.

اليوم م الموافق ‏14/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

الرؤى والأحلام: مبشرات ومحذرات

5341

موضوعات عامة

الرؤى والمنامات

عبد الرحمن بن علي العسكر

الرياض

عبد الله بن عمر

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- كل ما في الكون يدل على الله. 2- النَّوم آيةٌ مِن آيَاتِ الله سُبحانَه. 3- الرُّؤى والأحلامُ من الأُمور الجِبِلّيّةِ الفِطريَّة. 4- رُؤيَا الأنبياء حقٌّ. 5- أَصَدق النّاسِ رُؤيا. 6- أقسام الرؤى. 7- ما يَفعَلُ من فُزع في نَومه ورأى ما يَكره. 8- تعلق بعض الناس بالرؤى والاهتمام لها. 9- المَناماتَ لاَ تَعْدو أَن تَكونَ مُبَشِّراتٍ أَو مُحَذِّراتٍ ولاَ يُعقَدُ عَلَيهَا حُكمٌ شَرعيٌّ.

الخطبة الأولى

أمَّا بَعدُ: فَيَا أيُّها النَّاسُ، إِنَّ تَقْوَى الله سُبحَانَهُ هِيَ المُدَّخَرُ لِكلِّ نَائِبَةٍ، فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى حَقَّ التَّقْوَى.

عِبادَ اللهِ، مَا خَلَقَ اللهُ شَيئًا مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ إلاَّ لِحكْمَةٍ، وَمَا صَرَفَهُ فِي الكَونِ إلاَّ لِعبْرَةٍ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [الروم: 22، 23]، وَيَقُولُ سُبحانَهُ: وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [النحل: 12]. مَخْلُوقَاتٌ عَظِيمَةٌ سَائِرةٌ بِتَقْديرِ اللهِ يُدَبِّرُهَا اللهُ كَيفَ يَشَاءُ، جَعَلَهَا اللهُ مُنْذِرَةً لِعِبَادِهِ وَمُخَوِّفَةً لِيْزدَجرَ النَّاسُ وَلِيَتَّعِظُوا وَليَعُوذوا إِلى رُشْدِهِم.

أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ مَا فِي الدُّنْيَا يَدُلُّ عَلَى صَانِعِه سُبْحَانَهُ وَيُذَكِّرُ بِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى صِفَاتِهِ، فَمَا فِيهَا مِنْ نَعِيمٍ وَرَاحِةٍ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ خَالِقِهِ وَفَضْلِهِ وَإحْسَانِهِ وَجُودِهِ وَلُطْفِهِ، وَمَا فِيهَا من نِقْمةٍ وَشِدَّةٍ وَعَذَابٍ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ بَأسِهِ وَبَطْشِهِ وَقَهْرِهِ وَاْنْتِقَامِهِ، واخْتِلاَفُ أَحْوالِ الدُّنْيَا مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ وَلَيلٍ وَنَهَارٍ وَغيرِ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى انْقِضَائِهَا وَزَوَالِهَا، وَلَيسَ فِي الآخِرَةِ مِمَّا فِي الدُّنْيَا إلاَّ الأسْمَاءُ، أَمَّا الصِّفَاتُ فَإِنَّها تَخْتَلِفُ.

فَالنَّارُ ـ عِبادَ اللهِ ـ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا يَطْلُبُ النَّاسُ مِنْهَا الحَرَارَةَ، فَبِهَا يَطْبخُونَ وَبِهَا يَسْتَدْفِئونَ، أَمَّا نَارُ يَومِ القِيَامةِ فَإِنَّهَا مُهْلِكَةٌ بِشِدَّةِ حَرَارَتِهَا، وَمُهلِكَةٌ وَمُوجِعَةٌ بِشدَّةِ بُرودَتِهَا، فَيَا للهِ كيفَ تَجْتَمِعُ حَرَارَةٌ وَبُرودَةٌ! يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ [الحج: 19 ـ 21]. يَقُولَ ابنُ عَبَّاسٍ: (الغَسَّاقُ هُوَ الزَّمْهَرِيرُ البَارِدُ الَّذِي يُحْرِقُ مِنْ بَرْدِه). رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنَّ النَّبيَّ قَالَ: ((اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا فَقَالتْ: يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَينِ: نَفَسٌ في الشِّتَاء وَنَفَسٌ فِي الصَّيفِ، فَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ مِنْ سَمُومِ جَهَنَّمَ، وَأشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِ جَهَنَّمَ)).

عِبادَ اللهِ، النَّومُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ سُبحَانَهُ، يُغَادِرُ النَّائِمُ فِيهَا عَالمَ الدُّنْيَا، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [الروم: 23]. وفِي النَّومِ رَاحَةٌ للبَدَنِ وَسُكُونٌ للأعْضَاءِ، وَلَكنْ فِي النَّومِ مِنَ الآيَاتِ المُحَذِّرَاتِ وَالمُبشِّرَاتِ الشَّيءُ الكَثِيرُ.

الرُّؤَى وَالأحْلاَمُ مِنَ الأُمُورِ الجِبِلِّيَّةِ الفِطْرِيَّةِ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا النَّاسُ عَلَى الدَّوَامِ، يَقُولُ أَبو عَبدِ اللهِ المَازِنِيُّ: "مَذْهَبُ أَهلِ السُّنَّةِ فِي حَقِيقَةِ الرُّؤيَا أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ فِي قَلبِ النَّائِمِ اعْتِقَادات كَمَا يَخْلُقُهَا فِي قَلْبِ اليَقْظَانِ، وَهو سُبْحَانَهُ يَفعَلُ مَا يَشَاءُ، لاَ يَمْنَعُهُ نَومٌ وَلاَ يَقَظَةٌ، فَإِذَا خَلَقَ اللهُ هَذِهِ الاعْتِقَادَاتِ فَكَأنَّهُ جَعَلَهَا عَلَمًا عَلَى أَمورٍ أُخَر تَلْحَقُهَا فِيمَا بَعْدُ". وَيقُولُ القُرْطُبِيُّ: "الرُّؤيَا الصَّادِقَةُ قَد تَكُونَ مُنْذِرَةً مِنَ قِبَلِ اللهِ تَعَالىَ لاَ تَسرُّ رَائيهَا، وَإِنَّمَا يُريهَا الله تَعَالىَ المُؤِمِنَ رِفْقًا بِهِ وَرَحْمَةً لِيَسَتَعِدَّ لِنُزُولِ البَلاءِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَإِنْ أَدْرَكَ تَأْوِيلَهَا بِنَفْسِهِ وَإلاَّ سَألَ عَنْهَا مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةً لِذَلِكَ". وَلَقدْ رَأَى الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ وَهُو بِمِصْرَ رُؤيا لأَحَمْدَ بِن حَنْبلَ تَدُلُّ عَلَى مِحْنَتِهِ، فَكَتَبَ إِليهِ بِذَلِكَ لِيَسْتَعِدَّ لِذَلِكَ.

عِبادَ اللهِ، أَمرُ الرُّؤيَا مِنَ الأُمُورِ الَّتِي اعْتَنَتْ بِهَا الأمَمُ عَبرَ العُصُورِ، وَرُؤيَا الأنبيَاءِ حَقٌّ، فَإِبراهِيمُ رَأَى أَنَّهُ يَذْبَحُ وَلَدهُ فَامْتَثَلَ أَمرَ رَبِّهِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 104، 105]. وَيوسُفُ الصِّدِّيقُ يَقُولُ لِوَالدِهِ: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف: 4].

وَإِنَّ أَصَدقَ النَّاسِ رُؤيا ـ أيُّها الإخْوَة ـ أَصْدَقُهمْ حَدِيثًا، كَمَا جاء في الخَبرِ عَنْ سَيِّدِ البَّشَرِ ، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس: 62-64].يَقُولُ عُرَوَةُ بنُ الزُّبَيرِ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: (البُشْرَى هِيَ الرُّؤيَا الصَّالحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ المُسْلِمُ أَو تُرَى لَهُ). وَعَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلاَّ المُبشِّراتُ))، قالوا: وما المبشِّراتُ يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: ((الرُّؤيَا الصَّالِحَةُ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ.

عِبادَ اللهِ، قَلَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لاَ تَعْرِضُ لَهُ الرُّؤَى فِي مَنَامِهِ، وَلَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ يَرَى أَحَدُهُم الرُّؤيَا فَيَذْهَبُ إِلى رَسُولِ اللهِ لِيُفَسِّرَهَا لَهُ، يَقُولُ عَبدُ اللهِ بنُ عَمَرَ بن الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ الرَّجُلُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ إذَا رَأَى رُؤيَا قَصَّهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ، فَتَمَنَّيتُ أَنْ أَرَى رُؤيَا لأَقُصَّهَا عَلَى النَّبِيِّ ، وَكُنْتُ غُلامًا شَابًّا عَزْبًا أَنَامُ فِي المَسْجِدِ عَلَى عَهدِ رَسُولِ اللهِ ، فَرَأيتُ فِي المَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَينِ أَخَذَانِي فَذَهَبا بِي إِلى النَّارِ، فَإِذا هِيَ مَطويَّة كَطيِّ البِئرِ، وَإِذَا لَها قرْنَانِ كَقَرْنَي البِئرِ، وَإِذَا فِيهَا أناسٌ قَدْ عَرَفْتُهمْ فَجَعْلَتُ أقُولُ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ، فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي: لَمْ تُرَعْ، فَقَصَصْتُها على حفصةَ، فَقَصَّتْها حفصةُ على النبيِّ فقالَ : ((نِعمَ الرَّجُلُ عَبدُ اللهِ، لَو كَانَ يُصلِّي مِنَ اللَّيلِ))، قَالَ سَالِمٌ: فَكَانَ عَبد اللهِ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيلِ إلاَّ قَلِيلاً. رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلمٌ.

فَهَكَذَا كَانُوا يَفْعَلُونَ إِذَا رَأى أَحدُهُمْ رُؤْيَا، أَمَّا النَّاسُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي اخْتَلَطَتْ عَليهمْ الرُّؤَى وَالأحَلامُ، فلَمَّا بَعُدَ النَّاسُ عَنْ هَدْي الشَّرْعِ الحَنيفِ اجْتَالَتهُم الشَّيَاطِينُ بِغَيرِ زِمَامٍ، فَصَارَ بَعُضُهمْ يُصْرَعُ فِي نَومِهِ مَرَّاتٍ وَمَرَّاتٍ؛ لِشِدَّةِ مَا يَرَى مِنْ أَهْوَالٍ مُخِيفَةٍ وَقَوارِعَ شَدِيدَةٍ، حَتَّى ظَنَّ بَعضُهمْ أَنَّ كُلَّ مَا يَرَى فِي المَنَامِ فَهُوَ حَقٌّ لاَ مَحَالَةَ، وَانْظُرُوا إِلى تَهَافُتِ النَّاسِ عَلَى المُعَبِّرِينَ للرُّؤى وَالأحْلاَمِ، يَسْتَفْتُونَهمْ فِي مَصِيرِ تَلاَعُبَاتِ الشَّيَاطِينِ، يَقُولُ جَابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ: جَاءَ رَجُلٌ أَعْرَابيُّ إلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأيتُ فِي المَنَامِ كَأنَّ رَأسِي ضُرِبَ فَتَدَحْرَجَ فَاشَتَدَدْتُ عَلَى أَثَرِه، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ : ((لاَ تُحِدِّثِ النَّاسَ بِتَلاَعُبِ الشَّيطَانِ بِكَ فِي مَنَامِكَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

الرُّؤيَا ـ عِبادَ اللهِ ـ حَالةٌ شَرِيفةٌ وَمَنزِلَةٌ رَفِيعَةٌ، اهْتَمَّ بِهَا الدِّينُ وَمَا تَرَكَ فِيهَا شَيئًا إلاَّ‌ وَأوضَحَهُ، يَقُولُ رَسُولُ اللهِ : ((إذا اقْتَرَبَ الزَّمانُ لمْ تَكد رُؤْيا المؤْمِنِ تَكْذِبُ، وأصدَقُكُم رُؤْيا أصْدَقُكمْ حدِيثًا، ورُؤْيا المُسْلِمِ جُزْءٌ منْ سِتَّةٍ وأَرْبعينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ، وَالرُّؤيَا ثَلاَثَةٌ: فَرُؤيَا صالحَةٌ بُشرَى مِنَ اللهِ، وَرُؤَيا تَحزِينٌ مِنَ الشَّيطَانِ، وَرُؤيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ المَرءُ نَفْسَهُ، فَإِذَا رَأى أَحدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلَيقُمْ فَليُصَلِّ، وَلاَ يُحدِّثْ بَهَا النَّاسَ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ واللَّفْظُ لَهُ.

والرُّؤيَا الصَّالحَةُ هِيَ الَّتِي تُضَافُ إِلىَ اللهِ، وَهِيَ الَّتِي خَلُصَتْ مِنَ الأَضْغَاثِ وَالأَوْهَامِ، وَالحلُمُ مُضَافٌ إِلى الشَّيطَانِ؛ لأَنَّ فِيهَا أَشْيَاءُ مُتَعارِضَةٌ وَأُمورٌ مُتَنَاقِضةٌ، وَمَا أَكثرَ مَا يَتَلاعَبُ الشَّيطَانُ باِلنَّائِمِينَ، يَجْلِسْ أَحدُهمْ عَلى الطَّعَامِ حَتَّى إِذَا امْتلأ مِنهُ حَتَّى لاَ يَكَادُ يَتَنَفَّسُ نَامَ بَعدَ ذَلِكَ، فَآنَ للشَّيطَانِ أَنْ يَعِجَّ وَيَلِجَّ فِي نَومِهِ؛ وَلهذَا قِيلَ: "إِنَّ أَصْدَقَ الرُّؤَى مَا كَانَ سَحَرًا؛ لأنّهُ وَقتُ نُزُولِ الرَّبِّ وَسُكُونِ الشَّيَاطِينِ وَقِلَّةِ غَلَبهِ النَّومِ".

عِبادَ اللهِ، إِذَا ذُكِرَتِ الرُّؤىَ فَإِنَّ البَالَ يَذَهبُ إلى نَبيِّ اللهِ يُوسفَ عليه السلامُ، وَلَقْدِ اشْتمَلَتْ سُورةُ يُوسُفَ عَلَى أَحْكَامٍ للرُّؤَى وَآدَابِهَا، يَقُولُ اللهُ سُبحَانَهُ: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5].

يَقُولُ القُرْطُبِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ أَصُلٌ فِي أَنَّ الرُّؤيَا لاَ تُقَصُّ عَلَى غَيرِ شَفِيقٍ وَلاَ نَاصِحٍ، وَلاَ عَلَى مَنْ لاَ يُحْسِنُ التَّأوِيلَ فِيهَا، وَلمَّا عَلمَ يَعْقُوبُ مِنَ الرُّؤيَا أَنَّ يُوسُفَ سَيَظْهَرُ عَلى إِخْوَتِهِ خَافَ أَنْ يَحْمِلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى حَسَدِه وَبُغْضِهِ فَيُعْمِلُوا الحِيلَةَ فِي هَلاَكِهِ، وَلَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ يَقُولُ: ((لا تُقَصّ الرُّؤيَا إِلاَّ عَلَى عَالِمٍ أَوْ نَاصِحٍ)) رَوَاهُ أَحمدُ والتِّرْمذيُّ وَصَحَّحَهُ.

وَقَد قِيلَ: إِنَّ يُوسفَ عَلَيهِ السَّلاَمُ كَانَ عُمُرُهُ لَمَّا رَأَى الرُّؤيَا اثنَتي عَشرة سَنةً، فَأَخذَ العُلَمَاءُ مِنهُ أنَّ الرُّؤيَا لاَ تَتَعَلَّقُ بِصِغَرٍ وَلاَ كِبَرٍ، فَمَتَى أَدْرَكَ مَا يُشَاهِدُهُ فِي اليَقَظَةِ فَسَيُدْرِكُ مَا يَرَاهُ فِي نَومِهِ، وَمِنْ هُنَا نَعْلَمُ كَثْرَةَ مَا يُفَزّعُ الأَطْفَالُ فِي مَنَامِهمْ لِكَثْرَةِ مَا يَخْلِطُ عَلَيهمُ الشَّيطَانُ مِنْ أُمورٍ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلكمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ...

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ الحَيِّ القَيُّومِ لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَومٌ، أحَمدُهُ سُبْحانَهُ وَأسألُهُ المَزِيدَ مِنْ فَضْلِه، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ محمدًا عبدُه وَرَسُولُهُ، صلَّى اللهُ عليهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبهِ وسلَّم.

أَمَّا بَعدْ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّهَا النَّاسُ، وَلاَزِمُوا الأَذْكَارَ والأوْرَادَ؛ فَإِنَّهَا حِصْنٌ حَصِينٌ وَدِرْعٌ مَتِينٌ وَاقٍ مِنَ الشَّيطَانِ.

عِبادَ اللهِ، لَقدْ أَرْشَدَ الرُّسُولَ أَمَّتَهُ إِلى مَا يَفْعَلُونَ عندَ فَزَعِهمْ فِي نَومِهمْ وَرَؤيَتهِمْ مَا يَكْرَهُونَ، يَقُولُ أبُو سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: إِنْ كُنتُ لأَرَى الرُّؤيَا تُمْرِضُنِي، حَتَّى سَمعت أبَا قَتَادَةَ يَقُولُ: وَأَنا كُنْتُ أَرَى الرُّؤيَا تُمْرِضُنِي حَتَّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقولُ: ((الرُّؤيا الصَّالحَةُ مِنَ اللهِ، والرُّؤيَا السُّوءُ مِنَ الشَّيطَانِ، فإذا رَأَى أحدُكُم مَا يُحِبُّ فَلا يُحدِّثْ بِهَا إلاَّ مَنْ يُحِبُّ، وَإذَا رَأى مَا يَكْرَهُ فَلَيَتْفِلْ عنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا وَلْيَتَعوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّ الشَّيطَانِ وَشَرِّهَا، وَلا يُحدِّثْ بِهَا أَحَدًا فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ))، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: إِنْ كُنْتُ لأَرَى الرُّؤَيَا هِيَ أثْقَلُ عَلَيَّ مِنَ الجَبَلِ، فَلمَّا سَمعْتُ هَذَا الحَدِيثَ فَما كُنتْ أُبَالِيهَا. رَوَاهُ البُخَاريُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قالَ: قَالَ رَسُولَ الله : ((إذَا رَأى أحدُكُمْ الرُّؤيَا يَكْرَهُهَا فلْيَبْصُقْ عنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، ولْيَسْتَعِذْ باللهِ منَ الشَّيطانِ ثَلاثًا، ولْيَتَحَوَّلْ عَنْ جَنْبِه الذِي كانَ عَلَيهِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَحَاصِلُ مَا وَرَدَ أنَّ للرُّؤيَا الصَّالحَةِ ثَلاَثَة آدَابٍٍ: أَنْ يَحمَدَ اللهَ عَليهَا، وَأَنْ يَسْتَبشِرَ بِهَا، وَأنْ يَتَحدَّثَ بِهَا لِمَنْ يُحِبُّ دُونَ مَنْ يَكْرَهُ. أمَّا الرُّؤيَا المَكْرُوهَةُ فَإنَّهُ يَتَعوَّذُ باللهِ مِنْ شَرِّهَا وَمِنَ شَرِّ الشَّيطَانِ، وَأنْ يَتْفُلَ عَنْ يَسَارِهِ ثَلاثًا، وَأَنْ لاَ يُحَدِّثَ بِهَا أَحَدًا، وَأنْ يتحوَّلَ عَنْ جَنْبِه الذي كانَ علَيهِ.

وَيَجمَعُ هذِهِ الأمُورَ ـ عِبادَ اللهِ ـ مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبي هرَيرَةَ الَّذِيِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ: ((إِذََا رَأَى أَحدُكُمْ شَيئًا يَكْرَهُهُ فَلاَ يَقُصَّهُ عَلَى أَحدٍ وَلَيَقُمْ فَلْيُصَلِّ))؛ لأنَّه إذَا قَامَ إلَى الصَّلاَةِ تَحَوَّلَ عَنْ جَنْبِهِ، وَإذَا تَمَضْمَضَ تَفَلَ وَبَصَقَ، وَإذَا صَلَّى تَعَوَّذَ وَدَعَا وَتَضَرَّعَ إِلىَ اللهِ تَعَالىَ فِي حَالٍ هُوَ أقرَبُ الأَحْوَالِ إلى الإجَابَةِ.

عِبادَ اللهِ، رَوَى ابنُ أبِي شَيبَةَ وَعَبدُ الرَّزَّاقِ وَسَعِيدُ بن مَنْصُورٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ قَالَ: "إذَا رَأَى أَحدُكُمْ فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ إذَا اسْتَيقَظَ: أَعُوذُ بِمَا عَاذَتْ بِهِ مَلاَئِكة اللهِ ورُسُلهِ مِنْ شَرِّ رُؤيَايَ هَذِهِ أَنْ يُصِيبَنِي فِيهَا مَا أَكرَهُ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ". وَأوضَحُ مِنْهُ مَا وَرَدَ أَنَّ خَالدَ بِنَ الوَلِيدِ كَانَ يُفَزَّعُ فِي نَومِهِ وَيُرَوَّعُ، فَحَكَى إِلَى الرَّسُولِ فَقَالَ: ((إذَا اضْطَجَعْتَ فَقُلْ: بِسمِ اللهِ، أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ وَشَرِّ عِبَادِهِ، وَمِنْ شَرِّ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَنْ يَحْضرُونِ)) رَوَاهُ أبُو دَاودَ وَالنَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.

أيُّهَا النِّاسُ، كَمْ فِي النَّاسِ مِنَ الدَّجَالِينَ وَالأَفَّاكِينَ وَأضْرَابِهم مِمَّنْ يَخْتَرِعُونَ الرُّؤَى وَالأَحْلامَ الكَاذِبَةَ، وَيَبثُّونَهَا بِينَ النَّاسِ لِتَحْصيلِ أَغْرَاضٍ وَمَطَامِعَ دُنْيَويَّةٍ، مُثِيرينَ للرُّعْبِ وَالقَلَقِ بَينَ النَّاسِ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ حِينَ يُعَلِّقُونَ رُؤاهُم بِعبَاداتٍ شَرْعِيَّةٍ أو قُرُبَاتٍ بَدَنِيَّةٍ، عَنْ وَاثِلَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ مَرْفَوعًا: ((إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الفِرَى أَنْ يَدَّعِي الرَّجُلُ إِلى غِيرِ أبيهِ، أو يُرِيَ عَيْنَهُ مَا لَم تَرَ، أَوْ يَقُولُ عَلَى رَسُولِ اللهِ مَا لَمْ يَقُلْ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ، وَفِي رِوَايةٍ له عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ: ((مَنْ تَحَلَّمَ بِحلمٍ لَم يَرَهُ كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَينَ شَعْرَتَينِ، وَلَن يَفْعَلَ)).

عِبادَ اللهِ، لَقدْ شُغِلَ فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ بِتَأوِيلِ الأحْلاَمِ وَتَعْبِيرِ المنَامَاتِ، مَعَ أَنَّ أَكْثَرَهُم لَيْسَ لَه فِيهَا وِرْدٌ وَلاَ صَدرٌ، وَإنَّمَا يَتَأَكَّلُونَ بِهَا فِي كُتُبٍ تُبَاعُ أو رِوَايَاتٍ تُحْكَى، يُخَوِّفُونَ بِها النَّاسَ لتَحْقِيقِ غَايَاتٍ وَمَصَالِحَ؛ كَالرُّؤى الَّتِي يروِّجُ لَهَا أربَابُ التَّصوُّفِ وَيَعقِدُونَ عَلَيهَا الفضائلَ وَالخَيراتِ أَو العَذَابَ وَالنَّكَبَاتِ.

إنَّ السَّعْيَ لِتَعْبِيرِ الرُّؤَى وَالأحَلامِ لَيسَ مَطْلبًا شَرْعِيًّا، بَلْ إنَّ انْشِغَالَ النَّاسِ أو إشغالهم به يَجُرُّ عَلَيهم مَفَاسِدَ عَظِيمَةً، مِنهَا أَنْ يَكُونَ الإنْسَانُ حَبيسَ نَومِهِ يَنْتَظِرُ لَعلَّهُ يَرَى فَيَسَأَلُ فَيُفَسَّرُ لَهُ، وَمِنْهَا أَنَّها تُلْجِئُ بَعْضَ ضِعَافِ العُقُولِ أنْ يَأْتُوا بِأَحْلاَمٍ مُفْتَعَلَةٍ مُجَارَاةً لِغَيرِهِم مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ سَمِعْتُم وَعِيدَ الرَّسُولِ على مَنْ كَذَبَ في مَنامِهِ. يَقُولُ الطَّبَرِيُّ: "وَإِنَّمَا كَانَ الكَذِبُ فِي المَنَامِ أَشَدَّ مِنَ الكَذِبِ فِي اليَقَظَةِ لأنَّ الكَذِبَ فِي اليَقَظَةِ كَذِبٌ عَلَى المَخْلُوقِينَ، أَمَّا الكَذِبُ فِي المَنَامِ فَهُو كَذِبٌ عَلَى اللهِ أنَّه أرَاهَ شَيئًا لَمْ يَرَهُ".

أَيُّهَا الإخْوَةُ، المَنَامَات لاَ تَعْدُو أَنْ تَكُونَ مُبَشِّرَاتٍ أَو مُحَذِّرَاتٍ، لاَ يُعقَدُ عَلَيهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيسَتْ طِرِيقًا لِعِلاَجِ مَسْحُورٍ أَو مُعَانٍ، اللهُ سُبحَانَهُ هُوَ مَالِكُ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَلَو اجْتَمَعَ مَنْ عَلى ظَهْرِهَا عَلَى نَفْعِ عَبْدٍ أو ضُرِّهِ لم يَنفعُوه إلاَّ بِشَيءٍ قَدْ كَتَبه الله له، ولو اجْتَمَعُوا عَلَى أنْ يَضُرُّوه لَم يَضُّروه إلاَّ بشيءٍ قَد كَتبهُ الله عَليه، رُفِعَتِ الأقلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ.

يَقُولُ هشامُ بنُ حَسَّانٍ: كَانَ ابنُ سِيرِينَ يُسْألُ عَنْ مِائة رُؤيَا، فَلا يُجيب فِيها بِشيءٍ إلاَّ أَنْ يَقُولَ: اتَّقِ اللهَ وَأحْسِنْ فِي اليَقَظَةِ، فَإِنَّهُ لاَ يُضرُّكَ مَا رَأيتَ فِي النَّومِ. وَكَانَ يُجيبُ فِي خِلاَلِ ذَلكَ وَيقولُ: إِنَّمَا أُجِيبُهُ بِالظَّنِّ، والظنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ.

اللَّهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ لاَ يَنْطِقُ عُنِ الهَوَى، وَارضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وَعَنْ أصْحابِ نَبِيِّكَ أَجمَعينَ...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً