هذه جولة في السوق واضحة وأنباء صحيحة موثقة، وهذه الجولة والتجلية لم يصفها مدعٍ ضعيف، ولم يتقوّلها كاذب فاسد، ولم يقلها معتوه ساقط. وإنما جولة جالها المسلم الواعي السائر على هدى الله تعالى، فهو بصير يدرك محاسن الأشياء ومساوئها، ومتأدب يحفظ خلقه وحياءه، ومتَّقٍ لله يخشى أكل الحرام، وعاقل صان لبه وجوهره من مهاترات وسفاهات. إن هذه الجولة والصورة تعرض أحوال السوق وخباياه ومفاسده ورزاياه، وتقف على مكر الماكرين وغش المخادعين وألاعيب المتسوقين.
يا معاشر المسلمين، الأسواق موطن تجمّع الناس وتكسبهم وطلبهم المعاش والسعي فيه، في السوق ألوان الكدح والتعب وصنوف الصبر والجَلَد وفنون الحرص والكسب، في السوق ترى الأغنياء والفقراء والشرفاء والوضعاء والكبار والصغار، في السوق نشاهد الحركة الدؤوب والنشاط القوي والتفاني المنقطع، وفي السوق تدرك علو الهمة وتعجب من قوة الإرادة وتذهل من تحمل المشاق، في الأسواق يتعلم الإنسان المسؤولية والصبر، وفيها دروس الجد والعمل والبذل والعطاء، فلا مقام هناك للكسالى، بل هو الحركة والنشاط والعمل المتواصل والسعي الشديد.
لقد آمن الناس أجمعون بأهمية الرزق للنفس والعيال، وآمنوا أنه لن يتم رزق إلا بعمل وسعي وحركة، واعتقدوا أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، فسلخوا أعمارهم للقمة العيش وتربية الأبناء وبناء البيت وشراء السيارة وتحقيق السعادة الدائمة، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].
أيها الإخوة، ليس ولوج الأسواق وغشيانها طعنًا في ذات الشخص إذا صحّت النية وحسن المقصد؛ لأنه منزل قد وطئه الأنبياء والعلماء والصالحون ونبلاء الأمة، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة: 198]، وَقَالُوا مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ [الفرقان: 7]، وقال عمر رضي الله عنه: (ألهاني الصفق بالأسواق)، وقال عبد الرحمن بن عوف: (دلوني على السوق). قال ابن القيم رحمه الله: "وباع رسول الله واشترى، وكان شراؤه بعد أن أكرمه الله برسالته أكثر من بيعه، وأما شراؤه فكثير، وآجر واستأجر، واستئجاره أكثر من إيجاره، وشارك رسول الله، ووكل وتوكل، وكان توكيله أكثر من توكّله، واستدان واشترى بالثمن الحال المؤجل". وقال قتادة رحمه الله: "كان القُوّام يتّجرون، ولكنهم كانوا إذا نابهم حقّ من حقوق الله لم تُلههم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتى يؤدوه إلى الله".
أيها المسلمون، إن أسواقنا يُلحظ عليها أمور يجب التنبه لها والحذر منها، وأكثرها غير خاف على باغي السلامة وطالب الحلال والنزاهة.
أولاً: المتاجرة في أشياء محرمة لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا الانتفاع بها، كالدخان بأنواعه والمجلات الخليعة والأشرطة الغنائية وأفلام الفيديو المحرمة وأشباهها، فهذه وأخواتها كسبها وعائدها محرم، النار أولى به. أضف إلى أن بعضها طرق فساد تدمر الشباب والمجتمع كافة.
وضد ذلك أن يتجر الإنسان ببضاعات سليمة، لكنه يروجها بوسائل محرمة كالغش والخداع المكر والتحايل. فعلى سبيل المثال بعض محلات الخضار والفاكهة إذا ابتعت من عندها صندوقًا من خضار أو فاكهة رأيت أعلاه سليمًا، وغرك حسنه ولونه، فإذا ما ذهبت للمنزل ونظرت في داخله بان لك فساد أكثره، وأنه قد تلوعب بك، وخُدعت في الشراء، ونظيره من يبيع أجهزة ومعدات وسيارات فيها عطل كبير ولا يوضح ذلك للمشتري، بل ربما جزم بسلامتها وفائدتها.
أخرج مسلم رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله مرَّ على صُبرة طعام فأدخل يده فيها، فنالت ـ أي: أصابت ـ بللاً، فقال: ((ما هذا يا صاحب الطعام؟)) قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال: ((أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟! من غشنا فليس منا)).
إذًا ليتقِ الله هؤلاء الباعة الذين همهم ترويج سلعتهم والتخلص منها ولو كان على سبيل الحيلة والمكر والضحك على الطيبين والسذج كافة.
ثانيًا: فشو الأيمان الكاذبة في الأسواق، فتجد كثيرين من الباعة هان عندهم الحلف بالله، بل جرَّه ذلك للحلف كذبًا ومكرا، فيدعي أنه اشترى السلعة بكذا وكذا وهي رخيصة، وأنه لا يملك في صندوقه شيئًا، أو أنه لم يبع شيئًا هذا اليوم، أو يحلف إنها قد بيعت بأغلى من ذلك وأنه تسامح معك، إلى غير ذلك مما تلحظون وتشاهدون.
يا معاشر التجار، إن الحلف بالله تعالى كذبًا من كبائر الذنوب، فإن كنت تريد أن تجني ريالات من هذا اليمين فقد أتعبت نفسك وأغضبت ربك، ألم تسمعوا قول النبي : ((الحلف منفقةٌ للسلعة مَمحقةٌ للكسب)) أخرجاه عن أبي هريرة؟! وثبت في صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله يقول: ((إياكم وكثرةَ الحلف في البيع؛ فإنه ينفق ثم يمحق)). وتأمل هذا الحديث عن أبي ذر عن النبي قال: ((ثلاثة لا يكلّمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله ثلاث مرات، قال أبو ذر: خابوا وخسروا، مَن هم يا رسول الله؟ فقال: ((المُسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)).
ثالثًا: إهمال ذكر الله والصلاة، إن الأسواق أبغض البقاع إلى الله تعالى، فيها يزهو الشيطان ويرفع رايته، وتعظم الدنيا وتبدو زهرتها، ويكثر اللغو وينسى الذكر والنور. أخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغضها أسواقها)).
أيها الإخوة، تضرب الغفلة على بعض الباعة والتجار، فيمكث في سوق من الصباح إلى المساء لا يذكر الله فيها ولا يهلل ولا يسبح ولا يقرأ القرآن، بل ربما العكس من ذلك، فيجلس هاذيًا غافلاً متكلمًا فيما لا ينفعه ولا يعنيه، وقد يخالط كلامه زور وكذب وغيبة ونميمة، ينقص ثوابه وتزيد سيئاته، ومن فَرطِ لسان بعضهم أنه لو كتب كلامه لبلغ كراريس، والله المستعان.
أخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة، ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفعه ألف ألف درجة)).
ومن هؤلاء من إذا حانت الصلاة تثاقل وتكاسل، وربما صلى لوحده على عجل وسرعة. واعلموا أن هناك نسبة غير قليلة من الباعة يصلون في حوانيتهم ومتاجرهم ويهجر جماعة المسلمين، وهناك فئة لا تصلي بالكلية، وأخرى تغلق الدكاكين على نفسها ويختبئون ويظهرون للناس أنهم ذهبوا للصلاة، قال تعالى: رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ [النور: 37].
رابعًا: لقد أمَّ أقوام السوق لا يطلبون الحلال، اختلفت قلوبهم وشاهَت وجوههم، ولا يبالون أحلالاً أكلوا أم حرامًا، بل شرارهم مارس العمليات المحرمة، واستطعم قاذورات الربا والمكر والبخس والاختلاس والغش، رضي بحرب الله تعالى وبأذية عباده التي تورث بغضه ولعنته ومنابذته، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ [البقرة: 275]. أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، من الحلال أم من الحرام)).
لقد بُنيت أجساد هؤلاء من نار حامية، وزُيّنت من لظى العاتية، إذ أكلوا الربا واستطعموا الردى، يخشون الفقر وقلة المال، ولم يبالوا بنار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
من صور احتيال هؤلاء القرض بفائدة، وبيع ما لا يملك، وإخفاء رداءة السلعة، وبخس العمال حقوقهم، وتلقّي الركبان، والزيادة في السلعة وهو لا يريد شراءها كما يحصل في المزادات والمعارض، وهو ما يسمى بالنجش، فيتواطأ عصبة من أهل المكر على رجل مسكين والسلعة لهم، فيوهمون شراءها حتى يرتفع ثمنها، وهي أقل من ذلك وأهون. ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم أن النبي نهى عن النجش، وقال عبد الله بن أبي أوفى: (الناجش آكل ربا خائن). قال ابن بطال رحمه الله: "أجمع العلماء على أن الناجش عاصٍ بفعله". وذهب أهل الظاهر وبعض أهل الحديث إلى فساد ذلك البيع، وهو المشهور عند الحنابلة. وقد أخرج ابن عدي وغيرهم عن قيس بن سعد بن عبادة أن النبي قال: ((المكر والخديعة في النار)).
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات...
|