أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الناس، يجذِب المتدبرَ لكتاب الله آيةٌ قرآنية شريفة، تكشف حال كثير من الناس، من وعاها وعى كل خير، ومن تدبرها فاز بموعظتها وهدايتها: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126].
تنزل بفئام المحن والرزايا فلا يتوبون ولا ينتهون، وتزورهم الأسقام والبليات فلا يتعظون ولا يذّكّرون! لكأنّ القلوب قاسية والنفوس خاوية، مع أنها تصلّي وتصوم وتحج وتتصدق!
أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ، لقد شاهدوا الفتن والمصائب في أنفسهم وأهليهم وجيرانهم وفي أمتهم، فما لهم لا يتعظون؟! وما لهم لا يتذكرون؟! لم لا يقطعون من فتنة أكلت وافترست؟! ولم لا يعتبرون من مصيبة فتكت وأفنت؟! فالصحة نقصت والمال تلاشى، والسيادة تكدرت والراحة تعكرت، والموت في كل ساعة له حاجة وغاية، فما لنا من متّعظ، وما لنا مزدجَر، وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة: 155].
إن الإنسان ـ عباد الله ـ مبتلى في هذه الحياة، وممتحن في نفسه وماله وأهله، فالكافر يبتلى، والمسلم يبتلى، ولكن الكافر يبتلى فيضلّ طريقه وربما نزع لشهوته وهواه، والمؤمن إذا ابتُلي عرف طريقه وأبصر ربه، وأدرك أن وجهته إلى الله، وأن شفاءه إلى الحي القيوم، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [التغابن: 11].
وقد قال رَجل الجاهلية قبل إسلامه لما سأله النبي : كم تعبد إلهًا؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال له النبي : ((من الذي تُعد لرغبك ورهبك؟)) قال: الذي في السماء.
فهذا مشرك يعترف بأن ملاذه ومفزعه إلى الله تعالى إذا ألمت الملمات، فكيف بمؤمن يؤمن بالله وباليوم الآخر، ويؤمن بسر الله في خلقه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف. مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير [الحديد: 22].
إن إدراك المسلم بأن الله مقدر الأقدار وخالق كل شيء يهوّن عليه مصابه، ويدفعه إلى الخضوع لربه والانطراح بين يديه والاعتماد عليه، حين تنزل الأركان وتهتز القوائم والعمدان.
وإن المؤمن في كربه وفي خضم شدته ليأوي إلى ركن شديد وإلى عماد متين، ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ [النحل: 53].
أيها الإخوة الكرام، لا تزال الحياة دار ابتلاء وامتحان، يبتلى فيها أهل الإيمان على قدر إيمانهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِط فله السخط، الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيكم أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ [الملك: 2].
لقد أحسَّ كثير من الناس وأيقنوا بفظاعة البلوى وحرارة المصيبة، ولكن القليل من يعتبر، واليسير من يتنبه ويتفكر، فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة: 86].
طُبعت علـى كدر و أنت تريـدها صفوًا مـن الأقذاء والأكـدارِ
ومكلـف الأيـام ضد طبـاعهـا متطلِّب فِي الْمـاء جذوة نـارِ
ابتلي مُحرِز الأموال وجمّاعها فما أحدث له توبة! وما بذل من ماله لله شيئا! وانهارت تجارة فلان فما فزع إلى الله! وتضاعف السقم على بعضهم فما انكسر لله! ولا تواضع لعباد الله تعالى! وتوالت الفتن على الأمة فما عُرف الله ولا تسارعوا إليه!
لماذا لا تحرك الفتن والرزيات قلوب بعض الناس، فتنقلها من الردى للهدى، ومن السقم للصحة، ومن الضلال للصلاح، ومن الموت للحياة، ومن الغفلة لليقظة والاعتبار؟! فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. هل ماتت قلوب هؤلاء، أم أنها تعيش في دار مغلقة لا يصل إليها النور ولا تنفذ إليها الموعظة؟! وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغَافِلُونَ [الأعراف: 179].
مسلم متبصر ابتلي في ماله فما تغير، وافتتن في نفسه فما تفكر، وأوذي في ولده فما اتعظ، فيا للعجب! ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 74].
يُنتَفَع ببعض الأحجار ولا ينتَفَع بقلوب هؤلاء القساة التي أماتتها الذنوب وأصمتها المعاصي وأهلكها حب الدنيا والتعلق بها، ((فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)).
ما أمات القلوبَ ـ يا مسلمون ـ شيء كالذنوب، ولا أحياها شيء كذكر الله والإقبال على طاعته ومجاهدة النفس على ذلك، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
لماذا لا تتوبون وقد فرقتكم المصائب؟! ولماذا لا تنتهون وقد أضنتكم الأسقام وشقت فيكم البليات؟! فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، ومن يرد الله به خيرًا يُصب منه ويزد في بلائه؛ ليرفع درجاته ويمحص عنه سيئاته، فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء: 19].
إن الفتن والبلايا ـ عباد الله ـ محَكّ اختبار الخلق، وخليق بمن ذاق حرارتها أن يتوب إلى ربه، ويفرّ إلى خالقه تائبًا منيبًا مستغفرًا، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
هل يصبح هؤلاء كالكفرة والمنافقين، لا يتعظون بآيات الله، ولا يتذكرون بما يرون من ملاقٍ ويواجهون من شدائد؟! أين دين تعلقوا به وربٌ آمنوا به وقرآن قرؤوه وحفظوه ورددوه ورتلوه؟! أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [المائدة: 74]. وقد كان نبينا إذا حزنه شيء فزع إلى الصلاة، وهو فرار إلى الله وخضوع بين يديه.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها...
|