.

اليوم م الموافق ‏17/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله

5410

العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

القتال والجهاد, غزوات

حمزة بن فايع الفتحي

محايل

25/11/1422

جامع الملك فهد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية تدبر القرآن حال تلاوته. 2- قتال أتباع الرسل ووصف الله لهم بالصبر. 3- كتاب النبي إلى عظيم الروم. 4- سبب معركة مؤتة. 5- بكاء عبد الله بن رواحة وكلمته العظيمة. 6- قوة جيش مؤتة رغم قلة عددهم وعتادهم. 7- أحداث معركة مؤتة. 8- إخبار النبي لأهل المدينة في المدينة بوقائع غزوة مؤتة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].                   

معاشر المسلمين، كتابكم القرآن هو مصدر عِزّكم وشرفكم، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]. فهل إذا تلاه العقلاء تفكروا فيه؟! وهل إذا قرأه بعضنا تدبّره كما أمر الله، أم أننا نقرؤه كقراءة الغافلين الذين يُردّدونه بلا وعي، ويحسّنُونَه بلا اتعاظ، ويقومون به بلا تخشع وتأثر؟! إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2].

أيها الإخوة، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، من تأملها علم عظمة هذا الإيمان، وأدرك علو هِمم المؤمنين وشدّةَ صبرهم وجهادهم، وأنه لا طريق للوَهَن إليهم، ولا باب لليأس إلى قلوبهم، فهم بإيمانهم أقوياء أشِدّاء، وهم بشجاعتهم أفذاذ بُسَلاء، وهم بصبرهم وإقدامهم لا يَذِلُّون ولا يهِنُون ولا يضعفون، وعلى ربهم يتوكلون.

قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 45]. فالله يقول: كم من نبي قاتل وقاتل معه جماعاتٌ كثيرةٌ، فما وهَنوا ولا ضعُفُوا من شدّة القتل والجراحات، ولا ارتدّوا على أدبارهم، ولا تنازلوا عن مبادئهم، جاهدوا مع الضعف، وصبروا مع البلاء، وقاوموا رغم الإحباط والتخذيل.

أيها الإخوة الكرام، ومن العجائب في التاريخ أن يتجاسر جيشٌ صغير قليل العدد ضعيفَ العُدّة، يتجاسر على ملاقاة جيشٍ كبير، ترجُف من سماعه الأرواح قبل رؤيته ومعاينته. يخرج ثلاثة آلاف مقاتل لمنازلة مائتي ألف مقاتل! أين موقع ثلاثة آلاف من هذا البحر الخِضَم؟! وأين قوتهم؟! وأين عتادهم؟! أمرٌ عجيبٌ لا تقبله العقول! خرجَ هؤلاء نصرةً لدين الله وطاعةً لرسول الله وحميةً لإخوانهم الذين قُتلوا غدرًا وخيانة.

فبعد أن وطَّد النبي حكم الإسلام في المدينة بعث بالرسل والكتب إلى ملوك الأرض وعظمائها، يدعوهم إلى الإسلام، ويُحذّرهم الكفر والضلالة، فكان ممن بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى، فعرض له شُرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قِبل قيصر، فأوثقه رباطًا ثم قدَّمه فضرب عنقه، فكانت هذه الفِعلة الشنيعة ـ وهي قتل الرُّسل ـ كافيةً لإعلان الحرب على الرومان مهما كان الثمن، فإن قتل الرسول يعني استضعاف الخصم وامتهان قيادته والتحدي له بالمقاومة، فما كان من النبي إلا أن قفَّ شعره والتهبت غيَرته واشتد بأسه، فجهز جيشه الصغير الذي خرج إلى مؤتة من بلاد البلقاء الأردن، وهناك كانت المواجهة العنيفة والمعركة الدامية التي يخوضها المسلمون لأوّل مرة ومع جيش ضخم ومتطوّر ومتحضّر.

هيأ رسول الله جيشه، وأمّرَ عليهم زيد بن حارثة وقال: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة))، وعقد لهم لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة. خرج الجيش الإسلامي وكلُّه بأس وإقدام وشجاعة، يجلّلهم الإيمان، وتغشاهم السكينة، ويعلوهم اليقين، إما النصر وإما الشهادة. فبدأ الناس يودّعُون الجيش وأمراء رسولِ الله، فبكى عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟! فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابةً بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًا [مريم: 71]، فلست أدري كيف الصدور بعد الورود؟! فقال المسلمون: صَحِبكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:

لكنِّـي أسـأل الرحْمـن مغفرةً        وضربـةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا

أو طعنـة بيـدي حرّان مجهـزةً        بِحربـة تنفذ الأحشـاءَ والكِبدا

حتى يقـال إذا مرّوا على جدثي:        أرشـده الله من غـازٍ وقد رشَدا

هكذا ـ يا مسلمون ـ هي نفسية المؤمن بالله والمؤمن بوعده، لا تُهمّه الدنيا ولا يعيش لها، وإنما يتمنى أمانيَ ساميات وأشياءَ عجيبات، فهو لا يبكي للبقاء، وإنما يبكي للِّقاء، ويتمنى من الله تعالى منازل الشهداء الذين يبذلون أرواحهم فداءً لله، ويُضحّون بأنفسهم حبًا لدينه، ويسعون بلا تردّد ابتغاء ما عنده، فهل رأيتم أو سمعتم بأكبر من هذه الأماني؟!

ويتجه الجيش المؤمن الباسل إلى الأردن، ويعسكر في مَعان، وهناك تأتيهم الأخبار بأن جيش الروم عظيم جِدُّ عظيم، وقد يكون من المخاطرة منازلتهم بثلاثة آلاف مقاتل، فيتشاورون ويفكِّرون، فيقول بعضهم: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فيفزّ ابن رواحة معترضًا هذا الرأي، ومحرِّضًا على القتال، ومشجّعًا الناس، فيقول: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحُسنيَين، إما ظهورٌ وإما شهادة. فأجمع الناس على كلام ابن رواحة، وجعلوا هذا اللّقاء الدامي طريقًا للجنة وسُلَّمًا للحياة السعيدة وشعارًا للمجد والعلاء، متجاوزين بذلك حدود المعقول والمألوف، ومحطمين القوانين المادية والإجراءات العسكرية، وسجلوا لنا في تاريخنا المجيد صورًا من البسالة والإقدام، نظل نرويها ونتمدح بها ونمسح بها صور المذلة والهوان، والله المستعان.

وبعد الخروج من مَعان تحرك الجيش إلى أرض المعركة، وهناك رأوا جيش الروم، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتهيؤوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. وهناك في مؤتة اصطدم الفريقان: جيش الهدى وجيش الضلالة، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل! معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبَّت ريح الإيمان جاءت بالعجائب والمذهلات. أخذ الرايةَ زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله، وجعل يقاتل بضراوة بالغة وبسالة لا يوجد لها نظير، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخرّ صريعا مسجِّلاً صورة عجيبة من البسالة واقتحام الأهوال بفضل إيمانه وصدقه ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام، وكما رأيتم كان زيد رضي الله عنه طليعة الأبطال الشهداء الذين هيجتهم نسمات الجنة للبذل والتضحية، وسحق الجبن والمخافة، ولم يُبقِ خلفه إلا الشجاعة القاهرة التي صنعها الإيمان ويتربى عليها الأجيال.

وبعده أخذ الراية جعفر بن أبي طالب ، وطفق يقاتل قتالاً عجيبًا، حتى إذا أرهقه القتال اقتحم عن فرسه الشقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قُطعت يمينه، فأخذ الراية بشماله، ولم يزل بها حتى قطعت شماله، فاحتضنها بعضديه، فلم يزل رافعًا إياها حتى قتل. ويقال: إن روميًا ضربه ضربةً قطعته نصفين، وأثابه الله بجناحيه جناحين في الجنة، يطير بهما حيث يشاء، ولذلك سمي بجعفر الطيار، وبجعفر ذي الجناحين. وفي صحيح البخاري عن نافع أن ابن عمر أخبره أنه وقف على جعفر يومئذٍ وهو قتيل، يقول: فعددتُ به خمسين بين طعنةٍ وضربهٍ، ليس منها شيء في دبره، يعني ظهرَه. ولما قُتل جعفر أخذ الراية ابن رواحة، فتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردّد بعض التردّد، حتى حاد حَيدةً، ثم قال:

أقسمـتُ يا نـفس لتنزِلنَّـهْ  مطـاوعـةً أو لتُكـرَهِنَّـه

إن أجلب الناسُ وشدّوا الرنه   مَا لي أراكِ تكرهيـن الجنةْ؟!

ثم نزل فأتاه ابن عم بَعْرق من لحم فقال: شُدَّ بهذا صلبَك، فإنك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده فانتهس منه نهسة، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه فتقدم، فقاتل حتى قُتل .

ثم اصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فقاتل قتالا مريرًا، حتى تكسّرت في يده تسعة أسياف، يقول خالد كما في الصحيح: ودُقَّ في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، ولم تبق معي إلا صفيحة يمانية. وكان رسولنا جالسا على المنبر، فنقل أحداثَ المعركة إلى الناس في المدينة عن طريق الوحي، فقال وعيناه تذرِفان: ((أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأُصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم)).

وبالفعل لقد كان فتحًا عظيمًا ونصرًا مبينًا بفضل الله تعالى ثم بسالة هؤلاء الأبطال، فقد حمل الراية سيف الله خالد، فهدَّ صفوف الروم وأثخن فيهم، حتى تكسرت عليه تسعة أسياف، واستطاع بخبرته العسكرية أن ينحاز بالجيش الصغير، ويوهم الروم بمجيء المدد، فتراجع الرومان، وغنم المسلمون منهم، ولم يمت من جنود الله إلا اثنا عشر رجلاً.

وفي هذه المعركة علَّمنا أبطال الإسلام فضيلة التضحية والفداء، وأن الدنيا لا مكان لها في أحاسيسهم ومشاعرهم، وعلمونا أهمية الصبر والثبات على المبدأ، وعلمونا أن النصر من عند الله، وأنهم لا يقاتلون الأعداء بعدة وقوة وكثرة، وإنما بدينهم وإخلاصهم، فمن صدق صدقه الله، ومن بدّل بدّل الله عليه. مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 23]. وعلمتنا مؤتة أن منازل المجد والعلياء يحققها الأبطال الأفذاذ الذين يشقون الأهوال ويخترقون الآفاق.

لقِّـني درس الصـمـودِ      مـن خـاف وأحجـمْ

وأرينـا كيـف يقضـي       السيـف بالعدل ويحكمْ

لـن ينـال النصر مَـن       بالنـوم والراحة ينعـمْ

وكسيـح الهمّـة الخوار       مـا فـاز بِمـغـنـمْ

فعودوا ـ يا مسلمون ـ لذلك التاريخ، وتعلموه، وعلّموه الأجيال...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً