أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، كتابكم القرآن هو مصدر عِزّكم وشرفكم، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأنبياء: 10]. فهل إذا تلاه العقلاء تفكروا فيه؟! وهل إذا قرأه بعضنا تدبّره كما أمر الله، أم أننا نقرؤه كقراءة الغافلين الذين يُردّدونه بلا وعي، ويحسّنُونَه بلا اتعاظ، ويقومون به بلا تخشع وتأثر؟! إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [الأنفال: 2].
أيها الإخوة، آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، من تأملها علم عظمة هذا الإيمان، وأدرك علو هِمم المؤمنين وشدّةَ صبرهم وجهادهم، وأنه لا طريق للوَهَن إليهم، ولا باب لليأس إلى قلوبهم، فهم بإيمانهم أقوياء أشِدّاء، وهم بشجاعتهم أفذاذ بُسَلاء، وهم بصبرهم وإقدامهم لا يَذِلُّون ولا يهِنُون ولا يضعفون، وعلى ربهم يتوكلون.
قال تعالى: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 45]. فالله يقول: كم من نبي قاتل وقاتل معه جماعاتٌ كثيرةٌ، فما وهَنوا ولا ضعُفُوا من شدّة القتل والجراحات، ولا ارتدّوا على أدبارهم، ولا تنازلوا عن مبادئهم، جاهدوا مع الضعف، وصبروا مع البلاء، وقاوموا رغم الإحباط والتخذيل.
أيها الإخوة الكرام، ومن العجائب في التاريخ أن يتجاسر جيشٌ صغير قليل العدد ضعيفَ العُدّة، يتجاسر على ملاقاة جيشٍ كبير، ترجُف من سماعه الأرواح قبل رؤيته ومعاينته. يخرج ثلاثة آلاف مقاتل لمنازلة مائتي ألف مقاتل! أين موقع ثلاثة آلاف من هذا البحر الخِضَم؟! وأين قوتهم؟! وأين عتادهم؟! أمرٌ عجيبٌ لا تقبله العقول! خرجَ هؤلاء نصرةً لدين الله وطاعةً لرسول الله وحميةً لإخوانهم الذين قُتلوا غدرًا وخيانة.
فبعد أن وطَّد النبي حكم الإسلام في المدينة بعث بالرسل والكتب إلى ملوك الأرض وعظمائها، يدعوهم إلى الإسلام، ويُحذّرهم الكفر والضلالة، فكان ممن بعث الحارث بن عمير الأزدي إلى عظيم بصرى، فعرض له شُرحبيل بن عمرو الغساني وكان عاملاً على البلقاء من أرض الشام من قِبل قيصر، فأوثقه رباطًا ثم قدَّمه فضرب عنقه، فكانت هذه الفِعلة الشنيعة ـ وهي قتل الرُّسل ـ كافيةً لإعلان الحرب على الرومان مهما كان الثمن، فإن قتل الرسول يعني استضعاف الخصم وامتهان قيادته والتحدي له بالمقاومة، فما كان من النبي إلا أن قفَّ شعره والتهبت غيَرته واشتد بأسه، فجهز جيشه الصغير الذي خرج إلى مؤتة من بلاد البلقاء الأردن، وهناك كانت المواجهة العنيفة والمعركة الدامية التي يخوضها المسلمون لأوّل مرة ومع جيش ضخم ومتطوّر ومتحضّر.
هيأ رسول الله جيشه، وأمّرَ عليهم زيد بن حارثة وقال: ((إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة))، وعقد لهم لواءً أبيض ودفعه إلى زيد بن حارثة. خرج الجيش الإسلامي وكلُّه بأس وإقدام وشجاعة، يجلّلهم الإيمان، وتغشاهم السكينة، ويعلوهم اليقين، إما النصر وإما الشهادة. فبدأ الناس يودّعُون الجيش وأمراء رسولِ الله، فبكى عبد الله بن رواحة، فقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟! فقال: أما والله ما بي حب الدنيا ولا صبابةً بكم، ولكني سمعت رسول الله يقرأ آية من كتاب الله عز وجل يذكر فيها النار: وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًا [مريم: 71]، فلست أدري كيف الصدور بعد الورود؟! فقال المسلمون: صَحِبكم الله ودفع عنكم وردَّكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:
لكنِّـي أسـأل الرحْمـن مغفرةً وضربـةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا
أو طعنـة بيـدي حرّان مجهـزةً بِحربـة تنفذ الأحشـاءَ والكِبدا
حتى يقـال إذا مرّوا على جدثي: أرشـده الله من غـازٍ وقد رشَدا
هكذا ـ يا مسلمون ـ هي نفسية المؤمن بالله والمؤمن بوعده، لا تُهمّه الدنيا ولا يعيش لها، وإنما يتمنى أمانيَ ساميات وأشياءَ عجيبات، فهو لا يبكي للبقاء، وإنما يبكي للِّقاء، ويتمنى من الله تعالى منازل الشهداء الذين يبذلون أرواحهم فداءً لله، ويُضحّون بأنفسهم حبًا لدينه، ويسعون بلا تردّد ابتغاء ما عنده، فهل رأيتم أو سمعتم بأكبر من هذه الأماني؟!
ويتجه الجيش المؤمن الباسل إلى الأردن، ويعسكر في مَعان، وهناك تأتيهم الأخبار بأن جيش الروم عظيم جِدُّ عظيم، وقد يكون من المخاطرة منازلتهم بثلاثة آلاف مقاتل، فيتشاورون ويفكِّرون، فيقول بعضهم: نكتب إلى رسول الله فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدّنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره، فيفزّ ابن رواحة معترضًا هذا الرأي، ومحرِّضًا على القتال، ومشجّعًا الناس، فيقول: يا قوم، والله إن التي تكرهون لَلتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعددٍ ولا قوةٍ ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحُسنيَين، إما ظهورٌ وإما شهادة. فأجمع الناس على كلام ابن رواحة، وجعلوا هذا اللّقاء الدامي طريقًا للجنة وسُلَّمًا للحياة السعيدة وشعارًا للمجد والعلاء، متجاوزين بذلك حدود المعقول والمألوف، ومحطمين القوانين المادية والإجراءات العسكرية، وسجلوا لنا في تاريخنا المجيد صورًا من البسالة والإقدام، نظل نرويها ونتمدح بها ونمسح بها صور المذلة والهوان، والله المستعان.
وبعد الخروج من مَعان تحرك الجيش إلى أرض المعركة، وهناك رأوا جيش الروم، فدنا العدو وانحاز المسلمون إلى مؤتة، فعسكروا هناك، وتهيؤوا للقتال، فجعلوا على ميمنتهم قطبة بن قتادة العذري، وعلى الميسرة عبادة بن مالك الأنصاري. وهناك في مؤتة اصطدم الفريقان: جيش الهدى وجيش الضلالة، ثلاثة آلاف رجل يواجهون هجمات مائتي ألف مقاتل! معركة عجيبة تشاهدها الدنيا بالدهشة والحيرة، ولكن إذا هبَّت ريح الإيمان جاءت بالعجائب والمذهلات. أخذ الرايةَ زيد بن حارثة حِبُّ رسول الله، وجعل يقاتل بضراوة بالغة وبسالة لا يوجد لها نظير، فلم يزل يقاتل ويقاتل حتى شاط في رماح القوم، وخرّ صريعا مسجِّلاً صورة عجيبة من البسالة واقتحام الأهوال بفضل إيمانه وصدقه ، فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 146].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
|