.

اليوم م الموافق ‏09/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

العجلة أم الندامات

5343

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

عبد الرحمن بن علي العسكر

الرياض

عبد الله بن عمر

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ذم العجلة في القرآن. 2- نماذج من العجلة المذمومة في تصرفات الأمم السابقة. 3- نماذج من العجلة المذمومة في تصرفاتنا وعباداتنا. 4- الآثار المترتبة على العجلة المذمومة. 5- نماذج من العجلة المذمومة في حياتنا اليومية. 6- من أقوال الحكماء في الحث على التأني وعدم الاستعجال.

الخطبة الأولى

أما بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ حَقَّ التَّقوَى، واسْتَمسِكُوا مِنَ الإسَلامِ بالعروةِ الوُثْقَى، واحْذَرُوا طَريقَ المَعَاصِي، فإنَّ أقْدَامَكُم عَلى النَّارِ لاَ تَقوَى.

عِبادَ اللهِ، إنَّ البَوَاعِثَ التَّي تسُوقُ المرءَ إِلى عَملٍ مَا وَتَدفَعُهُ إلى خَوضِ غِمارِ الحياةِ بظرُوفِهَا الوَاقعة كَثِيرةٌ مُتَبَاينَةٌ، يَبِينُ لِتَبَايُنِهَا مَواقفُ أَهلِ الاحْتِكَاكِ بِهَا، فَتكُونُ نُفُوسُهم إحدَى نَفْسَينِ: إمَّا نَفْسٌ عَجِلَةٌ تثِيرُ الفَوضى فِي المُنَظَّمِ المُحْكَمِ، وَإِمَّا نَفسٌ مُتَأَنِّيةٌ يُشْرقُ نُبْلُهَا مِنْ دَاخِلِهَا فَتُحْسِنُ التَّصَرُّفَ وَسْطَ الأَعَاصِيرِ.

وَمِما تَقَرَّرَ لَدَى العُقَلاَءِ أَنَّ تَكْرَارَ المواقفِ على المرءِ وَتَرَادُفَ الضَّوَائِقِ وَتَعَقُّدَ المسَائلِ أَمَامَهُ لَيسَ لَهَا إلاَّ التَّأَنِّي وَحْدَه بَعَدَ اللهِ سُبْحَانَهُ؛ إذْ هُو عَاصمٌ بأمرِ اللهِ مِنَ التَّخَبُّطِ وَوَاقٍ مِنْ القنوطِ في الوَقتِ نَفسِهِ.

غَيرَ أنَّ داءً قدِيمًا قد عانَتْ منه المجْتَمَعاتُ في القَدِيمِ كَمَا عَانَتْ مِنهُ حَدِيثًا، وَهو ثَغْرَةٌ ضَخمةٌ في الإنسَانِ، وإذا ظهرَ فيهِ كانتْ ثُلْمَةً فِي دِينهِ وَإيمانهِ وَحُسْنِ تدبيرِهِ.

إِنَّ العَجَلةَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ هِيَ فِعْلُ الشَّيءِ قَبلَ وَقْتِه اللاَّئقِ به، وَهِي مِنْ مقْتَضَيَاتِ الشَّهْوَةِ البَغيضَةِ الموافِقَةِ للشَّيطَانِ، ولهذَا صارتِ العَجَلةُ مَذْمومَةً في عَامَّةِ القرآنِ، وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً [الإسراء: 11]، وَيَقُولَ جَلَّ شَأنَهُ: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37]، وَيَقُولُ سُبحَانَهُ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه: 114]، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16].

لَقْد جَاءَ لفظُ العجلةِ في القُرآنِ مَتَصَرِّفًا فِي سَبعَةٍ وَثَلاَثِينَ موضِعًا، كلّها على سَبيلِ الذَّمِّ إلاَّ مَوضِعًا وَاحدًا، هو قَولُ اللهِ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: 203]. وَلاَ غَروَ أن يَكُونَ كَذَلك؛ فَإنَّ الإنسانَ منْ طَبعِهِ العَجَلةُ وَعَدمُ التَّأنِّي كَمَا فِي قَولِهِ: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ.

وإنَّنا ـ عبادَ اللهِ ـ لَنَجدُ العَجَلةَ المذمُومَةَ بَادِيَةً فِي كَثيرٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الأممِ السَّابقَةِ حَتَّى حَلَّ بِهَا العَذَابُ، فأَصْحَابُ الأحْقَافِ لمَّا رَأوا السَّحَابَ والغَيمَ قَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، وَتَبَاطَؤوا عُقوبَةَ اللهِ، فَقَالَ اللهُ لهم: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف: 24]. وَلَما عَجلَ مَوسَى إلى رَبِّه رَغمَ أنَّهُ كَانَ يُريدُ أمرًا مَحمُودًا، إلاَّ أنَّ عَجَلتهُ جَرَّتْ عَلَى قَومِهِ عِبادَةَ العِجْلِ الَّتي هِي الإشراكُ باللهِ. وَفي قِصَةِ الخَضِرِ لَمَّا تَعَّجَلَ مُوسَى الإِنْكَارَ عَليه قال : ((رَحمةُ اللهِ عَلَينَا وَعَلَى مُوسَى، لَو لَبِثَ مَعَ صَاحِبهِ لأَبصَرَ العَجَبَ)) رواهُ أبو داودَ بسندٍ صحيحٍ. وَلَمَّا أَنذَرَ نُوحٌ ابنهُ مِنَ الغَرَقِ قَالَ: سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعصِمُنِي مِنَ المَاءِ، فَتَعَلَّقَ بِالأسبَابِ العَاجِلَةِ وَنَسِيَ مَا يَكونُ فَي الآجِلَةِ مِنَ العَذَابِ.

وَإنَّ في سِيرَةِ المصْطَفَى قِصَصًا وَدُرُوسًا في العَجَلَةِ، فَفِي غَزوةِ أُحُدٍ لَمَّا تَعَجَّلَ جَمْعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ اقتِطَافَ ثَمَرةِ الغزوِ وجَمْع الغَنَائِمِ عَادَتِ الكَرَّةُ عَلَيهم وَعَادَ الْمنتَصِر خَاسِرًا. والثَّلاثَة الذينَ تَخَلّفُوا عَنْ غَزوَةِ تَبُوك تَعَجَّلوا الرَّاحةَ وَطيبَ الثَّمرِ الَّذِي وَجَدُوه في المَدِينَةِ عَلَى الاستِجَابة لِنداء اللهِ وَرَسُولِه ومَا ينتظرهم يوم القيامة.

أَيَّها النَّاسُ، مَعَ كُلِّ ذَلِكَ فَإنَّنَا نَجدُ العَجَلَةَ بَاديَةً في كَثيرٍ مِنْ أعْمَالِنَا وَتَصرُّفَاتِنَا، بدْءًا مِنْ أَبوابِ العِبَادَاتِ إلى أبوابِ الأخلاقِ والآدابِ؛ فَهَذَا المتَوضِّئ يَسْتَعجلُ في وُضُوئِه وَلا يُسْبِغُهُ، وَلَرُبَّمَا بَدا من عَقِبهِ شيءٌ لم يصلْ إليه الماءُ، فيقَعُ في وَعيدِ النَّبِيِّ بقوله: ((وَيلٌ لِلأعْقابِ مِنَ النَّارِ)) متفقٌ عليه.

كمَا أنَّكم ـ عِبادَ اللهِ ـ قد تَرونَ هذا المرءَ العَجِلَ في صَلاَتِهِ؛ فَلاَ يَطْمَئنُّ فِي رُكُوعٍ وَلاَ سُجُودٍ، يُسْرِعُ في الحَرَكَاتِ وَلا يَتَلبَّثُ، وَكَأَنَّهُ في أثلة بِأرضٍ هشةٍ، ويغيب عنه قول أبي هريرة : نهاني رسول الله عَن ثلاثٍ، وَذَكَرَ منها: وَعَن نَقرَةٍ كنقرَةِ الدِّيكِ أي: في صَلاتِهِ. رَوَاه أحمدُ وأبو يَعْلَى بِسَنَدٍ حَسَنٍ.

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكُمْ ذَلِكَ الرَّجلَ الَّذِي دَخَلَ في عَبَادَتِهِ أَيًّا كَانتْ، فَزَيَّنَهَا وَعَدَّلَهَا وَأَطَالَ أَركَانَهَا؛ لأَنَّهُ تَحتَ نَظَرِ النَّاسِ وَالنَّاسُ سَيَمدَحُونَهُ وَيُثْنُونَ عَلَى حُسْنِ عِبادَتِه، فَتَرَاه يَتَصَنَّعُ أَمَامَهُمَ، وَإنْ تَكَلَّمَ لَم يَنسَ الإطْرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ في جَانبِ العبَادَةِ، وَنَسِيَ هَذَا المرءُ أنَّ مُرَاءَاتَهُ بأَعْمَالِه في الدُّنْيَا هِيَ اسْتِعْجَالٌ مِنْهُ لِثَوابِ الدُّنْيَا المُتمَثِّلِ فِي مَدحِ النَّاسِ وَثَنَائِهم عَلَى ثَوابِ اللهِ الَّذِي احتَفَظَ بِهِ للمُخلِصِينَ مِنْ عِبَادِهِ، أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ [البقرة: 61].

وَإِنْ تعجَبُوا فَعَجَبٌ ذَلِكُم الَمأْمُوم الَّذِي دَخَلَ مَعَ الإِمَامِ فِي صَلاَتِه، وصارَ لَهُ بِالمرْصَادِ؛ يَسْتَعْجِلُ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ؛ يُسَابِقُ الإِمَامَ، أَنسِيَ أَو غَابَ عَن بَالِهِ أَنَّهُ لَنْ يُسَلِّمَ قَبلَ سَلاَمِ إمَامِهِ، وَأنَّ الرَّسُولَ قَال: ((أَمَا يَخْشَى الَّذِي يَرْفَعْ رَأَسَهُ قَبلَ الإِمَامِ أنْ يَجْعَلَ اللهُ صُورَتَهُ صورَةَ حَمارٍ؟!)) أخْرَجَه البُخَارِيُّ.

وَلَرُبَّمَا طَغتِ العَجَلَةُ عَلَى المرءِ حَتَّى فِي اللَّحَظَاتِ الحَرِجَةِ الَّتِي يُنَاجِي فِيهَا رَبَّه وَيَدْعُوهُ مُتَضَرِعًا إِليه، فَيفْقِدُ بسَبَبِ ذَلِكَ الاسْتِجَابَةَ الَّتِي دَعَا اللهَ مِنْ أَجلِهَا، جَزَاءَ مَا اسْتَعجَلَ، غَيرَ آبِهٍ بِقَولِ النَّبِيِّ : ((يُسْتَجَابُ لأَحَدِكُمْ مَا لَم يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)) رواهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ.

فالوَاجِبَ عَلَى العَاقِلِ لُزُومُ الرِّفْقِ فِي الأُمُورِ كُلِّهَا وَتَرْك العَجَلةِ وَالخِفّةِ فِيهَا، إذ اللهُ تَعَالَى يُحِبُّ الرِّفْقَ في الأُمُورِ كُلِّهَا، وَمَنْ مُنِعَ الرِّفقَ مُنِعَ الخيرَ، كَمَا أنَّ مَنْ أُعطِيَ الرِّفقَ أُعطِيَ الخَيرَ، وَلاَ يكاد المَرْءُ يَتَمَكّنُ مِنْ بُغْيَتِهِ فِي سُلُوكِ قَصْدِهِ فِي شَيءٍ مِنَ الأَشْيَاءِ عَلَى حَسْبِ الَّذِي يجبُ إلاَّ بِمُقَارَنَةِ الرِّفْقِ وَمُفَارَقَةِ العَجَلَةِ.

وَإنَّ العَجَلةَ ـ عِبادَ اللهِ ـ قَد تَهُدُّ حُصُونًا مُعقَلةً وَبيوتًا آمِنةً، فَزَوجَةٌ مسكِينَةٌ انكَسرَ مِنهَا إِناءٌ أو غَلَبَ مِلحٌ عَلى طَعامٍ أَو نَسِيتْ أَمرًا تَكونُ بَعدَهُ ضَحِيَّةً لِعَجَلَةِ الزَّوجِ في إطْلاقِ لَفْظِ الطَّلاقِ لأيِّ سَببٍ وَأَدنَى حُجَّةٍ، فَتَتَفَرَّقُ الأُسرَةُ بَعْدَ تَجَمُّعٍ، وَيَظهَرُ الحُزْنُ بَعدَ الفَرَحِ، ثُمَّ هُوَ بَعْدَ ذَلكَ يَبحَثُ يَمْنَةً وَيَسرَةً عَن طَرِيقٍ يُعيدُ فِيهِ زَوجَتَهُ الَّتِي كَانَتْ ضَحِيَّةَ عَجَلَتِهِ، وَنَسِي قَولَ الرسولِ : ((ثَلاثٌ جِدِّهنَّ جِدٌّ وَهَزلهنَّ جِدٌّ: النِّكاحُ والطَّلاقُ والرَّجْعَةُ)) رواهُ الخَمْسَةُ إلا النَّسائِيِّ بسندٍ حسنٍ.

البَيعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى أَنَّهُ مِن أمُورِ الدُّنْيا إِلاَّ أَنَّكَ تَرَى العَجِلَ فِيهِ سَرِيعَ الرَّأْيِ كَثيرَ الخَسَارَةِ، تَنْقَلِبُ عَليهِ الدُّنْيَا جَرَّاءَ عَجَلةٍ مَقِيتَةٍ دُونَ تَخطِيطٍ وَتَرْتِيبٍ. المُعَلِّمُ يَسْتَعْجِلُ الحُكْمَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَبلَ أَنْ يَخْتبِرَهُمْ، فَيقعُ فِي الظُّلْمِ وَيَبتعِدُ عَن المُوازَنةِ الَحقَّةِ. وَهَذا الطالبُ يَتَسَابَقُ مَع أقْرانِهِ، فَيَستَعْجِلُ الإِجَابَةَ أَوقَاتَ الامْتِحَانِ كَي يَخْرُجَ أَولاً، حَتَّى إذَا ظَهَرتْ النَّتِيجَةُ عَرَفَ هُوَ بِنَفْسِه مَغَبَّةَ العَجَلةِ.

وَإِنَّ العَجَلةَ لَتَبدُو وَاضِحةً فِي كَثيرٍ مِنْ أُمورِ النَّاسِ المُعْتَادَةِ، فَصَاحِبُ الطَّعَامِ إذَا اسْتعْجَلَ فِي صُنْعِهِ خَرَجَ طَعَامُهُ غيرَ مُتَّزِنٍ؛ بَينَ ملاحَةٍ مفرطةٍ أو عدمٍ مفرطٍ. وَقِفُوا طَوِيلاً عِندَ قَائدِ السَّيَارَةِ الَّذِي يَتَمَنَّى أَنْ تَسِيرَ بِه في الهَوَاءِ كَي يُسَابِقَ فِي تَرويعِ هَذَا وَشَتْمِ هَذَا وَمُضَايَقَةِ هَذَا، فَتَنْتَهِي بِهِ العَجَلةُ إِمَّا إِلى مَوتٍ مُحقّقٍ، أَو يَصِلُ إِلى مُبتَغَاهُ كَمَا وَصَلَ النَّاسُ لَكِنْ عَليهِ مِنَ الآثَامِ مَا يَبُوء بِحَمْلِهِ يَومَ القِيَامَةِ.

وَإِنَّ العَجَلَةَ لَيَكُونُ ضَرَرُهَا كَبيرًا وَعَامًّا عَلَى النَّاسِ إِذَا كَانَ المُتَّصِفُ بِهَا ذَا مَسؤولِيَّةٍ وَأَمَانَةٍ، فالحَاكِمُ الَّذِي يَسْتَعْجِلُ الأمورَ دُونَ رَوِِيَّةٍ وَدِرَايةٍ تكُونُ قَرَارَاتُه سَرِيعةَ النَّقْضِ بَطِيئةَ النَّفْعِ، وَلِهَذا كَانَ الحُكَّامُ يُقَرِّبُونَ مِنُهمَ أَهلَ الخِبرَةِ وَالمَشورَةِ الَّذينَ يُصلِحونَ وَلاَ يُفْسِدونَ.

وَمِنْ صُورِ العَجَلةِ الحكمُ عَلى النَّاسِ قَبْلَ البَحْثِ وَالتَّحَرِّي، وَسُوء الظّنِّ قَبْلَ التَّثَبُّتِ وَاليقينِ، الَّتِي تَبدُو واضحةً فِي كثيرٍ منَ الأحيانِ فِي كِتَاباتِ النَّاسِ وَمَقَالاَتِهم، والغَضبُ وَالاستِجَابَةُ لِثَورَةِ النَّفْسِ المؤديةُ إلى الوقُوعِ فِي المحذُورِ، فيتحمَّقُ المَرْءُ عَلىَ عَجَلٍ، وَيكُونُ لِسانُهُ وَفِعْلُهُ قَبلَ قَلْبهِ وَعَقْلِهِ، فَلاَ يَزِمُّ نَفْسَهُ وَلاَ يَتَرَيَّثُ، بَلْ يَهْذِي بِكَلاَمٍ وَيُوكِسُ وَيُشْطِطُ بأَفعالٍ يَحَتاجُ بَعْدَها إِلى اعْتِذَارٍ طَويلٍ وَتَلْفِيقٍ لاَفتٍ، في صُورَةٍ تَبدُو وَاضحةً في مُسْتَجِدَّاتِ الحَيَاة، حِينَ يَنْبَرِي لَهَا قَلَمٌ فَيُرْعِدُ وَيُزْبِدُ، أَو يَعْلُو خَطِيبٌ مِنْبَرَهُ فَلاَ يَدَعُ قَولاً إلاَّ قَالَهُ، ثُمَّ إذَا تَثَبَّتَتِ الأُمُورُ عَلِمُوا أَنَّهمْ وَقَعَوا ضَحِيَّةَ العَجَلَةِ في الحُكْمِ عَلَى مُستَجِدَّاتِ الدُّنْيَا وَأَحْدَاثِ العَصْرِ، وَلَقدْ صَدَقَ حين قال: ((لاَ تَتَكَلَّمْ بِكَلامٍ تَعْتَذِرُ مِنْهُ غَدًا)) رَوَاهُ أَحمدُ وَابنُ مَاجَه بسندٍ صحيحٍ.

العَاقِلُ ـ عِبادَ اللهِ ـ يَلزَمُ الرِّفْقَ فِي الأَوْقَاتِ وَالاعْتِدَالَ فِي الحَالاَتِ؛ لأنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى المقْدَارِ في المبْتَغَى عَيبٌ، كَمَا أنَّ النُّقْصَانَ فِيمَا يَجبُ عَجزٌ، وَمَنْ لَم يُصْلِحْهُ الرِّفْقُ لم يُصلِحْهُ العُنْفُ، وَالرَّافِقُ لاَ يَكَادُ يُسْبَقُ، كَمَا أنَّ العَجِلَ لاَ يَكَادُ يُلْحَقُ، وَكَمَا أنَّ مَنْ سَكَتَ لاَ يَكادُ يَنْدَمُ، كَذِلِكَ مَنْ نَطقَ لاَ يَكادُ يَسْلَم. وَالعَجِلُ يَقولَُ قَبلَ أَنْ يَعلَمَ، وَيُجِيبُ قَبلَ أن يَفهمَ، وَيَحمدُ قَبلَ أَنَّ يجرِّبَ، وَيَذُمُّ بَعدَمَا يَحمدُ، وَيَعزِمُ قَبلَ أَن يُفكِّرَ، وَيَمضِي قَبلَ أَنْ يَعزِمَ. وَالعَجِلُ تَصْحَبُهُ النَّدَامَةُ وَتَعْتَزِلُهُ السَّلاَمَةُ، وَكَانَتْ العَربُ تُكَنِّي العَجَلَةَ: أُمَّ النَّدَامَاتِ، وَيَقُولُ المَثَلُ: "فِي العَجَلةِ النَّدَامَةُ وَفِي التَّأنِّي السَّلاَمةُ".

قَالَ المهَلَّبُ بنُ أَبِي صُفْرَةَ: "أَنَاةٌ فِي عَواقِبِهَا دَرَكٌ خَيرٌ مِنْ عَجَلَةٍ فِي عَوَاقِبِهَا فَوتٌ". وَكَتَبَ عَمرُو بنُ العَاصِ إِلى مُعاَوِيَةَ يُعَاتِبُهُ فِي التَّأنِّي: (أَمَّا بعدُ: فَإِنَّ التَّفَهُّمَ فِي الخَيرِ زِيَادٌ وَرَشَدٌ، وَإِنَّهُ مَنْ لاَ يَنْفَعُهُ الرِّفْقُ يَضُرُّهُ الخَرَقُ، وَمَنْ لاَ تَنْفَعُهُ التَّجَاربُ لاَ يُدرِكُ المَعَالِي، وَلا يَبْلُغُ الرَّجُلُ مَبْلغَ الرَّأْيِ حَتَّى يَغْلِبَ حِلمُهُ جَهلَهُ وَبَصَرُهُ شَهْوَتَهُ، وَلاَ يُدْرِكُ ذَلِكَ إِلاَّ بِقُوَّةِ الحِلْمِ). العَجَلةُ مُؤْذِنَةٌ بِالفَشَلِ الذَّرِيعِ وَكَثرةِ الفُتُوقِ وَالقُنُوطِ مِنَ التَّكَامُلِ.

فَاتَّقُوا اللهَ مَعَاشِرَ المؤمِنينَ، وَعَلَيكُمْ بالتُّؤدَةِ وَالتَّأَنِّي تُفْلِحُوا، وَإيَّاكُم وَالعَجَلَةَ، فَلَيسَت مِنْ هَدْيِ الرَّسولِ وَلاَ هِيَ مِنْ شَأْنِهِ، فإنَّ النَّظَرَ إِلى الثَّمَرَةِ قَدْ يَطُولُ، فَهَذَا رسولُ اللهِ وَعَدَ سُرَاقَةَ بنَ مَالكٍ بِسِوَارَيْ كِسْرَى وَلمْ يَلْبسهَا إلاَّ في عهدِ الفَارُوقِ رضي الله عنه؛ لأنَّ المؤمَّلَ غَيبٌ، وَلَيسَ لَنَا إلاَّ السَّاعَةُ الَّتِي نَحْنُ بِهَا، وَإنَّ غَدًا لنَاظرِهِ قَريبٌ.

أَقْولُ هَذَا القَولَ...

 

الخطبة الثانية

أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّها النَّاسُ، وَاعْلَمُوا أنَّ دِينَ الإسْلاَمِ دِينٌ وَسَطٌ لاَ يَرْضَى بالإفرَاطِ وَلاَ بِالتَّفْرِيطِ، وَلاَ المغَالاَةِ وَلاَ المجَافَاةِ، وَالنَّظْرَةُ الشَّرعيَّةُ لِلعَجَلَةِ هِي نَظرةٌ عَادِلَةٌ كَرِهَهَا الإسلامُ في مَواضعَ وَنَدَبَ إليهَا في مَوَاضعَ أخْرَى، فَكَمَا أَنَّ التَّأنِي مَنْدُوبٌ إِليهِ فِي ظُرُوفٍ تَليقُ به، فَإنَّ ظُروفًا أُخْرَى تَتَطَلَّبُ العَجَلةَ.

وَلاَ يَعْنِي تَنِفيرُ الإِسْلاَمِ مِنَ العَجَلةِ أَنَّهُ يُرِيدُ أَن يُعَلِّمَ أَتْباعَهُ البُطءَ فِي الحَرَكَةِ أَو الضَّعْفَ في الإِنْتَاجِ أَو التَّمَاوُتَ فِي العَملِ، كَيفَ وَرسُولُ اللهِ قَد قَالَ: ((بَادِرُوا بِالأعْمَالِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَيقُولُ : ((مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ له شَيءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ يَبيتُ لَيلتَينِ إلاَّ وَوصِيَّتُهُ مَكْتَوبَةٌ عِنَدهُ)) رَواهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ؟!

وَمِنْ هَذَا المُنْطَلَقِ ـ عِبادَ اللهِ ـ هُنَاكَ أُمُورٌ وَمَواقفُ تَتَطَلَّبُ مِنَ التَّصَرُّفِ الحَازِمِ والعَملِ السَّريعِ مَا لاَ يُنَاسِبهُ التَّأْجِيلُ وَالتَّسويفُ، مِثلُ العَجَلَةِ في اغْتِنَامِ الأوقاتِ وَتركِ التَّسْويفِ فيها، وَكَذَا تَعجِيلُ الفِطْرِ للصَّائِمِ، وَتَعَجُّلُ المُسَافِر إِلى أهْلِهِ إذَا قَضَى نَهْمَتهُ، وَكَذَا صَدُّ الشَّرِّ الظّاهِرِ وَإغَاثَةُ المَلْهُوفِ، وَالنُّصْحُ لِله وَلرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلأئِمةِ المُسْلِمينَ وَعَامَّتِهِم، وَعَدَمُ تَأخيرِ البَيَّانِ عَنْ وَقتِ الحَاجَةِ؛ كَبيَانِ حَقٍّ وَإِبطَالِ بَاطِلٍ وَأمرٍ بالمعرُوفِ وَنَهيٍ عَنْ المُنكَرِ، وَكَذَا الوَاجِبَاتُ الموقُوتَةُ بَوقْتٍ مَحدُودٍ، يَقُولُ : ((التُؤدَةُ فِي كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ فِي عَمَلِ الآخِرَةِ)) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ والبَيهَقي والحَاكِمُ وَصَححَهُ.

وَيَتَأكّدُ أَمرُ العَجَلَةِ بِشِدَّةٍ في وُجُوبِ الأخْذِ بِالحَقِّ إِذَا ظَهَرَ، وَعَدمِ التَّوَانِي فِي قبُولِهِ، وَالبُعْدِ عَن التَّعْليِلاَتِ وَالتَّبْرِيرَاتِ الَّتِي يُرى أَنَّها مُسَوِّغٌ لِتَركِهِ أَو تَأجِيلِهِ، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب: 36]. فَالَمعَاذِيرُ الَّتِي يُقَدِّمُهَا المَرءُ فِي تَأخِيرِ الحَقِّ أَو رَدِّهِ مَهمَا بِلَغَتْ مَا هِيَ إلاَّ أَوهَامٌ وَخُيوطٌ أَوْهَى مِنْ نَسِيجِ العَنْكَبُوتِ.

الَّلهمَّ أَرِنَا الحَقَّ حَقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلاً وَارزُقْنَا اجْتِنَابَهُ، وَلاَ تَجْعَلُهُ مُلْتبِسًا عَلَينَا فَنَضِلَّ...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً