أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حديثنا في هذه الخطبة حول قضية إيمانية عقدية من أصول عقيدة المسلم التي يعيش عليها حتى يلقى ربه عز وجل سالمًا غانمًا بإذنه تعالى، هذه القضية هي محبة رسول الله الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، ومن الضلالة إلى الهداية، فتلقى رسالة ربه عز وجل، فبلغها وأداها أتم البلاغ صلوات الله وسلامه عليه حتى توفاه الله عز وجل، وقد اكتمل للأمة أمر دينها وشريعة ربها، ولم يترك عليه الصلاة والسلام صغيرة ولا كبيرة إلا بيَّنها ووضحها وجلاّها لأمته، وتركنا على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وهذا كله من تمام شفقته ورحمته بأمته وحبّه لهم، فجزاه الله عنا وعن الإسلام خير ما جزى نبيًا عن أمته، وجعل حبه واتباعه أحب إلينا من أنفسنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا والناس أجمعين.
إخوة الإسلام، ما مفهوم محبة رسول الله ؟ إنّ ذلك المفهوم يعني أن يميل قلب المسلم إلى رسول الله ميلاً يتجلّى فيه إيثاره على كل محبوب من نفس ووالد وولد والناس أجمعين؛ وذلك لما خصه الله من كريم الخصال وعظيم الشمائل، وما أجراه على يديه من صنوف الخير والبركات لأمته، وما امتن الله على العباد ببعثته ورسالته.
وبالجملة فأصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحِب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه كحب الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة كحب الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقًا، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي ، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خصال الجلال وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم ودوام النعم والإبعاد من الجحيم.
وحبّ المسلم لرسول الله عمل قلبيّ من أجل أعمال القلوب، وأمر وجداني يجده المسلم في قلبه، وعاطفة طيبة تجيش بها نفسه، وإن تفاوتت درجة الشعور بهذا الحب تبعًا لقوة الإيمان أو ضعفه.
وأما الأدلة على وجوب محبته فأكثر من أن تحصى، منها على سبيل المثال قوله تعالى: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ. ففي هذه الآية توعد الله من كان أهله وماله أحبَّ إليه من الله ورسوله والجهاد في سبيله بقوله: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ومعلوم أن الله لا يتوعد أحدًا بمثل هذا الوعيد الشديد إلا على ترك واجب أو فعل محرم.
يقول القاضي عياض عن هذه الآية: "فكفى بهذا حضًا وتنبيهًا ودلالة وحجة على إلزام محبته ووجوب فرضها وعظم خطرها واستحقاقه لها ؛ إذ قرَّع الله من كان ماله وأهله وولده أحب إليه من الله ورسوله، وتوعدهم بقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، ثم فسّقهم بتمام الآية، وأعلمهم أنهم ممن ضل ولم يهده الله".
ومن الآيات الدالة على وجوب محبته قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ. فهذه الآية إخبار عن مكانة الرسول بين المؤمنين، كما أنها أيضًا إخبار عن الحال التي ينبغي أن يكون فيها المؤمنون مع الرسول ، فهو أولى بهم من أنفسهم، ولا يكون كذلك حتى يكون أحبّ إليهم من أنفسهم. ويبيِّن ابن القيم رحمه الله أن هذه الآية دليل على أن من لم يكن الرسول أولى به من نفسه فليس من المؤمنين، ثم يوضح أن هذه الأولوية تتضمن أمرين: أن يكون الرسول أحب إليه من نفسه؛ لأن الأولوية أصلها الحب، ويلزم من هذه الأولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لأمره وإيثاره على ما سواه، ومنها أن لا يكون للعبد حكم على نفسه أصلاً، بل الحكم على نفسه للرسول ، يحكم عليها أعظم من حكم السيد على عبده أو الوالد على ولده، فليس له في نفسه تصرّف قط إلا ما تصرف فيه الرسول ، الذي هو أولى به منها.
فتبين من هذا أنه يجب على كل مؤمن أن يكون الرسول أولى به من نفسه في كل شيء، وأن يكون حكمه في أي شيء مقدمًا على رغبات النفس وتطلعاتها، بل إن الحياة لتعدّ هينة ورخيصة بجانب تحقيق ما فرضه الله ورسوله وإن كان على خلاف هوى النفس؛ لأن نفوسنا تدعونا إلى الهلاك والرسول يدعونا إلى النجاة، فكان أولى بنا من أنفسنا.
وحينما أيقن المسلمون الأولون بذلك أعزهم الله ومكن لهم في الأرض، فلما غلبت الأهواء واتُّبِعت الشهوات صار الحال مبدلاً معكوسًا، والسبب هو جعل محبته مجرّد شعارات وكلمات معسولة وأشعارا واحتفالات لا تمتّ للواقع بصلة، ثم الغفلة عن اتباع هديِه وسنته وأوامره واجتناب نواهيه .
وأما الأدلة من السنة فمنها ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)). فهذا الحديث من أوضح الأدلة على وجوب محبة الرسول ؛ لأن المؤمن لا يستحق اسم الإيمان الكامل ولا يدخل في عداد الناجين حتى يكون الرسول أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين. ومعنى ذلك ومن لوازمه أن تكون أوامر الرسول ونواهيه مقدمة على كل الأوامر والنواهي، فالحب القلبي يستلزم الاتباع والانقياد في الظاهر، فإذا كانت هناك محبة فعلية نتج عنها محبة كلام النبي وتقديمه على كل أحد، وجعل أوامره ونواهيه نصب عينه طيلة الوقت والعمر، فيعرفه في جميع أوقاته، ويعيش معه في كل حركاته وسكناته، ويرى أن سنته وهديه ألذ إليه من كل شيء.
ولقد فهم سلف الأمة هذه المحبة وعرفوها حق المعرفة، فالتزموها وجعلوها شعارًا لهم، حتى قادتهم إلى محبة الله ومرضاته، فأصبحوا أئمة يُهتدى بهم ومنارات يستدل بها.
هذا أبو عبد الله محمد بن المنكدر رحمه الله من أعلام التابعين قال عنه ابن الماجشون: "إن رؤية محمد بن المنكدر لتنفعني في ديني"، وما ذاك إلا لما كان عليه من السمت الصالح والمنظر الخاشع الذي إذا رأيته ذكرت الله عز وجل. وكان محمد بن واسع إذا سُئل عن حديث بكى، حتى يرحمه الجالسون من شدة محبته وشوقه لرسول الله . وأما أيوب السختياني رحمه الله فقال عنه الإمام مالك بن أنس: "رأيته مرتين بمكة يحدث، فما أخذت حديثه حتى رأيت منه منظرًا عظيمًا، كان إذا ذكر حديث رسول الله بكى حتى نرحمه، فعند ذاك أخذت عنه الحديث"؛ لأن من كانت هذه حاله فإنه يستحيل عليه الكذب على رسول الله . وأما الإمام الجليل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب رحمه الله تعالى عالم المدينة فإنه يعطينا درسًا لا يُنسى في اتباع هدي النبي ولزوم سنته، قال تلميذه الواقدي: سألته عن حديث رسول الله : ((من قتل له قتيل فهو بخير النظرين: إن أحب أخذ العقل، وإن أحب فله القود))، فقلت له: أتأخذ بهذا؟ فضرب صدري وصاح كثيرًا ونال مني، وقال: أحدثك عن رسول الله وتقول: تأخذ به؟! نعم آخذ به، وذلك الفرض عليَّ وعلى كل من سمعه، فعلى الخلق أن يتبعوه طائعين أو داخرين، لا مخرج لمسلم من ذلك.
فرحمة الله على هذا الإمام الجليل، كيف لو عاش إلى زماننا ورأى ما نحن فيه من تضييع وتفريط في أوامر الرسول وكيف آل الحال بكثير من الناس إلى التجرؤ وارتكاب ما نهى عنه رسول الله ؟! بعكس ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم الذين سمعتم شيئًا من أخبارهم في محبة رسول الله ، بل وفي تنفيذ وتطبيق أوامره دقيقها وجليلها، فهذا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: "ما كتبتُ حديثًا إلا وقد عملت به، حتى مرَّ بي أن النبي احتجم وأعطى أبا طيبة دينارًا، فأعطيت الحجام دينارًا حين احتجمت".
فانظروا ـ رحمكم الله ـ إلى شدة التأسي والاقتداء بالنبي كيف بلغت، هذا وإن مسند الإمام أحمد بن حنبل تزيد أحاديثه عن عشرين ألف حديث سوى ما رواه في كتبه الأخرى، ومع ذلك فما من حديث كتبه إلا وقد عمل به.
فنسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يرزقنا محبة رسول الله الكاملة الصادقة والاتباع الكامل لهديه وسنته .
|