أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المسلمين، إننا في هذا الزمان المضطرب نعيش فترة صعبة رهيبة، وتعيش أمتنا أشد الأحوال وأمرّها وأنكاها، إنها لتعرض عن ربها وتجعل كتابه وراءها وتغترّ بدنياها وترضى بذلها وصغارها.
لم تكن أمتنا لتهون لولا انفصالها عن دينها وإهمالها لكتاب ربها، لقد هانت صلتها بالقرآن، ولم يكن القرآن في حياتها كتاب العز والمجد، بل كتاب الترتيل والرد، وليس قرآنها منهاج حياتها، بل منهاج ثوابها وحسناتها.
جعلت الأمة القرآن كتابَ روحانية، تعيشه تلاوة وذكرًا، وحلاوة وشفاء، تقرؤه في المحافل، وتردده في المدارس، وتستنزل به الراحة والسكون؛ ولهذا قد تشاهد آلاف الحفاظ والقراء، وليس لهم من القرآن إلا اسمه وأجره وسعادته، ولم يعيشوا مواعظه وبيناته ورسائله.
إنه لتقصير ـ يا مسلمون ـ أن تكون صلة الأمة بالقرآن مجرد التلاوة فحسب، ولا يتعدى ذلك إلى فهمه وتدبره والاتعاظ بما فيه.
لم تحمل الأمة القرآن لأنها صيرته كتاب قراءة ولم تصيّره كتاب عمل وتدبير، قال الحسن البصري رحمه الله ونِعمَ ما قال: "نزل القرآن ليعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً". أنزل القرآن ليكون هداية الأمة إلى ربها وشريعتها في الحياة وأمنها من الأهواء، وليكون طريق خلاصها وعنوان مجدها وسيادتها، وليكون مادة نصرها وتمكينها، وليكون سلاحها الذي تقهر به الأعداء وتكسر الأهواء وتبرئ الأسقام والأدواء.
فهل اتعظت الأمة المسلمة بالقرآن وكان منهاجها وحظها وخطتها؟! لقد انقلبت الأمة المسلمة من العز المتين إلى الذل المهين بسبب ضعفها وبعدها عن القرآن، إن القرآن ليقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7]، ويقول: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج: 40]، فهل نصر المسلمون المليار ربَّهم تمام النصر؟! هل عبدوه حق عبادته؟! وهل اتقوه وراقبوه؟! كلا، إن الواقع ليشهد بخلاف ما أراد الله تعالى، فها هي أمتنا تلعب بها الأهواء، وتحكمها الشعارات، وتقودها العصبيات، وتلتجئ في الملمات إلى الغرب الكافر؛ لكي يكتب لها السلام، ويسلمها من إسرائيل، ويضمن لها العيش الرغيد.
تسعـون ألفًـا لعموريـة اتّقـدوا و للمنجم قالوا: إننـا الشهـبُ
قيل: انتظار قطاف الكَرم ما انتظروا نضج العناقيد لـكن قبلها التهبوا
واليوم تسعـون مليونًا وما بلغـوا نضجًا وقد عُصر الزيتون والعنبُ
إن الله تعالى ليعدنا بالنصر والأمة تخاف البرد والحر، ويعدنا بالتمكين وهي تلجأ للغرب اللعين، ويعدها بالاستخلاف وهي تركض للزينة والقطاف. ألم يقل ربنا تعالى للذين آمنوا به وعبدوه حق عبادته: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور: 55]؟! هل عبد الله من كان قائده الهوى؟! وهل عبد الله من توكل على المجرمين؟! وهل عبد الله من لم يتعظ بالقرآن؟!
روى مسلم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله زوَى لي الأرض ـ أي: قربَّها وصغّرها ـ فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)).
إن المتأمل للقرآن حق التأمل ليدرك أنوار النصر وتباشير الفتح، فالله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ [المجادلة: 20]. ثم تجد هؤلاء الأذلين الحقراء قد رفعهم ضعاف النفوس وأرباب القلوب المريضة والنفوس المتآكلة التي حملت القرآن بضعف وأخذته على هوان وقرأته قراءةً، وما قرأته عملاً وتدبرًا وانتهاجًا واستعصامًا. ألم يقل القرآن: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ [البقرة: 63]، وقال: يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم: 12]؟! فما يفلح من أخذ القرآن بكسل وهوان، أو حمل دينه بتراخٍ واستضعاف، أو سار به سيرَ الضعاف المساكين، لا حولَ لهم ولا طولَ؟!
لا بد أن يؤخذ هذا الدين بعزيمة صادقة وصبر متين ونفس متوهجة، قال تعالى: فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ [آل عمران: 146، 147]، وقال تعالى: وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران: 120].
أيها الناس، إنه لا حل لأزماتنا إلا بالرجوع للقرآن علمًا وعملاً واسترشادًا، فإن فيه بيانًا مفصلاً عن واقع الأمة، وأخبارًا صحيحة لما يجري فيها، وفيه تبيان لأسباب الهزيمة والنكسة، وفيه مقوّمات النصر وعوامل العز والمجد، وفيه نماذج وقصص وشواهد للمؤمنين والمكذبين، لمن أخذه بقوة وصدق فانتصر، ولمن أعرض عنه فخاب وانهزم، كل ذلك ترونه في القرآن مفصلاً إذا قرأتموه متدبرين متعظين.
وهناك مثال ذكره القرآن وكيف أن الله تبارك وتعالى نصر الفئة المؤمنة إذا اعتصمت به وتوكلت عليه ولو كان العدو ضخمًا مخيفًا جبارًا: قال تعالى: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]. في غزوة الأحزاب طوَّق الكفار المدينة، وحوصر المسلمون مع القلة والضعف، وكان الهول كما قال الله: وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 10، 11]. لكن أهل الإيمان المتوكلين على الله وثقوا بوعد الله ونصره، ولم ترهبهم الكثرة، ولا ماجَ بهم الحصار، صدقوا الله تعالى وقاموا وثبتوا، وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ المُؤْمِنِينَ القِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًا عَزِيزًا [الأحزاب: 25].
هذه قصة يحكيها القرآن، فهي جلية لمن تدبرها في أن الله ينصر الفئة المؤمنة الصادقة على الفئة الكافرة مهما كانت عدتها وضخامتها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [يوسف: 21].
إننا بحاجة ـ يا مسلمون ـ إلى أن نراجع أنفسنا تجاه القرآن، ونقرأه قراءة عميقة، نتدبر آياته، ونعي مواعظه، ونتأمل أحكامه، كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص: 29].
إن تدبر القرآن وسيلة لفهم واقع المسلمين وكشف ما فيه من غوامض ومبْهَمات، وهو المدد المعنوي الذي يجمع الأمة ويوحد صفها ويقوي إيمانها ويهوِّن عليها بطش الباطل، يقول القرآن في خبر قوم صالح عليه السلام: وَكَانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ [النمل: 48]. اجتمع هؤلاء التسعة وكانوا كبراء القوم ورؤساءهم، واتفقوا على سحق الدعوة بقتل صالح غيلةً في الليل، ثم التبرؤ مما حصل، وأنهم لم يطلعوا على شيء، فاجتمعوا ورصدوا ومكروا، وكان مكرًا عظيمًا، فسلط الله عليهم ملائكة في الطريق دمغتهم بالحجارة، قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل: 50، 51].
اللهم انصر دينك وكتابك وعبادك المؤمنين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
|