أما بعدُ: فأوُصِيكُم ـ أيَّها الناسُ ـ بالوَصِيةِ الدَّائِمةِ التَّي كرَّرها اللهُ في كِتابهِ، وَصِية الله للأولينَ والآخِرِينَ؛ الوَصِية بِتَقوَى الله، وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيها الناس، إنَّ منَ الأصُولِ الثَّابتةِ التي قامَتْ عَليها السَّماواتُ والأرضُ بَل هِيَ أصلُ الأصولِ معرفةَ أنَّ الله ربُّ العالمينَ الرحمنُ الرحيمُ المالكَ المتصَرِّفُ ذُو الألوهِيةِ والعُبودِيةِ على خَلْقِهِ أجْمَعين، وأنَّ جَميعَ الكونِ وَكُلَّ مَا فيهِ خَلقُهُ ومُلكهُ وعَبيدهُ وتحتَ تَصرُّفهِ وقَهْرِهِ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم: 93-95].
عباد الله، لقدْ أخبرَ رسولُ الله ـ وخبرهُ صِدقٌ ـ عن افتراقِ هِذِهِ الأمَّةِ إلى ثَلاثٍ وسَبعينَ فِرقةً، كُلهمْ ضُلاَّلٌ إلا فِرْقةً واحِدَةً، هيَ التي وَافَقَتْ هَدْيَ الكتابِ والسُّنةِ وسَارتْ عَلى نهجِ المصطفَى وأصْحَابهِ من بَعدِهِ.
إنَّ هَذا الافتراقَ شامِلٌ لكلِّ أمورِ الدينِ عقيدةً وعملاً، ولكنَّ التفرقَ قدْ لا يُعالجُ إلاَّ في بابٍ واحدٍ إذا كُسِرَ فَلا يُمكنُ إصلاحُهُ إلاَّ بإعادَتِهِ جَديدًا كَما كَانَ، لا يَصلُحُ في سَدِّه بَابٌ فيهِ ثُقوبٌ أو خَللٌ، إنهُ بَابُ التوحيدِ والاعتقادِ، بَابٌ أهلُ الزَّيغِ والضلالِ فيه فِرقٌ شَتَّى، كُلُّ فرقةٍ فَرِحَةٌ بما عندَها، أمَّا أهلُ السنةِ والجماعةِ الذينَ سَارُوا على النَّهجِ فَإنهمْ عَلى خَطٍّ مُستقيمٍ في هَذا الأمرِ، بَلْ وفي جَميعِ أُمورهمْ، ولكنَّ بابَ التوحيدِ والاعتقادِ يَخصُّونَهُ بمزيدِ اهتمامٍ ومزيدِ عِنَايةٍ؛ لأنَّ الضَّلالَ فيهِ ضَلالٌ كَبيرٌ، والخطأ في التوحيدِ ليسَ كَخطأٍ في غيرهِ.
أيَّها النَّاسُ، إنَّ أكثر مَا جَاءَ الانحرافُ إلى طَوائفَ شَتَّى في هَذا البابِ بسببِ أمرينِ:
السبب الأول: الجهلُ؛ فكثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَجهَلونَ أمورَ مُعتَقدِهمْ التي يَعتقدُونَها، وقليلٌ مِمَّنْ آتاهم الله عِلمًا يتَحدَّثُ عَنها، ولَو أنَّ النَّاسَ إذَا جَهِلُوا شَيئًا سَألوا عنهُ لَبَلَغُوا مُرَادَهُم، ولكنْ عَلى نَفْسِهَا جَنَتْ، وَلا يَنَالُ العلمَ مُستَحٍ ولا مُستكْبِر.
أمَّا السَّببُ الثَّاني: فهوَ أنَّ فِئامًا مِنهمْ أخَذوا هَذا العِلْمَ مِنْ غَيرِ مَصْدريهِ: الكتابِ والسُّنةِ، العقلُ ـ أيها الناسُ ـ لا دَخْلَ لهُ في بَابِ العَقيدَة؛ لأنَّها مِنْ بَابِ الغيبِ، والغيبُ لا يُعْلَمُ إلا بِوَحيٍ.
إذَا كانَ ذلكَ كذلكَ فاعلَموا ـ أيَّها النَّاسُ ـ أنَّ عَليكم أنْ تُؤمِنُوا بأنَّ دِينَ المرءِ يَقومُ عَلى أُصولٍ سِتَّةٍ هي كالعمدِ للبُنْيانِ، لَو سَقَطَ منهُ عَمُودٌ سَقَطَ البِناءُ أو لا يَزالُ مُخَلْخَلاً. سِتةُ أُصولٍ يَنبغي لِكلِّ مُؤمنٍ ومؤمنةٍ الإيمانُ بِهَا والإقرارُ بمضمُونِهَا إيمانًا لا خَلَلَ فيهِ وإقرارًا لا يَعْتَريهِ نَقْصٌ، لَخَّصَها رسولُ الله حينَ جَاءهُ جِبريلُ عَليهِ السَّلامَ، فسألهُ عنِ الإيمانِ فقالَ: ((أنْ تُؤمِنَ باللهِ وملائِكتِهِ وكُتُبهِ ورُسُلهِ واليومِ الآخِرِ وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وشَرِّهِ)).
الإيمانُ بالملائكةِ أحدُ تِلكَ الأصولِ السِّتةِ التي مَنْ أقَرَّ بِهَا فَقَدْ استكمَلَ الإيمانَ، الملائكةُ ـ عبادَ الله ـ عَالمٌ غَيبيٌّ مخلوقٌ عَابدون لله، ليس لهمْ مِنْ خَصائِص الرُّبُويَّةِ والألوهيَّةِ شَيءٌ، خَلَقَهم الله تَعالَى مِنْ نُورٍ ومَنحهمْ الانقيادَ التَّامَ لأمرهِ والقُوةَ على تَنفيذِه، وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ [الأنبياء: 19، 20]. الملائكةُ رُسلٌ من رُسُلِ الله، الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً [فاطر: 1]. الملائكةُ عددٌ كثيرٌ لا يُحصيهمْ إلا اللهُ سبحانَهُ، جَاءَ في الصَّحيحَينِ من حَديثِ أنسٍ فِي قِصةِ المعرَاجِ أنَّ النَّبيَّ رُفِعَ لهُ البيتُ المعمورُ في السَّماءِ فَرَأى يُصلي فيهِ سَبعونَ ألفَ مَلَكِ كُلَّ يومٍ، إذَا خَرَجُوا لا يَعُودُونَ إليه آخِرَ مَا عَلَيهمْ، يَعْني: لا يأْتيهمْ الدَّورُ مَرَّة أُخْرَى. الملائِكَةُ قال الله عنهم: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6]، جَاء في الحديثِ: ((أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لها أنْ تَئِطَّ، ما فيهَا موضع أرْبَعَة أصَابعَ إلاَّ ومَلَكٌ قائِمٌ راكِعٌ أوْ ساجِدٌ)).
عباد الله، الإيمانُ بالملائِكَةِ يَتَضَمَّنُ أرْبَعَةَ أمُورٍ لا بُدَّ مِنَ الإقرارِ بِهَا حَتّى يَكونَ الشَّخصُ مؤمِنًا بهِمْ:
الأوَّلُ: الإيمانُ بوجُودهِمْ وأنَّهمْ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ الله كمَا جاءت بهِ الآياتُ والسُّنَن.
الثاني: الإيمانُ باسْمِ مَنْ عَلِمْنَا اسمَهُ مِنهمْ، ومَنْ لم نعلَمْ اسمَهُ نُؤمِنُ به إجْمالاً دُونَ حَاجةٍ إلى مَعرفةِ اسْمِه. وممَّا يَنْبغي أنْ يُعْلَم هُنَا أنَّه لم يَصِحَّ مِنْ أسْمَاءِ الملائِكَةِ إلاَّ قَليلٌ، وهُم: جِبريلُ وميكَائيلُ وإسْرَافيلُ ومَلَكُ الموتِ ومَلَكانِ يَسْألانِ الميِّتَ لَمْ يثْبتْ تَسْميتهُما بحديثٍ صَحيح.
أمَّا الأمْرُ الثالثُ عِبادَ الله: الإيمانُ بِمَا عَلِمنَا مِن صِفَاتِهمْ، فقدْ صَحَّ عنهُ أنَّهُ رأى جبريلَ عَلى صِفَتهِ التي خُلِقَ عليهَا ولهُ سِتمائةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الأفُق، وقَدْ أعطاهُم الله مِن القُدْرَةِ في التَمَثُّلِ في صُورٍ عَديدةٍ كَمَا قال الله عَن جبريلَ لمَّا بَعثهُ إلى مَرْيمَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 17]، وجاء جبريلُ إلى النبيِّ في صُورةِ رَجلٍ شَديد بَياضِ الثِّيابِ شَديدِ سَوَادِ الشَّعرِ لا يُرَى عَليهِ أثَرُ السَّفرِ ولا يَعْرفُه أحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فجَلَسَ إلى النبيِّ ، فأسْنَدَ رُكْبَتيهِ إلى رُكْبتيهِ، ووَضعَ كفَّيهِ عَلَى فَخِذيهِ، ثُمَّ سأل النّبي عَنِ الإسلامِ والإيمانِ والإحْسَانِ، ثُمَّ قال عنهُ : ((هذا جِبريلُ أتَاكُمْ يُعلِّمُكم دِينَكم)) رواه مسلم. وجَاءَ مرَّةً عَلى صُورة دِحْيَةَ الكَلبيّ. وكَذلِكَ الملائكةُ الذينَ جَاؤُوا إلى نَبيِّ الله إبْراهيمَ ونَبيِّ الله لُوطٍ كَانُوا عَلى صُورَةِ رِجَالٍ، ولَكن تمَثُلُهمْ في صُورةِ البشَرِ إنَّما هُوَ بأمرِ الله وقُدْرَتهِ ليسَ للملائكةِ أمرٌ فيهِ.
أمَّا الأمرُ الرابعُ ـ أيَّها الإخوةُ ـ مَمَّا يَجِبُ اعتِقادُهُ في الملائكةِ: فَهُو الإيمانُ بِمَا عَلِمْنَا مِن أعْمَالهم التي يَقُومُونَ بِها؛ كَتَسْبيحِهمْ لله وعَبَادَتهمْ لهُ لَيلاً ونَهَارًا بِدُونِ مَلَلٍ أو فُتُورٍ. كمَا أنَّه يَنْبغِي لنَا أنْ نُؤمِنَ بأنَّ لبَعضِهمْ أعمالاً خَصَّهُمُ الله بِهَا مِمَّا فيه مَصْلحةُ البَشرِ؛ فجبريلُ مُوَكَّلٌ بِمَا فيهِ حَياةُ القُلوبِ وهُوَ الوحْيُ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 193-195]، وإسْرَافيلُ مُوَكَّلٌ بالنَّفخِ في الصُّورِ الذي بهِ حَياةُ الأجْسادِ بَعدَ مَوتِها، وميكَائيلِ مُوَكَّلٌ بإنْزَالِ المطَرِ والنَّباتِ اللَّذين بهمَا حَياةُ الأرضِ، فهؤلاءِ الثلاثةُ جَعَلَ الله على أيديهمْ حَياةَ القُلوبِ وحَياةَ الأبدَانِ وحياةَ الأرض، ولقدْ كانَ يَسْتَفتِحُ صَلاةَ الليلِ بقوله: ((اللهُمَّ رَبَّ جِبريلَ وميكائيلَ وإسْرَافيلَ، فَاطِرَ السَّماواتِ والأرضِ، عَالِمَ الغَيْبِ والشَّهَادَة)).
ومِنْهُم مَالِكٌ مُوكَّلٌ بالنارِ، يَقُولُ الله عن أهلِ النَّار: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف: 77]. ومَلَكٌ مُوَكَّل بالجَنَّةِ، ومَلَكُ الموتِ الذي يَقولُ الله عنه: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ [السجدة: 11]، قادِرٌ بأمرِ الله على قَبْضِ نفْس في المَشْرقِ وأخْرَى في المغْرِب في آنٍ واحدٍ. ومَلكانِ موَكَّلانِ بسؤالِ الميِّتِ في قبرِهِ كما ثَبَتَ في أحاديثٍ صحَيحةٍ.
وممَّا يَنبغي مَعرفَتهُ هُنا أنَّ ثَمَّة مَلَكينِ مَعَ كُلِّ شَخْصِ يَكتُبانِ عليه جميعَ أعمَالهِ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 17، 18]. فإيَّاكَ إيَّاكَ ـ أيُّها المُسلمُ ـ أنْ يُكْتَبَ عليكَ مَا يَسُوؤُكَ يومَ القِيامَةِ.
لمَّا دَخَلُوا على الإمامِ أحمد وكَان مَريضًا فَإذَا هُوَ يئنُّ أنينَ المريضِ، فَقيلَ لَهُ: يَا أبا عبد الله، إنَّ طاووسًا ـ وهُو أحدُ التَّابعينَ ـ يقولُ: إنَّ أنينَ المريضِ يُكْتَبُ عَليهِ، فأمْسَكَ عَنِ الأنينِ.
فاتَّقُوا الله عبادَ الله، واعْلَمُوا أنَّ الإنسانَ سَوفَ يُخْرَجُ لهُ يومَ القِيامة كتابه، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
اللهمَّ زَيِّنَّا بزينةِ الإيمانِ، وجَنِّبْنَا الزَّلَلَ في القَولِ والعَمْلِ، أقولُ هَذا القَولَ، وأسْتغْفِر الله.
|