أيها الناس، أتيت اليوم لأخبركم خبرًا، وأُسمِعكم عجبًا، وأقصّ عليكم قصصًا، وأُهديكم عِبرًا. جئت لأحدثكم عن عظيم، قلَّ تجدون مثله أو تطلبون نظيره، بل لن تجدوا ولن تستطيعوا إلى ذلك سبيلا. إنه إمام في كل فن وعظيم في كل باب، استحضروا في عقولكم كل معاني الشرف والعظمة وجميع مواهب النفس وكل صفات البطولة والسيادة، إن قلتم: العلم فمن يدرك شَأْوه؟! أو: الفكر فمن يضاهي سَعته؟! أو قلتم: البيان فمن يضارع حُسنه وجماله؟! أو قلتم: الشجاعة فمن يطيق مواجهته وغِلابه؟! أو قلتم: القيادة فنموذج خارقٌ في صحة القيادة وحسن التدبير.
هذا الإمام العظيم إن قال أسمع، وإن حكَم عدَل، وإن قاتل أشجع، وإن ضرب أوجع، وهو مع ذلك كله أتقى ما يكون لله، وأخشع ما تَصِف للرحمن، وأورع ما تحب لرب العالمين، والله ما رأيت عبقريًا يفري فريّه، ووالله ما سلك فجًا إلا سلك الشيطان فجًا آخر، سبحان الله! ما سمعتُ كاليوم عجبًا، من هذا الرجل؟ أهو عفريتٌ من الجن، أم عملاقٌ خارق، أم أسطورة خيالية؟! كلا، بل هو عبد مخلوق من بني آدم مركّب من كل صفات البشرية.
كان أول ما كان قبل إسلامه بدويًا جلفًا، قاسي الأخلاق، من بني عدي، له شهرةٌ ومكانة؛ ولكنها محدودة، تخشى بطون قريش فتكه وبطشه، والويل الويل لمن دخل معه في شِقَاقٍ أو نزاع. من صلابته وشدته أيِس المسلمون من خيره، حتى قال بعضهم: (والله، لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب)، فأتت اللحظة المنيرة المباركة، فقذف الله في قلبه النور، وشعت الهداية في نفسه. أسلم فكان آيةً في الإسلام، عزّ المسلمون بإسلامه، واشتفى الضعفاء بشجاعته، وانخسأت الوثنية بإرعابه وبسالته، كان إسلامه مملوءًا حكمةً ورشدًا، وإيمانه مملوءٌ صدقًا ويقينًا. قال عبد الله بن مسعود : (ما زلنا أعزةً منذ أسلم عمر). كبّر المسلمون تكبيرة واحدة سُمعت في طرق مكة، نعم إنه عمر بن الخطاب ، وما أدراك ما عمر؟! شخصيةٌ كبيرة، وسيرة مُثيرة، أذهلت قارِئها وسامعها، شجاعةٌ مفرطة، وتضحيةٌ صادقة، وإيمان متين، وعقل وقّاد، حامل لكل خير ومعروف، وضارب في كل باب للخير بسهم، ومدرك كلّ نبل وفضيلة. بلغت فضائله عنان السماء ومنقطع الهواء، قصُر الناس في عدّها وإحصائها، وذُهلوا من شكلها وألوانها، والله لقد أتعب الناس بِعدِّ مناقبه وسردها.
ضاق الزمان ووجه الأرض عن بطلٍ ملء الزمان وملءَ السهـل و الجبلِ
من تغلب الغالبين النـاس قاطبـة ومـن عديّ أعـادي الجبن والبخَلِ
ليـت المدائـحَ تستوفِي مناقبَـه فما كليـبٌ وأهـل الأعصر الأولِ
خذ مـا تراه ودع شيئًا سمعت به في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحلِ
ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله قال: ((بينما أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره))، قال: فما أوّلت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((الدين)). وفي الصحيحين أيضًا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((بينما أنا نائم إذ رأيت قدحًا أُتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب))، قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: ((العلم)). وفي الصحيحين أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((إنه كان فيما مضى من الأمم ناس محدَّثون ـ أي: ملهمون ـ، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب)).
ما الذي أبثه من سيرته؟! وما أنشر من أخباره؟! لقد كان رأسًا في العدل والعبادة والقيادة، صاحبَ علم وفضل وحكمةٍ وعبادةٍ وشجاعة، فهو بحق سباق غايات وحاوي مواهب، يتصور وجوده في كل ميادين الخير وفي خفايا الأماكن، يعرفه أهلها وضعفتها ولا تدري أنه أمير المؤمنين.
كان عمر بن الخطاب يتعاهد الأرامل فيسقي لهنّ الماء بالليل، فرآه طلحة بالليل يدخل بيت امرأة، فدخل إليها طلحة نهارًا، فإذا هي عجوز عمياء مُقعدة، فسألها: ما يصنع هذا الرجل عندك؟! قالت: هذا له منذ كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بما يصلحني، ويُخرج عني الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمك يا طلحة، عثراتِ عمرَ تتبَع.
وكان يعاتب نفسه كثيرًا ويقتص منها إذا شعر بظلمه للآخرين، ذكر الأحنف أن عمر غضب على رجل فضربه بالدِّرة، فتذمّر الرجل، وندم عمر، فاستدعى الرجل ليأخذ حقه من عمر، فأبى الرجل وقال: أدعها لله، وانصرف عمر حتى دخل منزله وصلى ركعتين وجلس فقال: يا ابن الخطاب، كنت وضيعا فرفعك الله، وكنت ضالا فهداك الله، وكنت ذليلا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاءك رجل يستعديك فضربته، ما تقول لربك غدا إذا أتيته؟! قال: فجعل يعاتب نفسه في ذلك معاتبة ظننا أنه من خير أهل الأرض.
وكان عمر يمر بالآية وهو يقرأ، فتَخْنِقه العبرة فيبكي حتى يسقط ثم يلزم بيته، حتى يُعاد فيحسبونه مريضًا. قال عبد الله بن عيسى: كان في وجه عمر خطّان أسودان من البكاء.
وأما طعامه وشرابه فقد كان شيئًا عجيبًا، فلقد نفرت النفوس من رداءة طعامه وغِلظته، ولما قيل له في ذلك قال: والذي نفسي بيده، لولا أن تنتقص حسناتي لشاركتكم في لين عيشكم، لكني أستبقي طيباتي، لأني سمعت الله تعالى يقول عن أقوام: أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا [الأحقاف: 20]. وقال مرة: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكليه، ولكنّا ندعه ليومٍ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا [الحج: 2].
وكان الخليفة العادل والإمام الكامل، يقضي بالحق على نفسه وأهله وعشيرته، ويسوّي بين الناس، ولا يحابِي ولا يجامِل. ثبت في الصحيحين أنه أعطى المهاجرين الأوائل أربعة آلاف درهم، وأعطى ابنه عبد الله ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: إنه كان من المهاجرين الأوائل، فقال: إنما هاجر به أبوه.
وكان عمر يقبل النقد والحوار، ويلين ويرجع إلى الحق، تلكم قصص كثيرة وأخبار شهيرة. خرج مرة من المسجد ومعه الجارود العبدي، فبينما هما خارجان إذا بامرأة على ظهر الطريق، فسلّم عليها عمر، فردت السلام، ثم قالت: رويدك يا عمر حتى أُكلمك كلماتٍ قليلة، فقال لها قولي، قالت: يا عمر، عهدي بك وأنت تسمّى عُميرا تصارع الفتيان في سوق عكاظ، فلم تذهب الأيام حتى سُميت عمرًا، ثم لم تذهب الأيام حتى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتقِ الله ـ يا عمر ـ في رعيتك، واعلم أن من خاف الموت خشي الفوت، فقال له صاحبه: من هذه المرأة التي اجترأت عليك يا أمير المؤمنين؟! فما كان من عمر إلا أن جذبه وقال له: دعها فإنك لا تعرفها، فقال: من تكون هذه؟ فقال عمر: هي خولة بنت حكيم التي سمع الله قولها من فوق سبع سموات، فعمر والله أحرى أن يسمع كلامها. أراد بذلك قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1].
|