.

اليوم م الموافق ‏15/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

حسن الخلق في حياة رسول الله

5399

الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ

السيرة النبوية, الشمائل, مكارم الأخلاق

حمزة بن فايع الفتحي

محايل

20/5/1422

جامع الملك فهد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- صور من حسن خلق النبي . 2- صور من صبره . 3- صور من شجاعته . 4- صور من عداوته لليهود.

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].

معاشر المسلمين، في الحياة الاجتماعية المعاصرة تتغلب المصالح على الأخلاق، وتلعب العادات بالمبادئ، فلا يجد المسلم مهرعًا ولا ملجأ إلا بالاطلاع على نافذة السنة النبوية واستنشاد أخلاق النبي ، فمن حياته تُستلهم الأخلاق، ومن سيرته تستفاد الآداب، فلقد أدبه ربه تعالى فأحسن تأديبه، وهذبه فأكمل تهذيبه، وأثنى عليه ومدحه بقوله سبحانه: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].

فقد كان من عظمة خلقه استشعاره القرآن في سائر شؤونه ومعاملاته، وكان من عظمة خلقه انجذابُ الناس إليه بما فيهم الكفار وخضوعهم لأخلاقه وشمائله، فلقد كان خلقه القرآن، به يقول ويحكم، ومنه يأتمر وينتهي، وبه يهدي ويهتدي، كان القرآن في لفظه ولحظه وقوله وفعله، وفي رضاه وغضبه.

لم يكن للقرآن حافظًا بلا معنى، أو مرتلا بلا اهتداء، أو مرددًا بلا وعي وتطبيق، بل كان يعيش القرآن في لحظاته وحركاته ومسالكه وتصرفاته، وهكذا يكون حفظ القرآن الكريم؛ علمٌ وعمل، وتدبر وانتفاع، وعظة وتطبيق.

ومَنْ لم يعلّمه القرآن حسن الخلق فليتهم نفسه وليراجع قلبه، فلقد ذابت الموعظة في بحار الدنيا الفاتنة ومزاهرها الأخّاذة، فغدت الأخلاق الجليلة بمعزل عن العمل والتطبيق والسلوك، واستصلاحًا للحال ومعالجة للداء نذكِّر أنفسَنا وإياكم بمحاسن أخلاق نبينا ، وهو الكامل في خُلقه وخلقه، الواسع في أدبه ورفقه، السيد في حيائه وعفته، وكان رحيمًا بالمؤمنين، محبًا لهم ومشفقًا عليهم، محسنًا لفقيرهم، متواضعًا لضعيفهم، وكانت تأتيه الأمة من نساء المدينة وتأخذه إلى حاجاتها حيث شاءت، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا))، وكان يقول لبعض صحابته: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبعِ السيئةَ الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)).

بل إن الإنسان ليعجَب من تعظيم هذه الرسالة لمحاسن الأخلاق؛ بأن جعلتها مقصدا من مقاصدها، ففي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن جابر رضي الله عنه بسند حسن أن النبي قال: ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))، وفي لفظ: ((صالح الأخلاق)).

وكان مع رحمته بإخوانه المؤمنين شديدًا على أعداء الله الكافرين، مرهبًا لقلوبهم، كاسرًا لشوكتهم، محطّما لتحدياتهم، مهما كان عددهم أو كانت عدتهم.

قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين: "وحسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصور قيام ساقه إلا عليها: الصبر والعفة والشجاعة والعدل". وقد كان النبي من هذه الأركان القِدْح المعلَّى، سطعت في حياته وتجلت في شخصيته وكانت شموس أخلاقه وشمائله.

فأما الصبر فهو باب الاحتمال وجسر المشاق والطريق للحلم والأناة وكظم الغيظ، ولقد كان صبورًا غاية الصبر، محتملاً للأذى، غير ثائر ولا حاقد، غير طائش أو مستعجل، يحتمل في دعوته كل المشاق وكل الاعتداءات وكل البليات، كذبه قومه في مكة فصبر، وآذوه ونالوا منه وسخروا منه السخرية الشديدة وهو يقابل ذلك كله بالصبر، مستشعرًا قول الله له: مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ [فصلت: 42]. فلم يمَل ولم يكَل، بل كان ثابتًا قويًا وصابرًا مستيقنا، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ [الروم: 60]. وبالصبر ـ يا مسلمون ـ تهون الرزايا وتخف البليات، والمسلم في هذه الدنيا لا يعيش بغير صبر، ولا يدعو بغير صبر، ولا يجاهد بغير صبر.

وأما العفة فهي الستر دون الرذائل والقبائح قولا وفعلا، وهي مفتاح الحياء، والحياء رأس كلّ خير، وقد كان أشد حياء من العذراء في خدرها، لا يقول إلا خيرًا، ولا يبدي إلا خيرًا، يعظم حرمات الله، ولا يأتي من الأمر إلا أيسره وأحسنه.

وقد حملته عفته على الكرم والشهامة واجتناب البخل والكذب، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنهم خيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخّلوني فلست بباخل)).

وأما العدل فبه اعتدال الأخلاق واستواؤها، لا إفراط ولا تفريط، فيجود بلا إسراف، ويقتصد بلا إقتار، يلين بلا ذلّة، ويعز بلا عنف وشدة. وقد كان رحيمًا بأهل الرحمة، شديدًا على الفجرة والظلمة، أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ [المائدة: 54].

وأما الشجاعة فهي عنوان عزة النفس وإيثار معالي الأخلاق والشيم، وبها قهر الأعداء وإعزاز المسلمين، وقد كان لنبينا من ذلك حظ كبير وقسم عظيم. قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله أحسنَ الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزِع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله راجعًا، وقد سبقهم إلى الصوت، وهو على فرس لأبي طلحة عريّ، في عنقه السيف، وهو يقول: ((لم تراعوا، لم تراعوا))، وقال عن الفرس: ((وجدناه بحرا)) يقصد سرعته. وقال البراء بن عازب كما في الصحيحين: كنا ـ والله ـ إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي .

وقام على دعوته مجاهدا ومقاتلاً صامدًا لا يخاف العرب ولا يخشى الدوائر، وقد خُطط له وحيكت له المؤامرات وهو في ذلك كله شجاع أبيّ، غير هياب ولا خوار.

أيقن عليه الصلاة والسلام أن دعوته لن تصمد إلا بشجاعة يهتزّ لها الأعداء وتقف أمامها الخصوم، فمضى شامخًا يهدّ خصومه المشركين ويزلزل قلوبهم، وقد أعلن ذلك في مكة وهو وحيد طريد، إذ جهر بدعوته، وصدَع بالقرآن، وجمَع الأتباع، حتى أظهره الله ومكنه، فقاتل المشركين وكسر شوكتهم في بدر، وقاتلهم في أحد، وحصل ما حصل من ابتلاء الله لهم، ثم تتبّعهم في حمراء الأسد، وقال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((اخرجْ في آثار القوم، فانظر ماذا يصنعون وما يريدون، فإن كانوا قد جنَّبوا الخيل وامتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإنْ ركبوا الخيل وساقوا الإبل فإنهم يريدون المدينة. والذي نفسي بيده، لئن أرادوها لأسيرنَّ إليهم فيها، ثم لأناجزنَّهم)).

وفي خاتمة غزوة أحد جاء المشرك أُبي بن خلف يريد قتل النبي وهو يقول: أين محمد؟ لا نجوتُ أن نجا، فقال القوم: يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا؟ فقال رسول الله : ((دعوه))، فلما دنا منه تناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة، فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله، وأبصر ترقوته من فُرجة بين سابغة الدرع والبيضة، فطعنه فيها طعنةً تدأدأ ـ أي: تدحرج ـ منها عن فرسه مرارًا. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدم، قال: قتلني ـ والله ـ محمد، قالوا له: ذهب ـ والله ـ فؤادك، والله إن بك من بأس، قال: إنه قد كان، قال لي بمكة: أنا أقتلك، فوالله لو بصَق علي لقتلني. فمات عدو الله وهم قافلون به إلى مكة، وفي رواية: إنه كان يخور خوار الثور ويقول: والذي نفسي بيده، لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا جميعًا.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى أله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة الكرام، لم يكن النبي غافلاً عن أعدائه وهو يعلم ضررهم على الدعوة، ولم يكن لينشغل وهو يدرك خبثهم ومكائدهم، لقد قرأ في كتاب ربه: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]. فأيقن أن أعدى أعدائه وأخبث خصومه هم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة، وهو قد تلا في القرآن: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، فانتبه النبي لعداوة هؤلاء، وحذّرهم عقاب الله، ووعظهم بالإسلام، وكان من أول قدومه للمدينة كتب معهم معاهدة لحماية المدينة، وأبقاهم على ما هم عليه، ولما نصره الله في بدر أظهروا له الغضب والحسد، فقام بجمع يهود بني قينقاع في سوقهم وقال لهم: ((يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا))، فقالوا: يا محمد، لا يغرنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحنُ الناس، وأنك لم تلق مثلنا.

ولما اشتد عداؤهم للإسلام وكثرت تحرشاتهم انطلق إليهم رسول الله بجنود الله المؤمنة، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، حتى نزلوا على حكم رسول الله، على أن لهم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا، ثم كلمه فيهم حليفهم رأس المنافقين عبد الله بن أبي، فتركهم رسول الله له، وأجلاهم من المدينة، فخرجوا إلى أذرعات الشام.

وكان قد بقي في المدينة من قبائل اليهود بنو النضير وبنو قريظة، وكان لهم رسول الله بالمرصاد، فقد أرادت بنو النضير قتل رسول الله ، وحرضتهم قريش على الحرب، فلما علم بذلك رسول الله طلب منهم الخروج من المدينة خلال عشرة أيام، فمن رأوه منهم بعد ذلك ضُربت عنقه، وعندما استعدوا للخروج أرسل إليهم رأس المنافقين يحرضهم على عدم الخروج، ومناهم بالوقوف معهم، فأعلنوا العصيان والتمرد، فحاصرهم رسول الله حصارًا شديدًا، وأمر بقطع نخيلهم وحرقها نكاية فيهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب حتى نزلوا على حكم رسول الله، فأجلاهم على أن لهم ما أقلت الإبل إلا السلاح، وفيهم أنزل الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ [الحشر: 2]. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول في سورة الحشر: (سورة بني النضير) كما في صحيح البخاري.

وبقي سادة بني النضير يكيدون المكائد لرسول الله ، فهم الذين أجّجوا بني النضير على نقض العهد في الخندق، فأظهروا العداء، وتنكروا لرسول الله، ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا دخل النبي بيته ووضع سلاحه، وجاءه جبريل عليه السلام وقال: أوضعتَ ـ يا رسول الله ـ سلاحك؟ انطلق إلى بني قريظة، فإني ذاهب إليهم فمزلزلٌ بهم. عندئذ أمر النبي صحابته بالتهيؤ لبني قريظة والإسراع في السير، وقال: ((لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)).

فانطلقَ إليهم رسول الله في ثلاثة آلاف مقاتل، وضرب عليهم الحصار، حتى أخذهم الهلع ونزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه، فحكم بقتل الرجال وسبي نسائهم وذراريهم، فقال له النبي : ((قضيت بحكم الله تعالى)).

فذبحهم رسول الله في الأخاديد كذبح الشياه، وهذا جزاء من حارب الله ورسوله، وليس ممارسات الذل والاستسلام التي يمارسها الضعفاء تجاه اليهود في الأراضي المحتلة، واستحق اليهود حكم مجرمي الحروب.

لو لامست أذن الفـاروق خيبتُهـم     لكدر الصفو فِي جنـاته الكمَدُ

أو كان يدري صلاح الدين مااقترفت    تلك العلوج لضجّ الفاتح النجِدُ

من نصف قرن وأرضُ الأنبيـاء على     درب الدموع تنادينـا و نُفتقَدُ

وإنا لنحمد الله على أن الانتفاضة المباركة لا تزال حية قوية، ترفض كل بوادر الذل والاستسلام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم وفقنا للخيرات وجنبنا الغفلة والحسرات، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً