ورائها خارجَ الحدود.

وبعد: عبادَ الله، فإنَّ مِن أعظم أسبابِ السعادة والفلاح في المعاشِ والمعاد الانتظامَ في سِلك أهل الحق والرشاد وجماعةِ المسلمين، وأعظمُ أسباب السلامة البعدُ عن سبُل الغيّ والفساد وطريق الضالين واقتباس نورِ الهدى من محلِّه والتماس العلم النافع من حمَلَته وأهلِه، إنهم أهلُ العِلم والدّين والإيمان الذين بذلوا أنفسَهم في طلب الحق وهداية الخلق، حتى صاروا شهودًا لهم في الهداية والعدل، وصانوا أنفسَهم عن صفات أهلِ الضلال والغي.

ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واسمَعوا وأطيعوا، وأحسِنوا واستقيموا، وقولوا قولا سديدا؛ يصلِح لكم أعمالكم ويغفِر لكم ذنوبكم.

هذا، وصلّوا وسلِّموا على الرحمةِ المسداة والنِّعمة المهداةِ نبيِّكم محمّد رسول الله، فقد أمركم بذلك المولى جلَّ في علاه، فقال عزَّ قائلا عليمًا في محكم تنزيله قولاً كريمًا: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد النبيّ الأمّيّ المصطفى الهادي الأمين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً