أيها الإخوة الكرام، يعتقد كثير من الناس أن جمالهم في الحياة وعظمتهم تكمن في مناصب يتقلدونها أو مظاهر يتجملون بها أو ملابس يرتدونها، فقصروا الجمال على منصب دائر، وحدّوا العظمة بمظهر زائف، وابتغوا الحُسن في ملبس فاتن. اعتنوا بالأشكال والمظاهر، وأهملوا الحقائق والمخابر. ربَّ منصب ليس وراءه إلا لعنات من الناس وخصومات شديدات، فقدَ به صاحبه مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، وربَّ مظهر جذاب جَرّ على حامله علياء النفس وكبر القلب، فاكتسى منه صاحبه احتقار الناس وعنادًا وغمطًا للحق والصواب، والله لا يحب المستكبرين.
فاعلموا ـ يا إخوة ـ أن تاج الجمال ودرة الإحسان أخلاق يحملها العبد ومحاسن ينيرها ومكارم يتزين بها، خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ [الأعراف: 199].
ليس الجمالُ بمئزرٍ فاعلم وإن رُدّيتَ بُردا
إنَّ الجمالَ معادنُ ومَحاسنٌ أورثنَ مَجْدا
روى أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق)).
أيها المسلمون، إننا لنغفل عن كثير من مكارم الأخلاق، وإن من أجلها وأكملها وأطيبها خلق التواضع الذي به خشوع القلب لله ومحبة الناس ورحمة الضعفاء والمساكين، قال تعالى آمرًا رسوله بخلق التواضع: وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ [الشعراء: 215]، والمعنى: ألِنْ جانبَك لمن آمن بك وتواضع لهم. وروى الترمذي والبيهقي بسند حسن عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي قال: ((اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين))، وهذا منه عليه الصلاة والسلام تنويهٌ بشرف هذا المقام وفضله. قال ابن الأثير: "أراد به التواضع والإخبات وأن لا يكون من الجبارين المتكبرين".
وامتدح الله تعالى عباده عباد الرحمن، وجعل أولى صفاتهم وخلالهم التواضع، فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63]، قال ابن القيم رحمه الله: "أي: بسكينة ووقار، متواضعين غير أشرين ولا مَرِحين ولا متكبرين".
معاشر المسلمين، إن التواضع زينة المؤمنين وسمتُ المهتدين الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادًا، يحبون إخوانهم ويلينون في أيديهم، ولا يظهرون تجبرا ولاعنتا ولا فسادا، أولئك هم الفائزون.
روى مسلم في صحيحه عن عياض رضي الله عنه أن النبي قال: ((إن الله أوحى إليَّ أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد)). إن الشرف كل الشرف أن يتواضع العبد، فبتواضعه تتهذب النفس وينكسر القلب ويعظم الأجر ويتعلم الخلق وتتمّ له الرفعة في الدنيا والآخرة.
قال رسول الله كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)). قال النووي رحمه الله: "فيه وجهان: أحدهما: يرفعه الله في الدنيا، ويثبت له بتواضعه في القلوب منزلة، ويرفعه الله عند الناس ويُجل مكانه، والثاني: أن المراد ثوابه في الآخرة ورفعه فيها بتواضعه في الدنيا".
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (وجدنا الكرم في التقوى، والغنى في اليقين، والشرف في التواضع)، وقال معاذ رضي الله عنه: (لن يبلغ العبد ذُرَى الإيمان حتى يكون التواضع أحب إليه من الشرف)، وقال أبو حاتم رحمه الله: "التواضع يرفع المرء قدرًا ويعظم له خطرًا ويزيده نبلا".
وقال الحسن رحمه الله: خرج عمر بن الخطاب في يوم حار واضعًا رداءه على رأسه، فمر به غلام على حمار، فقال: أي غلام، احملني معك، فوثب الغلام عن الحمار وقال: اركب يا أمير المؤمنين، قال: لا، اركب وأنا أركب خلفك؛ تريد تحملني على المكان الوطيء وتركب أنت على الموضع الخشن، فركب خلف الغلام فدخل المدينة وهو خلفه والناس ينظرون إليه.
وقال مالك بن دينار رحمه الله: لو أن مناديًا ينادي بباب المسجد: ليخرج شركم رجلاً والله ما كان أحد يسبقني إلى الباب إلا رجلاً بفضل قوة أو سعي، فبلغ ابن المبارك قوله فقال: بهذا صار مالكُ مالكا.
تواضع تكن كـالنجم لاح لناظرٍ على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخـان يعلـو بنفسه إلَى طبقات الْجو وهو وضيعُ
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|