أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [الحشر: 18].
أيها الناس، لقد وهب الله تعالى بني آدم عقولاً ثمينة، يدركون بها حياتهم، ويَعُون بها منافعهم ومضارّهم، ويبصرون بها الحسن والقبيح والجيد والرديء، وعقولُ أهل الإسلام عقولٌ استضاءت بنور الوحيين، فازدهرت زكاءً ونقاءً، وازدانت حُسنًا وصفاءً، ولم تكن عقولهم في يوم من الأيام قائدة إلى مهاوي الرذيلة أو قبائح الأمور أو سفاسف الأخلاق، وهل يُعقل أن مسلمًا يؤمن بالله وبشرعه وينقاد لأمره وحُكمه يعظّم المنكرات ويفرح بالقاذورات ويدعو للسيئات؟! إن هذا الشيء عجاب! إن العقول الزكية لتدرك محرمات الشريعة، ولا تجادل في منهياتٍ واضحة وسيئاتٍ صريحة، كيف يكون عاقلاً من يستطيب المحرمات ويستروِح الخبائث ويتفاخر بالمعاصي؟! إن أهل الإيمان إذا علموا ما حرّم الله قالوا: سمعنا وأطعنا، ولم يكن ثمة تردد وانتظار أو حيرة واضطراب، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [النور: 51].
أيها الإخوة الفضلاء، في هذه الأعصار أصابت عقولَ كثير من الناس غشاوةٌ من هوى وغطاءٌ من كدر، فاختلطت عليهم الأمور، واضطربت عندهم المفاهيم، وعميت أبصارهم عن سواد الليل وبياض النهار، وأضحت السيئاتُ حسناتٍ جميلات والرذائل مآثرَ ومفاخر، فلا يُستغرب أن ترى مثقفًا مرموقًا يحتفي بأهل الباطل ويمجد أهل الفسق والرعونة، ورُبّ إعلاميٍ سيار يجعل القبيح حسنًا والدناءة عزةً وعلاءً، وذاك مقدِّم عليم اللسان يزيِّن الانحراف ويرفع من قيمة الفساد والخبال. إن هؤلاء هم مشوّشو الحقيقة وقنوات الفساد ومكدِّرو الرأي العام، فكم من تضليل رائج وصراخ ملفق طبق الآفاق، وضلل الدهماء، وغيب الحق والضياء، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام: 116]، وفى الحديث قال : ((إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)). إن من الأئمة المضلين من يستهين بالأمانة، ويلمع السوأة، وينفخ الباطل، ويغيب الحقيقة، ويحول دون تثبيت الفضيلة واكتمالها، وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا [النساء: 18]. لقد خاف النبيّ من الأئمة المضلين الذين يقلدهم الناس، ويلمّعون ألفاظهم، ويشغلون زوايا صحفية أو مراكز ثقافية. إنّ هؤلاء منبع ضلال الأمة أو مصدر إقصاء الهداية وانتعاش الأهواء وبروز الشهوات، قال الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً [الفرقان: 43].
أيها الإخوة الكرام، إن أمانة الكلمة تقتضي النصح الصحيح والعدل المليح الذي يساير الرشاد، ولا يلوّث إشعاعه الشمس، ولا يعكر نصاعة النص والدليل، وتقتضي أمانة الكلمة صدقَ التوجيه وتجنب التشويش والتخليط. رُبّ زاوية صحفية يقرؤها ملايين الناس تمتلئ بالزور الملمَّع والباطل المدبَّج، فينطلي فسادها على العوام والخواص، أيّ جرمٍ يحمله هؤلاء عندما يتجاهلون حبائل الإفساد ووسائل الإضلال التي أغوت شعوبًا وأممًا، متجاهلين تشريع القرآن وهدي السنة والبيان؟! إن هؤلاء حقيقة يتكلمون بأهوائهم، ويمجّدون بشهواتهم، ويحكمون بعاداتهم ورغباتهم.
فمن الخليج إلى المحيط قبائل بطرت فلا فكرٌ ولا آدابُ
لا يغرنكم أسماؤهم الإسلامية، ولا ألقابهم العربية، فالنبع مكدَّر، والفكر متغير، والثقافة ضحلة متهافتة، فكيف يملك هؤلاء منصة التوجيه أو وسام الإشادة أو أحقية التحليل والتحريم؟! وفي حديث حذيفة رضي لله عنه في الصحيحين قال: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: ((نعم، دعاةٌ على أبواب جهنم، مَن أجابهم إليها قذفوه فيها))، فقلت: يا رسول الله، صِفهم لنا، قال: ((نعم، قومٌ من جِلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)).
أيها المسلمون، إنّ من يمجّد فسَقَة الزمان أو مفسدي الأجيال أو يغطّي الحقائق الشرعية التي شعّت كالشمس وطارت كالهواء دعاة على أبواب جهنم، فلا تصدقوهم، فهم الذين يكذبون الكذبة تبلغ الآفاق، وهم الذين يشيدون بالضلالات ويغرون بالخطايا والسيئات، يقول ربنا سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [يونس: 69].
أيها المسلمون، إن كل أمر ذمّه الشارع الحكيم وحقّره وبغّضه معصية منكره، لا يجوز إثباتها أو التمدح بفعلها أو استحسان حلاوتها ولذاذتها، وإن مسلمًا يستطيب شيئًا مما حرم الله قد حُرِم الزكاة والنقاء والسلامة، وغلبت شهوته على لُبِّه، وسيطر هواه على قلبه، فلا تعجب أن تسمع منه مقالة الشهوانين وتطبيلات العاطفيين، قال عليه الصلاة والسلام: ((ألا وإنّ في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)) أخرجاه في الصحيحين.
أيها الإخوة، إن قلب المسلم لا يحتمل مرارة المعصية ولو لمرة واحدة، فكيف بمن يستديم المعاصي ويستمرئ الكبائر ويحيا على القبائح والجرائم؟! لا ريب أن ذلك سيبوء بما يلي: ظلمة القلب، وقبح الوجه، ووحشة النفس، وفساد العقل، وحرمان الهدى والتوفيق والسعادة، وسيعيش في ثنايا المعاصي تحت ربقة الذل والهوان، وليًا للشيطان، معاديًا للرحمن، وفى كل ذلك يحوطه غفلةٌ شديدة، تدعوه للزيادة والاجتراء، ونسيان الطاعة والاهتداء، وتمحو منه كل أسباب التوبة والإنابة.
ومن أعظم عقوبات المعاصي والإصرار على الكبائر أن العبد يحرم الخير والتثبيت، فيموت على خاتمة سيئة ونهاية قبيحة، مما كان يعيشه في الدنيا ويتفانى في حبه، وقد أضل به أممًا وأجيالاً، فهي طريق الخذلان وسبيل المذلة والحرمان. وللإمام ابن القيم رحمه الله كلام نفيس في كتابه "الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي" عن أضرار المعاصي وتقرير فسادها وخذلانها للعبد، وكان مما أشار إليه أنها قد تكون سببًا لسوء الخاتمة؛ لأنها تخزن صاحبها وتَخذله في أشدّ الحالات وأحوج المقامات، ثم ذكر صورًا وأحوالاً لبعض العصاة، فمنهم من قيل له: قل: "لا إله إلا الله" فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها، وآخر لقنوه الشهادة فجعل يهذي بالغناء ويقول: تِنتِنا تِنتِنا، وآخر قيل له" قل: "لا إله إلا الله" فقال: شاه رخ غلبتك، وكان يلعب الشطرنج، وآخر لقن الشهادة فقال: هو كافر بها، ولم يقلها وقضى، وبعض التُّجار لقّنوه الشهادة فقال: هذه القطعة رخيصة، هذا مُشترى جيد، هذه كذا، حتى قضى عياذًا بالله من ذلك، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27].
قال ابن القيم رحمه الله: "فكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره واتبع هواه وكان أمره فُرطًا؟! فبعيدٌ مَنْ قلبُه بعيدٌ من الله تعالى غافل عنه متعبد لهواه أسير لشهواته ولسانه يابس عن ذكره وجوارحه معطلة عن طاعته مشتغلة بمعصيته أن يوفَّق للخاتمة بالحسنى".
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين...
|