.

اليوم م الموافق ‏17/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

قتل الأنفس المعصومة بغير حق

5422

الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي

عبد الرحمن بن علي العسكر

الرياض

عبد الله بن عمر

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- إكرام الله لبني آدم وتفضيلهم على سائر المخلوقات. 2- عظم مكانة المؤمن عند الله وعلو منزلته. 3- حرمة دم المسلم وعرضه وماله. 4- حرمة ترويع المؤمنين. 5- لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً. 6- النهي عن حمل السلاح وسل السيف على المؤمن. 7- شناعة وجرم من قتل نفسا بغير حق. 8- حرمة قتل المعاهد.

الخطبة الأولى

أمَّا بعدُ: فأوصِيكُمْ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ، فإنَّ مَنْ اتَّقَى اللهَ خَافهُ، ومَنْ خَافهُ حَذِرَ بَطْشَهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة: 100].

أيُّهَا النَّاسُ، لَقَدْ كَرَّمَ اللهُ جَلَّ وعَلا الإنسَانَ، وخَصَّهُ بخصائصَ تُميزُهُ عنْ غيرهِ مِنَ المخْلوقاتِ، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70]، أيْ: جَعَلنَا لهُمْ كَرمًا أيْ: شَرَفًا وفَضْلاً.

خَلَقَهُمْ فأحْسَنَ خَلْقَهمْ عَن سَائِرِ الحَيَوَانِ، خَلَقَ لَهمْ في البَرِّ والبَحرِ مَا لا يَصِحُّ لسِوَى بَني آدَمَ، خَصَّهمْ بالمطَاعِمِ والمشَارِبِ والملابِسِ، وأعْطَاهُمْ منَ القُدْرةِ على تَصْنِيعِ المآكِلِ والمطَاعِمِ، وكَانَ غَايةُ الحيَوَانِ أنْ يأكُلَ لحمًا نَيِّئًا أو طَعامًا غَيرَ مُركَّبٍ. كَرَّمَهُم اللهُ بالنُّطقِ بهذَا اللِّسانِ، سَخَّرَ لهمْ الهَوَامَّ والحيوانَ.

ألا وإنَّ مِنْ أعظمِ مَا خَصَّ اللهُ بهِ الإنْسَانَ أنْ صَانَ دَمَهُ وعِرضَهُ ومَالَهُ عَنْ أنْ يُعتَدَى عَليهِ، فهوَ مَعصُومُ الدَّمِ مُحرَّمُ القَتْلِ بدونِ قِصَاصٍ شرعيٍّ، مَالُهُ مُحتَرمٌ، لا يَجُوزُ الاعْتِداءُ عَليهِ، عِرْضُهُ مِنْ أغلَى مُكْتَسَباتِهِ، لا يَحِلُّ لِشَخْصٍ أنْ يَعْتَدي عَليهِ، يَقُولُ : ((والذِي لا إلهَ غَيرُهُ، لا يَحلُّ دَمُ امرئ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وأنِّي رَسُولُ الله إلا بإحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيِّبُ الزَّاني، والمفارِقُ لِدينِهِ التَّارِكُ للجَمَاعَةِ)) روَاهُ البُخاريُّ.

ذَلِكَ أنَّ المؤمِنَ ـ عِبادَ الله ـ لا يَزِيدُهُ عُمُرهُ إلاَّ خَيْرًا وأجرًا مِنَ اللهِ تَعالى؛ لأنَّ حَيَاتَهُ كُلّهَا طَاعَةٌ للهِ تَعَالى، مَا بَيْنَ صَلاةٍ وصِيامٍ وحَجٍّ وزَكَاةٍ وذِكرٍ لله جَلَّ وعَلا وأمرٍ بالمعْرُوفِ ونَهيٍ عَنِ المنْكَرِ وإحْسَانٍ إلى جَارٍ وَوجهٍ مُنْبَسِطٍ وصُور مِنَ العِبَادَةِ والتَّقَرُّبِ إلى اللهِ سُبْحَانَهُ، يَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام: 162]، وعَنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لا يَتَمَنَّى أحدُكُمُ المَوتَ، ولا يَدعُ بهِ مِنْ قَبلِ أنْ يَأتِيَهُ، إنَّه إذَا مَاتَ أحدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وإنَّهُ لا يَزيدُ المؤمِنَ عُمُرُهُ إلاَّ خَيرًا)) رواهُ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ.

لأنَّ المؤمِنَ عِندَ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالى لهُ مَنْزِلَةٌ سَامِقَةٌ ودَرَجَةٌ رَفِيعةٌ، فَهُو بِخَيرِ مَنْزلةٍ عِندَ رَبِّهِ تَبَاركَ وتَعَالَى، عَنْ أبي هُرَيرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ : ((إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: إنَّ المؤمِنَ بِمَنزِلَةِ كُلِّ خيرٍ، يَحمَدُني وأنَا أنزِعُ نَفْسَهُ مِنْ بينِ جَنْبيهِ)) رواه أحمدُ والبَزَّارُ بسَندٍ حَسَنٍ.

ومِنْ عِظَمِ حُرْمَةِ المؤمِنِ أنَّ حُرُمَتَهُ أعظَمُ مِنْ حُرْمَةِ البيتِ الحَرَامِ، يَقُولُ ابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنْهُما وهُوَ يَنْظُرُ إلى الكَعْبَةِ: (ما أعْظَمَكِ! ومَا أعْظَمَ حُرْمَتَكِ! والمؤمِنُ أعظَمُ حُرْمَةً عِندَ اللهِ مِنْكِ).

ومِنْ عِظَمِ مَنْزِلَةِ المؤمِنِ أنَّ النَّبِيَّ أولَى النَّاسِ بِهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، عَنْ أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ أنَّهُ قَالَ: ((مَا مِنْ مُؤمِنٍ إلاَّ وأنَا أولَى النَّاسِ بهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، اقرؤُوا إنْ شِئْتُمْ: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]، فأيُّمَا مُؤمِنٍ تَرَكَ مَالاً فَليَرِثْهُ مَنْ كانُوا، فإنْ تَرَكَ دَيْنًا أو ضَيَاعًا فَليَأتِني فأنَا مَولاَه)) رواه ابنُ مَاجَه وأبُو دَاودَ.

ولمْ يُؤثَر عَنهُ أنَّهُ دَعَا عَلَى قَومٍ مُعَيَّنينَ إلاَّ قِلَّةً، ومِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فأصَابَ رَجُلاً مِنَّا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ في رأسِهِ ثُمَّ احْتَلَمَ، فسأل أصْحَابَه فقَالَ: هَلاَّ تَجِدُونَ لي رُخْصَةً في التَّيَممِ؟ فقَالُوا: ما نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وأنتَ تَقْدِرُ عَلَى الماءِ، فاغتَسَلَ فمَاتَ، فلمَّا قَدِمْنَا عَلى النَّبِيِّ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فقال: ((قَتَلوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، ألاَ سَألُوا إذْ لم يَعْلَمُوا، فإنَّما شِفَاءُ العِيِّ السُّؤَالُ، إنَّمَا كَانَ يَكفيهِ أنْ يَتَيمَّمَ)) رواه أبو داودَ وابنُ ماجَه بِسَندٍ صَحيحٍ. فَدَعَا عَليهمُ النَّبِيُّ بأنْ يُهلِكَهُمُ اللهُ؛ لأنَّهُمْ تَسَبَّبُوا في قَتْلِ نَفْسٍ بَريئَةٍ، لأنَّهُمْ تَسَرَّعُوا في الفُتْيا.

أيُّها الناسُ، أرَأيتُمُ الدُّنْيَا ومَا فيهَا مُنذُ أنْ خَلقَ اللهُ آدَمَ إلى قِيامِ السَّاعَةِ، فإنَّ زَوَالها أهْوَنُ عِندَ الله مِنَ الإقْدَامِ عَلَى قَتلِ مَعْصومٍ، يَقُولُ كَمَا في سُنَنِ النَّسَائيِّ والتِّرمِذيِّ بسَنَدٍ صَحيحٍ: ((لَزَوالُ الدُّنْيَا أهونُ عِندَ الله مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ))، وقَالَ أيْضًا: ((قَتْلُ المؤمِنِ أعْظَمُ عِنْدَ الله مِنْ زَوَالِ الدُّنْيا)) رَوَاهُ النَّسَائيُّ.

بَلْ أشَدُّ مِنْ ذَلِكَ أنَّ الله حَرَّمَ تَروِيعَ المؤمِنِ، فَكَيْفَ بِقَتْلِهِ؟! يَقُولُ النَّبيُّ : ((لا يَحِلُّ لِمُسلِمٍ أنْ يَرَوِّعَ مُسْلِما)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ والتِّرمِذِيُّ والبَيْهَقِيّ. بَلْ رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ أنَّ النَّبيِّ قالَ: ((سِبَابُ المؤمِنِ فُسُوقٌ، وقِتَالُهُ كُفْرٌ، وحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرمَةِ دَمِهِ)). فَحُرمَةُ الدَّمِ وحُرْمَة المالِ جَعَلَها اللهُ لمَنْ قَالَ: لا إلَهَ إلاَّ الله مُحمَّدٌ رَسُولُ الله، يَقُولُ النَّبيُّ : ((إنَّ دِمَاءَكُمْ وأمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذا، في بَلَدِكُمْ هَذَا)) رَوَاهُ مُسْلمٌ.

لكِنَّ المُصيبَةَ العُظْمَى الَّتي قَدْ لا يَجِدُ المرءُ مِنهَا مَخْرَجًا إقْدَامُهُ عَلَى قَتْلِ أخِيهِ المُسْلِمِ بغَيرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ يُوجِبُ ذَلِكَ، رَوَى أبُو الدَّرْداءِ عَنْ رَسُولِ الله أنَّهُ قَالَ: ((لا يَزَالُ المؤمِنُ مُعنِقًا صَالحًا مَا لم يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فإذَا أصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّح)) رَوَاه أبُو دَاودَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ، يَعْني: لا يَزَالُ يَسيرُ بِسُرعَةٍ، فإذِا أصَابَ دَمًا حَرَامًا انْقَطَعَ بهِ السَّيْرُ.

عِبادَ الله، إنَّ هذِه الدُّنْيَا فُسحَةٌ للمُؤمِنِ يَنْتقِلُ فيهَا بَينَ أنْوَاعِ الطَّاعةِ، ويَعُود إلى رَبِّهِ متَّى ما اقْتَرَفَ ذَنْبًا أو خَطِيئةً، لكِنَّ الوَرْطَةَ العَظِيمَةَ التي يُوقِعُ المرْءُ فيهَا نَفْسَهُ ولا يَسْتَطيعُ المخْرَجَ مِنها أنْ يَصيبَ الدَّمَ الحَرَامَ، عنِ ابنِ عُمرَ رضيَ الله عَنْهُما قالَ: قالَ رَسُولُ الله : ((لَنْ يَزَالَ المؤمِنُ في فُسْحَةٍ مِنْ دينهِ مَا لمْ يُصِبْ دَمًا حَرامًا)) رَوَاهُ البُخَاريُّ، ورَوى البُخاريُّ أيضًا عَنْ عبدالله بنِ عُمرَ أنَّهُ قَالَ: (إنَّ مِنْ وَرَطاتِ الأمُورِ التي لا مَخْرجَ لمَنْ أوقَعَ نَفْسَهُ فيهَا سَفْكَ الدَّمِ الحَرَامِ بغَيرِ حِلِّهِ). ورَوى أبُو دَاودَ في سُنَنهِ عَنْ عُبَادةَ بنِ الصَّامتِ رضي الله عنه عَنْ رسُولِ الله أنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُؤمنًا فاغْتَبَطَ بِقَتْلهِ لم يَقْبلِ الله مِنهُ صَرْفًا ولا عَدْلاً)) ورُويَ: ((فاعْتَبَطَ))، والمعنى عَلى اللَّفْظِ الأوَّلِ: مَنْ قَتَل مُؤمنًا وفَرِحَ بِقَتْلهِ، وعلَى الرِّوايَةِ الثَّانيةِ: مَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا ظُلمًا بغَيرِ قِصَاصٍ لم يَقْبلِ اللهُ منْهُ نَافِلَةً ولا فَرْضًا.

وليس القَتل فَقَطْ، بَلْ حتّى حَمل السِّلاحِ وسَلّ السَّيفِ علَى النَّفْسِ المؤمِنَةِ كُلُّ ذلك مِنَ الأمُورِ التي حَرَّمَهَا اللهُ ورَسُولُهُ، يَقُولُ كَما في حَديثِ عبد اللهِ بنِ عُمرَ عندَ البُخَاريِّ: ((مَنْ حَمَلَ عَلَينا السِّلاحَ فَلَيْسَ مِنَّا))، وفي حدِيثٍ آخَرَ: ((مَنْ سَلَّ عَلَيْنَا السَّيْفَ فَلَيسَ مِنَّا)).

كُلُّ تِلْكَ الموَاعِظِ وتِلْكَ العِظَاتِ تَزْجُرُ أصْحَابَ العُقُولِ عَن أنْ يُقدِمُوا عَلى أفْعَالٍ يَنْدَمُونَ بَعدَهَا، ولكِن مَا هِيَ النَّتيجةُ؟ مَنْ قَتلَ نَفْسًا مؤمِنَةً بِغيرِ حَقٍّ فقَدْ جَاءهُ مِنَ الوَعيدِ مَا تَنَهدُّ لهُ الجِبَالُ الرَّاسيَةُ، عَنْ أنسِ بنِ مَالكٍ رَضيَ الله عَنهُ قالَ: قالَ رَسُولُ الله : ((أبَى اللهُ أنْ يجعَلَ لِقَاتِلِ المؤمِنِ تَوبَةً))، وفي رِوَايَةٍ: ((إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ أبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤمِنًا)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ. رَوَاهُ الطَّبَرانيُّ في الكَبيرِ والضِّيَاءُ في المُخْتَارَةِ.

إنَّ أوَّلَ مَا يحكُمُ الله بهِ بينَ العِبَادِ يَومَ القِيَامَةِ هِيَ الدِّمَاءُ، كَما جَاءَ ذلِكَ في البُخَاريِّ عَنْ عبدِ الله بنِ مَسعُودٍ.

أيُّهَا الإخْوَةُ، اعْلَمُوا جَميعًا أنَّ قَتْلَ نَفسٍ مُؤمِنَةٍ ظُلمًا بغيرِ حَقٍّ يُطَالَبُ بِهَا القاتِلُ ولَو بَلَغُوا كَثرَةً لا تَنْتَهي، روَى التِّرمِذيُّ في جَامِعِهِ والطَّبَرانيُّ في المُعْجَمِ الصَّغيرِ عَنْ أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ الله عنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله : ((لَوْ أنَّ أهْلَ السَّماواتِ والأرْضِ اشْتَرَكُوا في دَمِ مُؤمِنٍ كَبَّهُمُ الله عَزَّ وجَلَّ في النَّارِ)). ذَلِكَ أنَّ الذُّنُوبَ ـ عَدَا الشِّرْكَ بالله ـ فَإنَّ لِصَاحِبهَا تَوبَةً، مَا عَدَا قَتْل النَّفْسِ المؤمِنَةِ بغَيرِ حَقٍّ، فقدْ جَاءَ فيهَا مِنَ الوَعيدِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَغْليظِ العُقُوبَةِ، يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أنْ يَغْفِرَهُ إلاَّ مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أو مُؤمِنًا قَتَلَ مؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ بسَندٍ حَسَنٍ، ويَقُولُ : ((مَنْ لَقِيَ اللهَ لا يُشْرِكُ بهِ شَيئًا لم يَتَنَدَّ بِدَمٍ حَرَامٍ دَخَلَ الجَنَّةَ)) رَوَاهُ ابنُ مَاجَه بِسَندٍ صَحيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ. وإنَّمَا لَم تُقْبَلْ تَوبَةُ القَاتِلِ لأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَقِفَ هوَ والمَقْتُولَ بَينَ يدَي الله يَومَ القِيَامَةِ يَقْتَصَّانِ، يَقُولُ : ((يُؤْتَى بالمَقْتُولِ مُتَعَلِّقًا بالقَاتِلِ، وأوْدَاجُهُ تَشْخُبُ دَمًا، حتَّى يَنْتَهي بهِ إلى العَرْشِ يَقُولُ: يَا رَبِّ، سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَني؟)) رَوَاهُ التِّرمِذيُّ والنَّسَائيُّ وابنُ مَاجَه بسَندٍ صَحيحٍ.

عِبادَ اللهِ، ولَيسَ الأمْرُ قَاصِرًا عَلَى النَّفْسِ المؤمِنَةِ، بَلْ حتَّى المُعَاهَدَ فقدْ حَفِظَ الله لَهُ كَرامَتَهُ وحَقَّهُ وهُو مُشْركٌ غَيرُ مُؤمِنٍ، رَوَى البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عبدِ الله بنِ عُمرَ عَنِ النَّبيِّ أنَّهُ قَالَ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا لمْ يَرَحْ رَائحةَ الجَنَّةِ، وإنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أرْبَعينَ عَامًا))، ويَقُولُ : ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهِدًا في غَيرِ كُنْهِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الجَنَّةَ)) أخْرَجَهُ أبُو دَاودَ والنَّسَائيُّ وأحمدُ والحَاكِمُ، ويَقُولُ : ((مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا بغيرِ حِلِّهَا حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجَنَّةَ أنْ يَشُمَّ رِيحَهَا)) رَوَاهُ أحمدُ والنَّسَائِيُّ والبَيْهَقيُّ.

كُلُّ مَا قَدْ سَمِعْتُمُوهُ هُوَ مِنْ تَكريمِ اللهِ لبَنِي البَشَرِ أنْ يَطَالَهُمْ مِنَ المُنْغِصَاتِ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَلْ يَعِي العُقَلاءُ؟!

أقُولُ هَذَا القَولَ، وأسْتَغْفِرُ الله...

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ حَقَّ حَمدِهِ، أفضَلَ مَا يَنْبَغِي لجَلاَلِ وَجْهِهِ وعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، وأشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عَبدُهُ ورَسُولُهُ، صَلَّى الله عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسَلَّمَ تسْليمًا كَثيرًا إلى يَومِ الدِّينِ.

أمَّا بَعدُ: فَإنَّ مَنِ اتَّقَى الله زَرَعَ الخَشْيَةَ فِي قَلْبِهِ فَخَافَهُ، وأقَامَ شَرِيعَتَهُ عَلَى مَا يُحِبُّ اللهُ ويَرْضَاهُ.

عِبادَ اللهِ، رَوَى أبُو دَاودَ والنَّسائِيُّ والتِّرمِذيُّ وابنُ مَاجَه وغَيرُهُمْ قِصَّة عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ لمَّا حَاصَرَهُ الخَوارِجُ الذِينَ كَانُوا مِنْ أشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنًا، يَقُولُ أُسامَةُ بنَ سَهلٍ: كُنَّا مَعَ عُثْمانَ وهُوَ مَحصْورٌ في الدَّارِ، وكَانَ في الدَّارِ مَدخَلٌ، مَنْ دَخَلَهُ سَمِعَ كَلامَ مَنْ عَلى البَلاَطِ، فَدَخَلَهُ عُثْمانُ فخَرجَ إلينَا وهُوَ مَتَغَيِّرٌ لَونُهُ، فَقَالَ: إنَّهُمْ ليتَوَعَّدُونَني بالقَتْلِ آنِفًا، قَالَ: قُلْنَا: يَكْفيكَهُمُ الله يَا أميرَ المؤمِنينَ، قَالَ: ولِمَ يَقْتُلُونَني؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحدَى ثَلاَثٍ: كُفْرٌ بَعدَ إسْلامٍ، أو زِنًا بَعدَ إحْصَانٍ، أو قَتْلُ نَفْسٍ بغَيرِ نَفْسٍ))، فوَاللهِ ما زَنَيتُ في جَاهِليةٍ ولا إسْلامٍ قَطُّ، ولا أحْبَبْتُ أنَّ لي بدِيني بَدَلاً مُنذُ هَدَانيَ اللهُ، ولا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبمَ يَقْتُلُونَنِي؟!

وعَنْ أبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عنْهُ أنَّ رَسُولَ الله قَالَ: ((إنَّ بَينَ يَدَي السَّاعَةِ لهَرْجًا))، قَالُوا: ومَا الهَرْجُ؟ قالَ: ((القَتْلُ))، فقَالَ بَعضُ المسلِمينَ: يَا رَسُولَ الله، إنَّا نَقْتُلُ في العَامِ الوَاحِدِ مِنَ المُشْرِكينَ كَذَا وكَذا، فَقَالَ رَسُولُ الله : ((ليسَ بِقَتْلِ المُشرِكينَ، ولَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، ويَقْتُلَ أخَاهُ، ويَقْتُلَ عَمَّه، ويَقْتُلَ ابنَ عَمِّهِ))، قَالُوا: ومَعَنا عُقُولُنَا يَومئذٍ؟! قالَ: ((إنَّه لَتُنْزَعُ عُقُولُ أكثرِ أهلِ ذَلِكَ الزَّمانِ، ويَخْلُف لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لا عُقُولَ لَهُمْ، يَحسِبُ أكثرُهُمْ أنَّهُم عَلى شَيءٍ، ولَيْسُوا عَلَى شَيءٍ)) رَوَاهُ ابنُ ماجَه وغَيرهُ بسندٍ حَسَنٍ.

أيُّها النَّاسُ، إنَّ مَا حَدَثَ مِنْ قَتْلٍ للأنْفُسِ المَعْصُومَةِ جَديرٌ أنْ يُوقِفَ أصْحَابَ العُقُولِ لِيُراجِعُوا أمُورًا كَثيرةً، فمَا وَقَعَ مَا وَقَعَ إلاَّ نَتِيجَةَ جَهْلِ كَثيرٍ مِنَ النَّاسِ بِعِظَمِ هَذَا الذَّنْبِ، وهُوَ الإقْدَام عَلَى قَتْلِ مَنْ حَرَّمَ اللهُ قَتْلَهُمْ. لَقَدْ أهملَ الآبَاءُ أبْنَاءَهُمْ ثِقَةً بِأصْحَابٍ صَاحَبُوهُمْ، فَكَانَتْ نِهَايَتُهُمْ تِلكَ التي رَأيتُمْ: قَتلٌ وسَفْكٌ وتَرويعٌ. وإنَّ غَفلَةَ الأولِيَاءِ عَنْ بَعضِ التَّصَرُّفَاتِ السَّيِّئَةِ الصَّغيرَةِ وتَرْكهَا حَتَّى كَبرَتْ صَارَتْ إلى مَا رَأيْتُمْ.

فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وعَظِّمُوا أمْرَهُ، واجْتَنِبُوا نَهْيَهُ؛ تَفُوزُوا وتُفْلِحُوا.

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحمَّدٍ وعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً