.

اليوم م الموافق ‏14/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

عمر الفاروق

5409

سيرة وتاريخ

تراجم

حمزة بن فايع الفتحي

محايل

17/8/1422

جامع الملك فهد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. 2- طرف من أخباره وعدله وشجاعته وعبادته وزهده. 3- الوصية بقراءة التأريخ واستلهام الدروس والعبر منه.

الخطبة الأولى

معاشر المسلمين، اليوم نحن في المدينة المنورة، نستنير بنورها، ونهتدي بهداها، ونستلهم عزها ومجدها، من خلال سيرة رفيعة جليلة وتاريخ مشرق مجيد، رفرفت في زمنه معالم العدل، وتجسدت في حياته خصال البطولة، وشمخت في مدته عزة المسلمين.

لماذا تنتقل إلى المدينة في جوّ ملبَّد بالدخان وصعيد ملون بالجراحات؟! انتقلنا إلى المدينة لنعيدَ للتاريخ قيمتهَ وللأمة حياتها وللمسلمين قوتهم، فإن في التاريخ عبرة لنا لو اعتبرنا، وفيه موعظة لنا لو اتعظنا، وفيه مستقبلنا لو تفكرنا، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ [يوسف: 111]، فنلتجئ إليه لنجدد ذكراه، ولنمحو شيئا من العار، ولنسعد ولو شيئا قليلاً.

نحن في المدينة النبوية، لسنا في بساتينها الغناء، ولا في قصورها الشامخة، ولا في مؤسساتها الضخمة، وإنما في مكان متواضع موحش، يزوره خليفة المسلمين عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه. فقد رآه طلحة بن عبيد الله رضي الله تعالى عنه في ليلة من الليالي يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟ قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني، يأتيني بما يُصلحني ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثراتِ عمر تتبع؟!

ماذا أقول ـ يا مسلمون ـ في هذا الرجل الملهم العظيم؟! أأتكلم عن إيمانه الصلب، أم أتكلم عن عدله وسياسته، أم أتكلم عن شجاعته وبطولته، أم أروي لكم قصص زهده وفقره، أم أطوف بكم في حدائق بيانه وحكمته؟!

رجل مبارك عظيم، صنع منه الإسلام أعجوبة نادرة، فما عرف التاريخ مثله، وما أنجبت النساء نظيره، تخرج من مدرسة محمد الذي رباه برعايته وفجر طاقاته وأبرز محاسنه مواهبه، قال : ((إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم ناس مُحدَّثون ـ أي: مُلهمون ـ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)).

كان قبل الإسلام بدويًا جلفًا شرسَ الأخلاق، من بني عدي، وكان شديد الوطأة على المسلمين، شديد الحنق على رسول الله ودعوته، حتى نفر الناس منه ويئسوا من إسلامه، فقال القائل: والله، لا يسلم حتى يسلمَ حمارُ الخطاب.

فأسلم ابن الخطاب، وكان بشارة دعاء رسول الله ، واهتزت مكة من الفرح وارتجت نواحيها بالتكبير، وعزَّ به المسلمون المستضعفون، قال ابن مسعود كما في صحيح البخاري: (لم نزل أعزةً منذ أسلم عمر).

ولما دقت ساعة الهجرة هاجر الناس مستخفين متسلّلين، أما عمر رضي الله عنه فقد صنع شيئا مهولاً؛ إذ تقلد سيفه وتنكَّب قوسه، ومضى قِبَل الكعبة، فطاف بالبيت ثم صلى، وخاطب الملأ من قريش بهذا البيان الرسمي الخطابي فقال: (شاهت الوجوه، لا يُرغم الله إلا هذه المعاطس ـ أي: الأنوف ـ، من أراد أن يُثكل أمه أو ييتِّم ولده أو يُرمل زوجته فليلقني وراء هذا الوادي)، فما تبعه أحد من سادات قريش.

لقد جعل الإسلام من شدة عمر رضي الله عنه شدة في أمر الله، اهتزت لها عروش الجبابرة، وفرَقت منها قلوب الشجعان، وفيه يقول في معرض الثناء على صحابته الكرام: ((وأشدّهم في أمر الله عمر))؛ حينما كان يغلظ على أعداء الله ويغضب لحرماته وينطق بالحق، لا تأخذه في الله لومة لائم.

في أسرى بدر يشاور النبي فيهم صحابته، فيشيرون بالسماح والفداء، فيقول رسول الله: ((ما ترى يا ابنَ الخطاب؟)) فيقول الشديد في أمر الله: لا والله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكّنّي من فلان فأضرب عنقه، وتمكّن حمزة من أخٍ له فيضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، حتى يُعلم أنْ ليس في قلوبنا هوادةٌ للكفار، هؤلاء صناديدهم وقادتهم وأئمتهم، فيُعرِض رسول الله عن مشورة عمر، فينزل القرآن مصدقًا لعمر: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 67].

وفي غزوة أحد يعلو أبو سفيان الجبل ويصيح: أفيكم محمد؟ أفيكم ابن أبي قحافة؟ أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلا يجيبونه حيث نهاهم رسول الله عن إجابته، فقال أبو سفيان ظانًا موتهم: أمّا هؤلاء فقد كفيتموهم، فلم يتمالك عمر نفسه، فقال: كذبتَ يا عدوَّ الله، إنّ مَن ذكرتَ أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك.

وفي صلح الحديبية يحتمل النبي عَنتَ قريش في الشروط، ويرتضيه لحِكم بعيدة، فيغضب عمر ويقول: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟! قال: ((بلى))، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟! قال: ((بلى))، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! أنرجع ولما يحكم الله بيننا أبدًا؟! فقال النبي : ((إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدا)).

أيها الإخوة الكرام، في عهد هذا الصحابي الإمام انتظمت أمور المسلمين، واتسعت دولتهم، وعزَّ أهل الإسلام، وتخوفهم المجرمون والأعداء. ولقد عجب الناس من رجل واحد تهابه الشياطين وتخشاه الملوك، ويشق جنوده الآفاق فاتحين ومنتصرين، ولا يملك ترسانة حربية، ويعيش فريدا بلا حراسة، ويدوم فقيرًا، وينام في كل مكان!

ذكر أهل السير أن قيصر عظيم الروم أرسل رسولاً إلى عمر رضي الله عنه لينظر أحواله ويشاهد أفعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم؟ فقالوا: ما لنا ملك، بل لنا أمير قد خرجَ إلى ظاهر المدينة، فخرج الرسول في طلبه، فرآه نائمًا في الشمس على الأرض فوق الرمْل، وقد وضع درعه كالوسادة، والعرَق يسقط من جبينه قد بلَّ الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل لا يَقَرّ للملوك قرارٌ من هيبته وتكون هذه حالته! ولكنك يا عمر عدلت فأمنت فنمت، وملكنا يجور فلا جرمَ أنه لا يزال ساهرًا خائفا، أشهد أن دينك الدينُ الحق، ولولا أنني أتيت رسولاً لأسلمت، ولكن أعود وأسلم.

فهل سمعتم ـ يا مسلمون ـ بمثل هذه العظمة؟! وهل قرأتم غير هذا التواضع؟! لا يضيره التعفف، ولا يعنيه الترف، هاب الله فهابه الناس، وأرضى ربه فأرضى عليه الناس ومكنه في الأرض، تخافه الدنيا ويرتعد منه العظماء، ويقضي راحته في العَراء نائمًا مطمئنًا غير وجل ولا هياب، فما يملك أعداؤه إلا أن يقولوا: عَدلت فأمنتَ فنمتَ يا عمر.

رآه مستغرقـا في نـومـه فـرأى     فيه الجلالة فِي أسْمـى معانيهـا

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا     ببُردة كاد طـول العهد يبليهـا

فقـال قولـة حق أصبحت مثـلاً      وأصبح الجيل بعد الجيل يرويهـا

أمنـت لما أقمـت العدلَ بينهـمُ       فنمتَ نومَ قريرِ العيْـن هانيهـا

تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].

قال في عمر: ((بينما أنا نائم رأيت الناس يُعرضون وعليهم قمص، فمنها ما يبلغ الثُديّ، ومنها ما يبلغ دون ذلك، فرأيت عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره))، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين))، وفي الحديث الآخر في الصحيحين قال : ((بينما أنا نائم إذ رأيت قدَحًا أتيت به، فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الريّ يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلتي عمر بن الخطاب))، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((العلم)).

اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوة الإسلام، كان عمر رضي الله عنه مع عظمته وجلالته الكبيرةِ العابدَ القانت والإمام البكاء. قال عبد الله بن عيسى: "كان في وجه عمر خطان أسودان من البكاء". وكان يمر بالآية وهو يقرأ فتخنقه العبرة، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يعاد، يحسبونه مريضا.

ومرة زار أبا الدرداء فقال له أبو الدرداء: أتذكر حديثا حدثناه رسول الله ؟ قال: أي حديث؟ قال: ((ليكن بلاغ أحدكم من الدنيا كزاد الراكب))، قال: نعم، قال: فماذا فعلنا بعده يا عمر؟ فما زالا يتجاوبان بالبكاء حتى أصبحا.

وكان هذا الإمام العظيم من أكثر الناس تحسسًا لأحوال الأمة وتفقدا لأخبارهم؛ لكي يعينهم ويسد جوعهم ويقضي حوائجهم، فقد ذكروا أنه كان ذات ليلة يعس في المدينة، فأتى على امرأة من الأنصار تحمل قربة، فسألها عن شأنها، فذكرت أن لها عيالاً، وأنه ليس لها خادم، وأنها تخرج في الليل فتسقيهم الماء، وتكره أن تخرج بالنهار، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها، وقال: اغدي على عمر غُدوة يُخدِمك خادما، فقالت: لا أصِل إليه، فقال: إنك ستجدينه إن شاء الله تعالى، فغدت عليه فإذا هي به، فعرفت أنه الذي حمل قربتها، فذهبت تولي، فأرسل في أثرها وأمر لها بخادم ونفقة.

أيها المسلمون، سيرة هذا الرجل طويلة وأخباره عجيبة، ولا يمكن الإتيان عليها كلها، لكننا نشير إليها إشارات لنبين لكم صورة مشرقة عن الإسلام، ولنذكّركم بمجدكم التليد الذي أضعناه، أضاعته الأمة عندما أضاعت دينها، ونسيته عندما نسيت قرآنها. صدق المسلمون الأوائل في حمل هذا الدين، واستمسكوا بالقرآن، ففتحوا الدنيا وفجّروا أمثال عمر وسعد وطارق وصلاح الدين، فأين أنتم ـ يا مسلمون ـ عن دينكم الصحيح الذي يحمله أهله بصدق وجد ومجاهدة؟! خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]، وليس يُحمل بالشّكل أو الاسم أو بالوراثة، وأين أنتم ـ يا مربون ـ عن هذه السير لتُرَبَّى عليها الناشئة ويحياها شبابنا المستهدف بالضياع والمستهدف بالنعومة والتلهية والتفاهة؟!

فهل عرفتم ـ يا شباب الإسلام ـ سيرةَ عمر؟! وهل تأملتم صدقه وإيمانه؟! وهل عايشتم شجاعته وإقدامه؟! فهل يسرّكم أنكم لهوتم ولم تتعلموا هذه السيرة العطرة؟! وهل يسركم أنكم نمتم ولم تطالعوا هذه الأخبار المضيئة؟!

يا شبابنا، إن عمر رضي الله عنه مثالكم في صدق الإيمان وعظيم الجهاد وشدة البأس وجميل الخصال، وهو منهاجكم في التواضع والخشية ودوام التزهد والمراقبة، فاقرؤوا سيرته وطالعوا أخباره، فإنها العجب العجاب والمنهل الروي المُستطاب.

يـا من يرى عمرًا تكسـوه بردتـه    والزيت أدم له والكـوخ مأواه

يهتز كسـرى علـى كرسيه فرقـا     من خوفه وملوك الروم تخشـاه

إنِّي تذكـرت والذكـرى مؤرقـة     مجدًا تليـدا بأيدينـا أضعنـاه

أين الرشيد وقد طاف الغمـام بـه     فحين جـاوز بغـداد تَحـداه

وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها    عمن بنـاه لعلّ الصخر ينعـاه

هـذه معـالِم خرص كـل واحدة      منهنّ قامت  خطيبًا فاغرًا فـاه

والله يعلـم مـا قلَّبـت سيرتَهـم     يومًا فأخطأ دمعُ العين مَجـراه

يا مسلمون، عودوا إلى التاريخ وتعلموه وعلموه الأجيال، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف: 111].

اللهم انصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً