.

اليوم م الموافق ‏17/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

أهمية الدعاء واللجوء إلى الله

5414

الرقاق والأخلاق والآداب

الدعاء والذكر, الفتن

عبد الرحمن بن علي العسكر

الرياض

عبد الله بن عمر

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الإسلام أول داعٍ إلى الاستعداد والتسلح. 2- الدعاء سلاح الأنبياء والمؤمنين. 3- منزلة الدعاء وفضله. 4- حاجة كل الناس إلى الدعاء خاصة حال الأزمات والشدائد. 5- نماذج من دعوات الأنبياء عليهم السلام. 6- أوقات وأحوال إجابة الدعاء. 7- ما ينبغي أن يكون عليه المسلم حال الفتن والأزمات. 8- وقفات مع دعاء من أدعية النبي . 9- أهمية الصدق في الدعاء.

الخطبة الأولى

أمَّا بَعدُ: فَعَلَيْكُم بِتَقْوَى اللهِ في السِّرِّ وَالعَلَنِ، فَالزَمُوهَا فَإِنَّهَا الطَّرِيقُ إِلى جَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاواتُ والأرْضُ، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133].

أيُّهَا النَّاسُ، تَتَسَابقُ الأُمَمُ عَلَى مَرِّ العُصُورِ عَلَى التَّقَدُّمِ والرُّقِيِّ فِي دَاخِلهَا، وَعَلَى قَدْرِ تَقَدُّمِهَا في البِنَاءِ بِقدْر تَقَدُّمِهَا في هَدْمِ مَا بَنَتْ فِي وَقتٍ يَسِيرٍ، فِي سِبَاقٍ عَاجِلٍ للتَّسَلُّحِ، غَيرَ أنَّ الإسْلاَمَ هُوَ أَوَّلُ مَنْ دَعَا إِلى التَّسَلُّحِ وَالاسْتِعْدَادِ؛ لأنَّ المُؤمِنَ لَيسَ ضَعِيفًا وَلاَ غِرًّا. نَعمْ، الاسْتِعْدَادُ بِسِلاَحِ الإيمانِ وَالتَّقْوَى الَّذِي لاَ يَغْلِبُهُ أَحدٌ، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]. وَمَنْ تَأمَّلَ ـ عِبادَ اللهِ ـ هَذَا الدِّينَ وَجَدَ بِدَاخِلهِ أَسْلِحَةً لَم يُوجِدِ النَّاسُ لَها مَا يُضَادُّهَا عَلَى مَرِّ الزَّمَنِ، بَلْ إِنَّهُ منذُ أَنْ خُلِقتِ الدُّنْيَا وَثَمَّةَ سِلاَح كَرَّرَ القرآنُ ذِكرَهَ وَاسْتِنْجَادَ المَؤمِنِينَ بِهِ فِي أَوقَاتِ ضِيقِهم وَشِدَّتِهم وَانْتِصَارِهم عَلَى أَعْدَائهِم.

عِبادَ اللهِ، حَتَّى أَنْبِيَاءُ اللهِ وَرُسُلُهُ وَهُم المؤيَّدُونَ مِنَ اللهِ كَانَ هَذَا السِّلاَحُ مَعهمْ في كُلِّ وَقتٍ؛ لأَنَّهُ اسْتِنْجَادٌ بِمَنْ يَمْلِكُ القُوةَ والنَّصْرَ، وإقْرَارٌ بِتوحِيدِ اللهِ وَأَنَّهُ عَلَى كَلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ لاَ رَادَّ لأَمْرِهِ وَلاَ مُعَقِّبَ لحُكْمِهِ، وَأَنهُ يَعْلَو عَلَى كُلِّ شَيءٍ.

الدُّعَاءُ ـ أيُّها الإخْوَةُ ـ سِلاَحُ المؤمِنينَ فِي كُلِّ وَقتٍ، الدُّعَاءُ مَنْزِلَتُهُ عَظِيمَةٌ وَدَرَجَتُهُ رَفِيعَةٌ فِي دِينِ الإسلامِ، بَل هُوَ العِبادَةُ كُلُّهَا، بِهِ تُسْتَجلَبُ الرَّحْمَةُ، وَبِهِ تُسْتَدْفَعُ النِّقْمَةُ، بِهِ يَظْهَرُ الافْتقَارُ وَالذِّلَةُ وَالتَّبَرُّؤُ مِنَ الحَولِ وَالقُوةِ إلاَّ لله سُبحَانَهُ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَابنُ مَاجَه وَابنْ حِبَّانَ وَالحَاكِم وَصَحَّحهُ عَن أبِي هُرَيرَةَ أنَّ رَسُولَ الله قال: ((لَيسَ شَيءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)).

أَيُّها النَّاسُ، الدُّعَاءُ عِبَادةٌ مِنْ أَسهَلِ العِبَادَاتِ وَأَيسَرِهَا، وَمِنْ سَهْولَتهِ أَنَّهُ لاَ وَقْتَ لَه، بَلْ هَوَ فِي كُلِّ وَقتٍ وَكُلِّ زَمَانٍ وَكُلِّ مَكَانٍ، وَمَا كَانَ النَّبيُّ يَحْرِصُ عَلَى شَيءٍ حرْصَهُ عَلَى تَعلِيمِ صَحَابتِهِ للدُّعَاءِ وَتَلقِينِهِ لَهمْ كَمَا يُلَقِّنُهم السُّورَةَ مِنَ القُرَآنِ.

وَتَزْدَادُ حَاجَةُ النَّاسِ إلى الدُّعَاءِ في أَوقَاتِ ضيقهم وَكُربِهم، وَعنْدَ الْتِحَامِ الشَّدائِدِ هُم فِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إلى رَبِّهم، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل: 62].

الدُّعَاءُ أَكرمُ شَيءٍ عَلَى اللهِ، هُوَ طَرِيقٌ للصَّبرِ فِي سَبيلِ اللهِ، وَصِدْقٌ فِي الالْتِجَاءِ إِلَيهِ وَتَفْويضِ الأُمورِ إليهِ سُبحَانَهُ، وَتوكّلٌ عَلَيهِ، وَبُعْدٌ عِنِ العَجْزِ والكَسَلِ، واسْتِعَانةٌ بِمَنْ يَمْلكُ العَونَ وَحدَهُ.

وَهَذَا كِتَابُ اللهِ بَينَ أيدِيكُمْ لَم تَرِدْ قِصَّةُ نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِيَاءِ إِلاَّ وَبِدَاخِلِهَا دُعَاءٌ ولُجُوءٌ إِلى اللهِ باِلنَّصْرِ وَالتَّأيِيدِ عَلَى الأَعْدَاءِ: فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 118]، قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنْ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ [الشعراء: 168، 169]، وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس: 88]، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 61، 62]، وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة: 250].

الدُّعَاءُ ـ أيُّها النَّاسُ ـ هُوَ السِّلاَحُ الَّذِي مَتَى كَانَ صَادِقًا صَوابًا لَم يُوجَدْ لَه مُضَادٌ، وَانْظُرُوا كيفَ أَنَّ الكُفَّارَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّعَاءَ لَيسَ بهَيِّنٍ حِينَ طَلَبُوا مِنْ مُوسَى فَقَالُوا: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمْ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الأعراف: 134].

الدُّعَاءُ هُوَ السِّلاَحُ الَّذِي لاَ يُبْصرُه الأعْدَاءُ، الدُّعَاءُ هُو سِلاَحُ المُؤمِنِ دَائِمًا، قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِي مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدْ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَبَارًا [نوح: 21-28].

أيُّها النَّاسُ، الدُّعَاءُ حِصْنٌ يَلْجَأُ إِليهِ المُؤمِنُ حَالَ الضِيقِ وَالشِّدَّةِ، وَاسْمَعُوا مَا قَالَ مُوسَى لِقَومِهِ: وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف: 127].

وَبعدُ: أيُّها النَّاسُ، فَلَيسَ الدُّعَاءُ نَافعًا إذَا لم يخرُجْ مِنْ نُفُوسٍ مُؤمِنَةٍ وَقُلُوبٍ صَادِقَةٍ، وأَفْضَلُ الدُّعَاءِ مَا كَانَ بِظَهر الغَيبِ، وَأَسْمَعُهُ حِينَ يَكْونُ الثُّلثُ الآخِرُ مِنَ الَّليلِ، وَلِيَعلَمِ النَّاسُ أَنَّ الاقْتِدَاءَ بِأدْعِيَةِ النَّبِيِّ مَطْلَبٌ مُؤَكدٌ حَالَ دُعَاءِ الدَّاعِي، وَلِيعلَمِ النَّاسُ أنَّ اسْتحْضَارَ مَعَانِي الدُّعَاءِ حَالَ قَولِهِ أمرٌ مُهِمٌ، فَلاَ بُدَّ مِنْ نِيَّةٍ صَادِقةٍ وَقَلْبٍ حَاضِرٍ، فَإِنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ غَافِلٍ لاَهٍ.

وَبَينَ يَدَيَّ دُعَاءٌ مِنْ أَربعِ جُمَلٍ كَانَ يَدعُو بِهِ ، جَمَع مَعَاني عَظِيمَةً، فاحْفَظُوه وادْعُوا بهِ؛ لأنَّ مَنْ دَعَا بِهِ فَقدْ دَعَا بِأمرٍ عَظِيمٍ جَامِعِ.

رَوَى الإمَامُ مُسلمٌ وَأبُو دَاودَ عن عَبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضِي اللهُ عنهما قالَ: كانَ منْ أَدعِيةِ النَّبِيِّ : ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وفجاءَةِ نِقْمَتِكَ وجَمِيعِ سَخَطِكَ)).

النِّعَمُ لاَ يَعرِفُ قَدْرَهَا ـ عِبادَ اللهِ ـ إلاَّ مَنْ فَقَدْهَا، ولاَ نِعمةَ أعظَم مِنْ نِعمَةِ الإسلامِ، فَإِنَّ الإسْلاَمَ إِذَا زَالَ زَالَ كُلُّ شَيءٍ، وَالمقْصُودُ مِنْ زَوالِ النِّعَمِ انْتَهاؤهَا وَفَنَاؤُهَا، وَعَلَى عِظَمِ هَذَا الدِّينِ يعظمَ خُرُوج المَرءِ مِنهُ، يَقُول الرَّسُولُ : ((مَنْ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحدُهُمَا)) رَوَاهُ الإمَامَ أَحمدُ، وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمسلمٌ عِن عُمَرَ أَنَّ رسُولَ اللهِ قَالَ: ((إذَا قَالَ الرَّجُلُ لأَخِيهِ: يَا كَافِر فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ وَإلاَّ رَجَعتْ عَلَيهِ))، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالكُفْرِ أَو قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيسَ كَذلِكَ إلاَّ حَارَ عَلَيهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.

فَانْظُرُوا أَنَّ نِعْمَةً قَدْ يُنْقِصُ المرءُ كَمَالهَا بِلَفْظٍ يَسِيرٍ فَكَيفَ غَيرُهَا؟! اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ.

أيُّهَا النَّاسُ، مَا أَكثَر مَا يَسْأَلُ النَّاسُ رَبَّهمْ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، وَغَالِبُهمْ لاَ يَدْرِي مَا العَافِيَةُ المَقْصَودَةُ، إِنَّ العَافِيَةَ فِي البَدَنِ مِنَ الأَمْرَاضِ مَا هِيَ إِلاَّ جِزءٌ يَسِيرٌ مِنَ العَافِيَةِ الحَقِيقِيَّةِ، العَافِيةُ هِيَ أَنْ تُعَافَى مِنْ تَعْرِيضِ دِينِكَ لأُمُورٍ تُنْقِصُهُ، العَافِيةُ أَنْ يَسْلَمَ الإِنْسَانُ مِنَ الفِتَنِ، العَافِيَةُ هِيَ مَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ حِينَمَا قَالَ عَنْ آخِرِ الزَّمَانِ: ((يوشِكُ أنْ يكُونَ خيرُ مَالِ المُسْلمِ غَنَمٌ يتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ؛ يفِرُّ بِدينهِ منَ الفِتَنِ)) رواه البخاريُّ.

وَكَمَا تَرَونَ ـ أيُّها الإخْوَةُ ـ فَإِنَّ فِئامًا مِنَ المَرْضَى يَشْتَرونَ المَرَضَ شِرَاءً كَمَا هُوَ حَالُ أصحابِ المُخَدِّرَاتِ وَالمُسْكِرَاتِ، فَكَذَلِكَ الحَالُ فِي أُنَاسٍ كَفَاهُم اللهُ أنْ يَكُونُوا طَرَفًا في فتْنَةٍ أَو بَابًا إِلى حَرْبٍ، وَيَأبَونَ إلاَّ أَنْ يقحِمُوا أَنْفُسَهُمْ فِيهَا، وَرَحِمَ اللهُ سَعِيدَ بنَ جُبَيرٍ، فَقَدْ أُثِرَ عَنْهُ أَنَّه قَالَ حينَ سُئِلَ عَنْ دِمَاءِ الصَّحَابةِ، قَالَ: تلكَ فِتنةٌ عَصَمَ اللهُ مِنْهَا يَدِي أَفَلاَ أُطَهِّرُ منها لِسَاني؟! وَقَالَ هَذِهِ الكَلِمةَ بَعدَهُ كَثيرٌ مِنَ السَّلَفِ. وَمِمَّا أثِرَ عِنِ الحَسنِ البَصْرِيِّ أَنَّه قَالَ: "مِنْ عَلاَمَةِ إعَرَاضِ اللهِ عَنْ عَبدِه أنْ يَجْعَلَ شُغْلَه فِيما لاَ يَعنِيه". وَقَالَ أَحد السَّلفِ: "هَلاَكُ النَّاسِ فِي خَصْلَتينِ: فُضُولُ مَالٍ وَفُضولُ مَقالٍ". اللَّهُمَّ إِنِّا نعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ.

عِبادَ اللهِ، إِنَّ اللهَ تَوعَّدَ العُصَاةَ بِالعُقُوبَةِ، وَلَكِنَّ العُقُوبَةَ تَشْتَدُّ إِذَا كَانَتْ فَجأةً مِنْ غَيرِ سَابِقِ إِنْذَارٍ، كَمَا أَنَّ عُقُوبَاتِ اللهِ مُتَنَوعَةٌ، فَقَدْ تَكُونُ فِي ظَاهِرهَا نِعْمَةً وَهِيَ عُقُوبَةٌ مِنَ الله، فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24]، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الأعراف: 133]. اللَّهُمَّ إنَّا نَعْوذُ بِكَ مِنْ فجاءَةِ نِقْمَتِكَ.

أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللهَ إذَا سَخِطَ عَلَى قَومٍ أَشْغَلَهمْ بِمَا يَكُونُ بِهِ هَلاَكُهم، وَسَخَطُ اللهِ شَدِيدٌ إِذَا خَالفَ النَّاسُ أَمْرَهُ وَابْتَعَدُوا عَنْ هَدِي نَبيِّهِ ، وَرَوَى البُخَاريُّ فِي صَحِيحِهِ: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمَ بِالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ))، وَكَانَ مِنْ دُعَائه فِي الوِتْرِ: ((اللَّهُمَّ إني أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ)) رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ وَالبُخَاريُّ فِي الأَدَبِ المُفردِ وَهَذَا لَفظُهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((إنَّ اللهَ يْرضَى لكُم ثلاثًا، وَيَسْخَطُ لَكُم ثَلاثًا: يَرْضى لَكُم أنْ تَعْبدُوهُ ولا تُشْرِكوا بهِ شيئًا، وأنْ تَعْتَصِموا بحبلِ اللهِ جَميعًا ولا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحَوا مَنْ وَلاَّه اللهُ أَمْرَكُم، وَيَسْخَطُ لَكُم: قِيلَ وقال، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ المَالِ)).

أيُّهَا الإخوةُ، إِنَّ النَّاسَ لاَ يَقْوَونَ عَلَى سَخَطِ اللهِ وَغَضَبِهِ، فَأكْثِرُوا مِنَ الاسْتِعَاذَةِ مِنْ غَضَبِهِ سُبحَانَهُ. اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَمِيع سَخَطِكَ.

فَانْظُروا كَيفَ أَنَّ هذَا الدُّعَاءَ علَى اختصَارِ جُمَلِهِ قَدْ حَوَى مَعاني عَظِيمَة، وَفَّقَنَا اللهُ لِكُلِّ خَيرٍ.

أقُولُ قَولي هَذَ،ا وَأسْتَغْفرُ اللهَ...

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمَينَ، مَالِكِ الخَلْقِ ومُوجِدِهِم، وَهُوَ القَادِرُ عَلَى إهْلاَكِهم كَمَا خَلَقَهُم، وَأشهدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحْدهُ لاَ شَريكَ لَه، وأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عبده وَرسولُهُ، صلَّى الله عَليهِ وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثيرًا.

أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأطِيعُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدُّعَاءَ سِلاَحٌ لَيسَ لَهُ ثَمَنٌ، فَالنَّاسُ فِيهِ سَواءٌ؛ غَنِيُّهمْ وَفَقِيرُهُمْ وَحَقِيرُهُمْ، وَإنَّما تَتَبيَّنُ الأُمُورُ وَتَتضِحُ إِذَا صَدَقَ النَّاسُ فِي لُجوئِهم إِليِهِ سُبْحَانَهُ: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ قُلْ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام: 63-65].

عِبادَ اللهِ، إِنَّ الحَدِيثَ مَعَ النَّاسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى قَدْرِ مَكَانَتِهمْ، فَإِقْحَامُ عَامَةِ النَّاسِ فِي أُمُورٍ هِيَ مِنْ خَصَائِصِ الوُلاَةِ مِنَ الخَلْطِ وَالغَلَطِ، وَلِهَذَا لَمَّا وَقَعَتْ فِتْنَةٌ فِي إحْدَى مُدنِ العِرَاقِ فِي القَرْنِ الخَامِسِ أَرْسَلَ بَعْضٌ مِنْ عَوَامِّ النَّاسِ سُؤَالاً إِلى الإِمَامِ ابِنِ البَنَّا يَسْتَفْتُونَهُ فِي تِلْكَ الفِتْنَةِ، فَأَجَابَهمْ بِرسَالَةٍ مُؤَلَّفَةٍ سَمَّاهَا: (الرِّسَالةُ المُغْنِيَةُ فِي السُّكُوتِ وَلُزُومِ البُيُوتِ).

فَالزَمُوا الدُّعَاءَ؛ فَإِنَّهُ نِعْمَ العَونُ حَالَ الفِتَنِ واخْتِلاَلِ الأُمُورِ.

اللَّهُمَّ أَلْهِمنَا رُشْدَنَا، وَقِنَا شَرَّ أَنْفُسِنَا، اللَّهمَّ اهْدِنَا وَسَدِّدْنَا، اللَّهمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وفجاءَةِ نِقْمَتِكَ وجَمِيعِ سَخَطِك، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الأَخْلاَقِ والأقوالِ والأَعْمَالِ...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً