أمَّا بَعدُ: فأوصِيكُمْ ـ أيُّهَا النَّاسُ ـ ونَفْسِي بِتَقْوَى الله عَزَّ وجَلَّ، فَاتَّقُوا الله ـ رحَمَكُمْ الله ـ مَا اسْتَطَعْتُم، فَمَنْ ابْتَغَى غِنًى مِنْ غَيرِ مَالٍ وعِزًّا بِغَيرِ جَاهٍ ومَهَابَةً مِنْ غَيرِ سُلْطَانٍ فَلْيَتَّقِ الله، فَربُّكُمْ سُبْحَانَهُ مُعِزٌّ مَنْ أطَاعَهُ واتَّقاهُ، ومُذِلٌّ مَنْ خَالَفَ أمْرَهُ وعَصَاهُ، سُبْحَانَهُ وبِحَمْدِهِ، لا يَذِلُّ مَنْ وَالاهُ، ولا يَعُزُّ مَنْ عَادَاهُ، لا إلهَ غَيرُهُ، ولا رَبَّ سِوَاهُ.
عِبادَ الله، الأمنُ مَطْلَبٌ عَزيزٌ وكَنْزٌ ثَمينٌ، هَوَ قِوامُ الحَياةِ الإنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا، وأسَاسُ الحَضَارَةِ المدَنيَّةِ أجْمَعِهَا، تَتَطلَّعُ إليْهِ المُجْتَمَعَاتُ، وتَتَسَابَقُ لِتَحقيقِهِ السُّلُطَاتُ، وتَتَنَافَسُ في تأمينِهِ الحُكُومَاتُ، تُسَخَّرُ لَهُ الإمكَانَاتُ المادِيَّةُ والوَسَائِلُ العِلميَّةُ وأنْوَاعُ الدِّرَاساتِ، وتُحشَدُ لَهُ الأجْهِزَةُ الأمْنِيَّةُ والعَسْكَريَّةُ، وتُسْتَنْفَرُ لَهُ الطَّاقَاتُ البَشَريَّةُ.
مَطْلَبُ الأمنِ يَسْبِقْ طَلَبَ الغِذَاءِ، فبِغَيرِ الأمْنِ لا يُسْتَساغُ طَعَامٌ، ولا يهْنَأ عَيشٌ، ولا يَلَذُّ نَومٌ، ولا يُنعَمُ بِراحَةٍ، قِيلَ لحكيمٍ: أينَ تَجدُ السُّرُورَ؟ قَالَ: في الأمْنِ، فإنِّي وَجَدْتُ الخائِفَ لا عَيشَ لَهُ.
فِي ظِلِّ الأمْنِ تُحْفَظُ النُّفُوسُ وتُصَانُ الأعْرَاضُ والأمْوَالُ وتَأْمَنُ السُّبُلُ وتُقَامُ الحُدُودُ ويَسُودُ العِمْرَانُ وتَنْمُو الثَّرَوَاتُ وتَتَوافَرُ الخيرَاتُ ويَكْثُرُ الحَرْثُ والنَّسْلُ، في ظِلِّ الأمْنِ تَقُومُ الدَّعْوَةُ إلى الله وتُعمَرُ المسَاجِدُ وتُقَامُ الجُمَعُ والجَمَاعَاتُ ويَسُودُ الشَّرْعُ ويَفْشُو المَعْروفُ ويَقِلُّ المُنْكَرُ ويحْصُلُ الاستِقْرارُ النَّفْسيُّ والاطْمئنَانُ الاجْتِماعيُّ.
مَا قيمَةُ المالِ إذَا فُقِدَ الأمْنُ؟! مَا طِيبُ العَيشِ إذَا انْعَدَمَ الأمْنُ؟! كَيفَ تَنْتَعِشِ مَنَاشِطَ الحَيَاةِ بِدُونِ الأمْنِ؟! الأمْنُ تَنْبَسِطُ مَعُهُ الآمَالُ، وتَطْمئنُّ مَعَهُ النُّفُوسُ عَلى عَوَاقِبِ السَّعْيِ والعَمَلِ، وتَتَعدَّدُ أنشِطة البَشَرِ النَّافِعَة مَعَ الأمْنِ، ويَتَبادَلُونَ المصَالِحَ والمنَافِعَ، وتَكثُرَ الأعْمَالُ المتَنَوِّعَةُ التي يحتَاجُ إليهَا النَّاسُ في حَيَاتِهِمْ. مَعَ الأمْنِ تُحقَنُ الدِّمَاءُ، وتُحفَظُ الأمْوالُ والحُقُوقُ، وتَتيسَّرُ الأرْزَاقَ، ويَعظُمُ العمْرَانُ، وتَسعَدُ وتَبتَهجُ الحيَاةُ في جَميعِ مجَالاتِهَا مَعَ الأمْنِ.
عِبَادَ الله، الأمْنُ والدِّينُ مُتَلازِمانِ، بل لا يَسْتَقيمُ أمرُ الدِّينِ إلاَّ مَعَ وُجُودِ الأمنِ، لذلِكَ امْتَنَّ الله عَزَّ وجَلَّ في آيَاتٍ كَثيرةٍ عَلَى عِبَادِهِ بِنعْمَةِ الأمْنِ التِي يَسْتَقيمُ بهَا أمرُ الدِّين؛ إذْ لَولا الأمْنُ ما اسْتَقامَ للنَّاسِ عِبَادَةٌ، وانْظُرُوا قَولَ الرَّسُولِ : ((والله، لَيُتِمَنَّ الله هَذَا الدِّينَ حَتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعاءَ إلى حَضْرَمَوتَ لا يَخَافَ إلاَّ الله والذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ)) رَواهُ البُخَاريُّ، وقَالَ أيضًا: ((فوَالذِي نَفْسِي بِيدِهِ، لَيُتِمَّنَّ الله هذَا الأمْرَ حَتَّى تخرُجَ الظَّعينَةُ مِنَ الحيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بالبَيتِ مِنْ غيرِ جِوَارِ أحدٍ)) رَوَاهُ أحمدُ والبيهَقِيُّ، وقال الله سُبْحَانَهُ: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 57]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67]، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 3، 4].
بلْ إنَّ إبْرَاهيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لمَّا دَعَا رَبَّهُ طَلَبَ مِنهُ تَحقيقَ الأمْنِ لتَتَحَقَّقَ لهمْ عِبَادَتُهمْ وتَتَحقَّقُ لهمْ أرْزَاقُهُمْ: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ [إبراهيم: 35]، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [البقرة: 126]؛ لأنَّهُ إذَا اضْطَرَبَ الأمْنُ ـ عياذًا بالله ـ ظَهَرَتْ الفِتَنُ، وتَزَلْزَلَتِ الأمَّةُ، وتَخلْخَلَتْ أرْكَانُها، وكَثُرَ الخَبَثُ، والتَبَسَ الحَقُّ بالبَاطِلِ، واسْتَعْصَى الإصْلاحُ عَلَى أهلِ الحَقِّ. إذَا اخْتَلَّ الأمْن ـ عِياذًا باللهِ ـ حَكَمَ اللُّصُوصَ وقُطَّاعُ الطَّرِيقِ، وسَادَتْ شَريعَةُ الغابِ، وعَمَّتِ الفَوضَى، وهَلَكَ النَّاسُ.
أيُّهَا الإخوَةُ، الأمْنُ لَيسَ كَلِمَةً تُقَالُ بالألْسُنِ ثمَّ بَعدَهُ تَسْتَقيمُ الأمُورَ، بَلْ الأمْنُ يَحْتَاجُ إلى جُهْدٍ ومُصَابَرَةٍ، لا يَقُومَ الأمْنُ إلاَّ بِرِجَالٍ مُخلِصينَ وشَعْبٍ مُتمَاسِكٍ مَعَ حَاكِمٍ يَقُومُ بأمرِ النَّاسِ. يَقُولُ الإمَامُ الماوردِيُّ رحمه الله: "لا بُدَّ للنَّاسِ مِنْ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ، تَأْتَلِفُ بقوّته الأهويَةُ المخْتَلِفَةُ، وتجْتَمِعُ بهَيبَتِهِ القُلُوبُ المتفَرِّقَةُ، وتَكُفُّ بسَطْوَتِهِ الأيدي المُتَغالِبَةُ، وتُقْمَعُ مِنْ خَوفِهِ النُّفُوسَ المتَعَانِدَةُ والمتَعَادِيَةُ؛ لأنَّ في طَبَائعِ النَّاسِ مِنْ حُبِّ المُغَالَبَةِ والقَهْرِ لمَنْ عَانَدُوهُ مَا لا يَنْكَفُونَ عنهُ إلا بمَانِعٍ قَويٍّ ورَادِعٍ مَليٍ، قَالَ الشَّاعِرُ:
والظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُـوسِ فإنْ تَجِدْ ذَا عِفَّـةٍ فَلِعِلَّـةٍ لا يَظْلِـمُ
والعِلَّةُ المانِعَةُ مِنَ الظُّلْمِ عَقلٌ زَاجِرٌ أو دِينٌ حَاجِزٌ أو سُلْطَانٍ رَادِعٍ أو عَجْزٍ صَادٍ، وإذا تأمَّلْتَ لم تَجد خَامِسًا، ورَهْبَةُ السُّلْطانِ أبْلَغُهَا؛ لأنَّهُ رُبَّما كَانُوا مشْغُوفينَ بِدَاعِي الهوَى، فتَكُونُ رَهْبَةُ السُّلْطانِ أشَدّ زَجْرًا وأقْوى رَدْعًا" اهـ.
ولا يَسْتَقيمُ أمرُ السُّلْطانِ إلاَّ برِجَالٍ مُخْلصينَ، يَقُومُونَ مَعَهُ، يَحرُسُونَ البِلادَ، ويحمُونَ الثُّغورَ أنْ يَعْتَدي عَلَى المُسلمينَ مَنْ يُريدُ قَتْلَهُمْ، فَلا تَسْتَقيمُ للنَّاسِ حَيَاتُهُمْ ولا يَسْتَقيمَ لهمْ أمْنُهُمْ بِدُونِهمْ؛ ولِذَلِكَ اتَّخَذَ النَّبيُّ حَرَسًا يحرُسُونَ المدينَةَ، فَقَدْ رَوَى البُخَاريُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا تَقُولُ: أرِقَ النَّبيُّ ذاتَ لَيلَةٍ فَقَال: ((لَيتَ رَجُلاً صَالحًا مِنْ أصْحَابي يَحرُسُنِي اللَّيلَةَ))، إذْ سَمِعْنَا صَوتَ سِلاحٍ، فقَالَ: ((مَنْ هَذَا؟)) فقَالَ: أنَا سَعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ جئتُ أحْرُسُكَ، فنَامَ حَتَّى سَمِعْنَا غَطِيطَهُ، وفي رِوَايةٍ: فَدَعَا لهُ .
وجَعَلَ بَدِيلَ بنَ وَرْقَاء في حَرَسِ المدينَةِ، وكَانَ عبدُ الرحمَنِ بنُ عَوفٍ أمين رَسُولِ الله عَلَى نِسَائهِ في السَّفَر. وفي سيرَةِ ابنِ إسْحَاقَ أنَّ سَعدًا كَانَ عَلَى بابِ العَرِيشِ الذِي كانَ فيهِ رَسُولَ الله مُتَوشِّحًا بالسَّيفِ في نَفَرٍ مِنَ الأنْصَارِ يَحرُسُونَهُ، وحَرَسَهُ حينَ أعْرَسَ بِصَفِيَّةَ يَومَ خَيبرَ أو ببعْضِ الطَّريقِ أبُو أيُوبَ الأنْصَاريُّ. ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ كانَ يحرُسُ النَّبيُّ حينَ كانَ يُصَلِّي في الحِجْرِ في مَكَّةَ. ولمَّا خَرجَ إلى بَدْرٍ جَعَلَ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ وأوسَ بنَ ثَابتٍ وأوسَ بن عِرَابَةَ ورَافِعَ بنَ خَديجٍ حَرَسًا عَلَى المدِينَةِ حَتَّى رَجَعَ. وكَانَ إذَا نَزَلَ في المدِينَةِ فَزَعٌ كَانَ أوَّل المُنْجِدينَ لهَذَا الصَّوتِ هُوَ ، روَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أنَسٍ قَالَ: كَانَ أحْسَنَ النَّاسِ وأشْجَعَ النَّاسِ، ولَقَدْ فَزِعَ أهْلُ المدِينَةِ لَيلَةً، فخَرَجُوا نَحْوَ الصَّوْتِ، فاسْتَقْبَلَهُمُ النَّبيُّ وقَدْ اسْتَبْرأ الخَبَرَ وهُوَ عَلَى فَرَسٍ لأبِي طَلْحَةَ عُري، وفي عُنُقِهِ سَيفٌ، وهُوَ يَقُولُ: ((لمْ تُرَاعَوا لمْ تُرَاعَوا)) ثُمَّ قَالَ: ((وَجَدْنَاهُ بَحْرًا))، وفِي رِوَايَةٍ: ((مَا رأيْنَا مِنْ فَزَعٍ)).
وهَكَذَا كَانَ صَحَابَتَهُ مِنْ بَعْدِه، وعَلَى هَذَا سَرَتِ الأمَمَ إلى وَقْتِنَا هَذَا، لكِنَّ الله خَصَّ أُولئِكَ الأشْخَاصِ الذِينَ يَقُومُونَ بالأمْنِ والحِرَاسَةِ؛ أولَئكَ الأقْوَامِ الذِينَ بَذَلُوا أرْوَاحَهُمْ لِحراسَةِ المُسْلِمينَ، خَصَّهُمُ الله بأجْرٍ عَظِيمٍ، يَقُولُ الله سُبْحَانَهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 200]، يَقُولُ ابنُ كَثيرٍ رَحِمهُ الله: "المُرَابَطَةُ هِيَ حِفْظُ ثُغُورِ المُسْلِمينَ وصَيَانَتُهَا عَنْ دُخُولِ الأعْدَاءِ إلى حَوزَةِ بِلادِ المسْلِمينَ" اهـ، فكَيفَ إذَا كَانَ ذَلِكَ العَدُوّ مِنْ دَاخِلِ البَلَدِ؟!
ولَقَدْ جَاءَتْ النُّصُوصُ الشَّرْعيَّةُ الكَثيرةُ في فَضْلِ عَمَلِ المُرَابِطينَ فِي سَبيلِ الله عَلَى ثُغُورِ المُسْلِمينَ، رَوَى البُخَاريُّ عَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ رَضيَ اللهُ عنْهُ أنَّ رَسُولَ الله قَالَ: ((رِبَاطُ يَومٍ فِي سَبيلِ الله خَيرٌ مِنَ الدُّنْيَا ومَا عَلَيْهَا))، ورَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحهِ عَنْ سَلْمَانَ الفَارسيِّ عَنْ رَسُولِ الله أنَّهُ قَالَ: ((رِبَاطُ يَومٍ ولَيلَةٍ خَيرٌ مِنْ صِيامِ شَهرٍ وقِيَامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَى عَلَيهِ رِزْقَهُ وأمِنَ الفَتَّانَ)).
الرِّباطُ هَوَ العَمَلُ عَلَى حِرَاسَةِ المُسْلِمينَ، فَكَيفَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ حِرَاسَةُ المُقَدَّساتِ؟! وكَيفَ إذَا كَانَ في ذَلِكَ حَقْنٌ لِدِمائهِمْ؟! كَيفَ إذَا كانَ في ذَلِكَ مَنْعُ الظُّلْمِ عَنهُم؟!
الرِّبَاطُ أفْضَلُ مِنَ الجِهَادِ كمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ جَمعٌ مِنَ العُلَمَاءِ؛ لأنَّهُ بالرِّباطِ تُحْقَنُ دِمَاءُ المُسْلِمينَ الموَحِّدينَ، ولَقدْ وَرَدَ في الحديثِ الذِي رَوَاهُ التِّرْمِذيُّ عَنْ أبي صَالِحٍ مَولَى عُثْمانَ بنِ عَفَّانِ قَالَ: سَمِعتُ عُثْمانَ وهُوَ عَلَى المِنْبرَ يَقُولُ: إنِّي كَتَمْتُكُمْ حَديثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله كَرَاهيَةَ تَفَرُّقِكُمْ عَنِّي، ثُمَّ بَدَا لي أنْ أُحَدِّثكُمُوهُ لِيَخْتَارَ امْرُؤٌ لِنَفْسِهِ مَا بَدَا لَهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله يَقُولُ: ((رِبَاطُ يَومٍ في سَبيلِ الله خَيرٌ مِنْ ألفِ يَومٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ المنَازِلِ)).
قَالَ المنَاوِيُّ: "والحديثُ يَدُلُّ عَلَى أنَّ الرِّبَاطَ أفْضَلُ لأنَّهُ جَعَلَهُ الغَايَةَ التي يَنْتَهي إليهَا أعْمَالُ البِرِّ، والرِّبَاطُ يَكُونُ بِحَقْنِ دِمَاءِ المسْلِمينَ، والجِهَادُ يَكُونُ بسَفْكِ دِمَاءِ المُشْرِكينَ، فانْظُرْ مَا بَينَ الدَّمَينِ حتَّى يَصِحَّ لَكَ أفضَلُ العَمَلَينِ" اهـ. وقَالَ أحدُ العُلَماءِ: ومَنْ يُسَوِّي بينَ مَنْ يَسْفِكُ دَمَهُ ليَحْمِيَ دِمَاءَ المسْلِمينَ ومَنْ يَسْفِكُ دَمَهُ ليُريقَ دِمَاءَ المُشْرِكينَ؟!
عِبَادَ الله، إنَّ كُلَّ رَجُلِ أمْنٍ يَعْمَلُ في بلادِ الإسْلامِ مَتَى مَا أخْلَصَ لله القَصْدَ فَهُوَ في رِبَاطٍ، مِنْ حينِ بَدَأ إلى أنْ يَفْجَأهُ الموتُ.
يَقُولُ الشيخُ ابن بازٍ رَحِمهُ الله: "عَمَلُ المتَطَوِّعينَ فِي كُلِّ بَلَدٍ ضِدَّ الفَسَادِ مَعَ رِجَالِ الأمْنِ يُعْتَبرُ مِنَ الجِهَادِ في سَبيلِ الله، لمَنْ أصْلَح الله نِيَّتَهُ، وهُوَ مِنَ الرِّبَاطِ في سَبيلِ الله؛ لأنَّ الرِّباطَ هُوَ لُزُومُ الثُّغورِ ضِدَّ الأعْدَاءِ، وإذَا كَانَ العَدوُّ قَدْ يَكُونُ في البَاطِنِ احْتاجَ المُسْلِمُونَ أنْ يَتَكاتَفُوا مَعَ رِجَالِ الأمْنِ ضِدَّ العَدوُّ الذِي يُخشَى أنْ يَكُونَ في البَاطِنِ يُرْجَى لهمْ أنْ يَكُونُوا مِنَ المُرَابِطينَ، ولَهُم أجرُ المُرَابِطِ لحِمَايَةِ البلادِ مِنْ مَكَائِدِ الأعْدَاءِ الدَّاخِليِّينَ. وهَكَذا التَّعاوُنَ مَعَ رِجَالِ الهيئَةِ الآمِرينَ بالمَعْرُوفِ النَّاهينَ عَنِ المُنْكَرِ يُعْتَبَرُ مِنَ الجِهَادِ فِي سَبيلِ الله في حَقِّ مَنْ صَلُحَتْ نِيَّتَهُ؛ لِقَولِ الله سُبحَانَه: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69]، وقَولِ النَّبيِّ : ((مَا بَعَثَ الله مِنْ نَبِيٍّ فِي أمَّةٍ قَبْلي إلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ أمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وأصْحَابٌ يأخُذُونَ بِسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأمْرِهِ، ثُمَّ إنَّها تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولونَ مَا لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ مَا لا يُؤمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، ومَنْ جَاهَدَهمْ بِلِسَانِهِ فَهُو مُؤمِنٌ، ومَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤمِنٌ، ولَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ" اهـ.
ألاَ فَلْيَعْلَم كُلُّ رَجُلِ أمْنٍ يَعْمَلُ لحِراسَةِ هَذَا البَلَدِ أنَّهُ مَتَى مَا أخْلَصَ لله النِّيَّة فَهُوَ مُجَاهِدٌ في سَبيلِ الله.
أقُولُ هَذَا القَولَ، وأسْتَغْفِر الله.
|