أما بعد: أيها المسلمون، يعيش المسلمون هذه الأيام في أماكن شتى أيامًا عصيبة ومصائب كبيرة، فما إن يندمل جرح من جسد الأمة الإسلامية إلا وتُصاب بجرح آخر قد يكون أعظم مما سبق، وهذا ما يشهده الواقع اليوم من تطورات كبيرة في مراحل الصراع بين الأمة وأعدائها، في كل من فلسطين والعراق وأفغانستان والصومال وغيرها من بلاد الله تعالى. وفي كثير من هذه المراحل لا يملك الكثير من المسلمين ـ سواء ممن يعيشون في قلب الحدث كما يقال أو ممن هم بعيدون عنه بأجسادهم ولكن مع إخوانهم بقلوبهم ـ إلا الصبر والدعاء، إلى أن يمنَّ جل وتعالى بفرج من عنده.
أيها المسلمون، هذه بعض القواعد المهمة في هذا الباب، لعلّها تكون عونًا لنا في الصبر والتسلية وفي رفع الغمّة:
القاعدة الأولى: أن يعلم المؤمن أن كل ما يحصل في هذا الكون من حوادث وصراعات فهو بقضاء الله وقدره وبعلمه وإرادته ومشيئته، لا يخرج شيء من ذلك، كما قال سبحانه: إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر، وأنه سبحانه قدّر ذلك قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فلن تموت نفسٌ قبل أجلها المحدّد لها، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) رواه مسلم.
فإذا علم المؤمن ذلك وآمن به انشرحت نفسه ولم يجزع أو يتسخّط، ورضي بقضاء الله وقدره، وانشغل بعبادة ربّه وتحصيل معاشه بنفسٍ مطمئنة، عكس من لم يؤمن بذلك، فتجد الهلع والخوف قد استولى على قلبه، فلا يجد للحياة طعمًا، بل يصل به الأمر إلى الوفاة أو محاولة قتل النفس للتخلُّص من الحالة التي يعيشها.
القاعدة الثانية: أن الصراع والاختلاف سُنّة ربّانية ماضية، وهذا الصراع قد يكون بين أهل الحق وأهل الباطل، وهو صراع دائم ومستمر، ولن ينتهي إلا عندما يترك أهل الإسلام دينهم، كما قال سبحانه: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُم إن استطاعوا. وقد يكون الصراع أيضًا بين أهل الحق أنفسهم، أو بين أهل الباطل أنفسهم، نتيجة الاختلاف في المواقف أو الأطماع. والشواهد من التاريخ على ذلك كثيرة في الماضي والحاضر، وخير شاهد ما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. والله سبحانه قد يولِّي بعض الظالمين بعضًا ويكون في ذلك الخير والفرج للمؤمنين، كما قال سبحانه: وَكَذَلِكَ نوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن لا يستغرب حدوث مثل هذه الصراعات والأزمات، بل يؤمن أنها سُنّة جارية.
القاعدة الثالثة: أن ما أصاب المؤمنين من تسلُّط الأعداء عليهم وتقتيلهم وهدم بيوتهم وتهجيرهم من ديارهم قد يكون بسبب أنفسهم، كما قال سبحانه: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم. وإذا كان الصحابة رضي الله عنهم لما هُزموا في معركة أُحد مع رسول الله تساءلوا فيما بينهم عن سبب الهزيمة، فأنزل الله سبحانه قوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُم، وكان الذنب الذي بسببه هُزموا هو مخالفة الرُّماة لأمر رسول الله ونزولهم من الجبل، فعلينا أن نحذر من الذنوب والمعاصي، فهي سبب الهزيمة والضعف والوهن، ولن ننتصر على عدونا الخارجي إلا إذا انتصرنا على عدونا الداخلي وغيَّرنا من حالنا وأقبلنا على طاعة ربنا، إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم.
القاعدة الرابعة: من أعظم ما يجب على المؤمن التوكلُ على الله في الرخاء والشدة، واللُّجوء إليه عند المحن والأزمات، وطلب الفرج منه، فهو الناصر والمعين، وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه، والثقة بنصره وعدم الخوف من كثرة العدو وقوته، الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم. ولنا في سيرة رسول الله خير برهان، فهو لم ينتصر في معاركه الكثيرة مع الكفار بكثرة جيشه وأسلحته، ومن كان الله معه فليبشر بالنصر والتمكين، إنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُون.
القاعدة الخامسة: إن أعظم ما يعين المؤمن على الثبات ويقوي قلبه وقت الفتن والأزمات بعد التوكل على الله سبحانه الأعمالُ الصالحة، من دعاء وذكر وصلاة وصيام وصدقة وغيرها، فإن الأعمال الصالحة غذاء القلب ومادة قوته، كما أن الطعام والشراب غذاء الجسم ومادة قوته. وكان نبينا محمد إذا حَزَبَهُ أمرٌ فزع إلى الصلاة، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالاستعانة بالصلاة في سائر الأحوال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين. وأمر عند ملاقاة العدو بالإكثار من ذكره، وبيَّن أنه سبب الفلاح والنصر: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون.
القاعدة السادسة: أن النفس البشرية جُبلت على حبّ الحياة وكراهية الموت والقتل، وهذا لا تثريب فيه على الشخص، ولكن إذا وقعت الحروب والأزمات فعلى المؤمن أن لا يجزع من ذلك ويعترض على قضاء الله وقدره، فقد يكون في باطن ذلك الخيرُ والفرج وبداية النصر، وقد لا ندرك ولا نعلم هذا الخير لقصورنا البشري كما قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُون. ولما عقد رسول الله صلح الحديبية مع المشركين وكان من بنود الصُّلح أن يرجِع الرسول وأصحابه فلا يدخلوا مكة أصاب أصحابه رضي الله عنهم حزنٌ شديد وشقَّ ذلك عليهم، ثم إن الله فتح بعد ذلك مكة لرسول الله ، حيث نقض المشركون الصُّلح، فلننظر كيف أن هذا الصلح الذي كرهه الصحابة رضي الله عنهم أصبح خيرًا بعد ذلك وصار سببًا لفتح مكة.
القاعدة السابعة: أن يعلم المؤمن أن الباطل مهما استفحل وانتصر على الحق في أحوال فإن ذلك لا يعدو أن يكون مرحليًا ووقتيًا، وأن النصر في النهاية هو للحق وأهله، وهذه حقيقة شرعية وإرادة كونية قدرية، يجب أن نؤمن بها ونثق بوعد الله عز وجل، وأن يدعونا ذلك للتفاؤل وقت الأحداث، وأن وعد الله لعباده المؤمنين بالنصر قد قرب بزوغ فجره، وأن ظلمة الباطل قريبًا ما تنقشع، فهو سبحانه لا يخلف الميعاد، وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُون. وكان إذا اشتكى إليه أصحابه رضي الله عنهم ما يلاقونه من عذاب وشدة من المشركين دعاهم للصبر وعدم الاستعجال، وبشّرهم بانتصار الدين وغلبة أهله، فكان يقول: ((ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين)) رواه الإمام أحمد. إلا أن هذا التفاؤل وانتظار الفرج يجب أن يصحبه عمل جادّ وبحثٌ في الأسباب والعلاج، أما التفاؤل دون ذلك فهو عجز وخَوَرٌ، ولننتظر عند ذلك أن يحلّ بنا قوله تعالى: وَإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم.
القاعدة الثامنة: إن أعظم فرصة للدعاة إلى الله تعالى وللعاملين بحقل التربية والتعليم اغتنامُ أوقات الأزمات والحوادث لنشر رسالتهم في المجتمع، فإن النفوس يومئذ أقرب ما تكون إلى الخير وتحتاج إلى من ينير لها الطريق، وأن يقوم الداعية والمربي بربط ما يقع ويحدث بالسنن الإلهية الكونية. والنبي كان في أشدِّ الظروف بل في أعظم مصيبة يُصاب بها أهل الإسلام وهي قرب مفارقته للدنيا ومع ذلك لم يمنعه من القيام بالدعوة إلى الله حيث كان يقول وهو يعالج سكرات الموت: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم)) رواه الإمام أحمد.
إن عدم قيام الدعاة والمربين برسالتهم وقيادة المجتمع سوف يجعل المجتمع يموج كما يموج البحر، تتلاطمه هواة أقلام الصحف والمجلات ومقدِّمو القنوات الفضائية والتحليلات الإخبارية. إن الداعية والمربِّي البصير من يسعى إلى أن يحوّل المحنة إلى منحة والخوف من المستقبل إلى الثقة به، وأن يوظف ما لديه من إمكانيات التوظيف الإيجابي لتحقيق رسالته.
القاعدة التاسعة: أن متابعة الأحداث والتعايش معها والتأثر لأحوال المسلمين ينبغي أن لا يكون مانعًا للمؤمن من السعي في عمارة الكون وتحصيل رزقه ومصالحه، ولا يعتبر هذا تعلّقًا بالدنيا وعدمَ اهتمامٍ بأحوال المسلمين. والنبي وجّه بعمارة الأرض حتى آخر لحظة من عمر الدنيا إذ يقول : ((إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها)) رواه الإمام أحمد.
إن الواجب على أهل الإيمان خصوصًا وقت الأحداث المبادرةُ والسعي بأخذ أسباب القدرة والنصر المادية والمعنوية، كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ، وأن لا يكون موقفهم موقفَ المتفرج الذي ينتظر ويستجدي وسائل النصر من غيره بل أحيانًا من عدوه.
القاعدة العاشرة: أن نظرية المؤامرة يجب أن لا تكون مصاحبة لنا في كل حدث نعايشه؛ بحيث تكون هذه النظرية عقدة ملازمة لنا مع كل حدث، فإن الاختلاف بين البشر أمر فطري وسنّة ماضية، وتعارض المصالح بينهم أمر موجود حتى بين الأصدقاء أنفسهم، وخير شاهد على ذلك ما وقع في الحرب العالمية الأولى والثانية، والتي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، فقد كانت نتيجةَ اختلاف على الأطماع وسيادة بين الدول الغربية، كما أن الصراع بينهم قد يكون فيه مصلحة لأهل الإسلام وفرج لهم، ولهذا لما وقع القتال بين الدولتين العظيمتين الكافرتين الروم وفارس في زمن النبي وانتصر الروم فرح الصحابة رضي الله عنهم بذلك؛ لكون الروم أقرب للحق، فهُمْ أهل كتاب.
القاعدة الحادية عشرة: في زمن الفتن والأحداث يروج سوق الشائعات والأخبار، وتصبح حديث المجالس، وتتعلق بها القلوب من دون تثبّت، مع أن مصدرها قد يكون تحليلاً إخباريًا عبر قناة إعلامية، والتي أصبحت أكبر مصدر لها لجذب أكثر عدد من المتابعين.
إن الإشاعة ونقل الأخبار بمجرد سماعها وعدم التثبّت منها قد يترتّب على ذلك عواقب وخيمة في المجتمع واضطراب للأمن وخلل في الاقتصاد، وهذا أمر مُشاهد معلوم، ويكفي لبيان أثر ذلك مثال واحد حدث زمن النبي ، عندما أُشيع خبر مقتله في غزوة أحد، فكان من أثر ذلك أن قعد بعض الصحابة رضي الله عنهم عن القتال.
والإسلام جعل منهجًا واضحًا عند سماع الأخبار ونقلها، وهو التثبّت والتبيّن منها، بل جعل من يحدّث بكل ما سمع كذّابًا، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع)) رواه مسلم. وهذا المنهج لا يتغير سواء حال السِّلم أو الحرب، بل إنه ليتأكد حال الحرب والفتن حفاظًا على أمن المجتمع وسلامته.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ بلاد المسلمين من كل مكروه.
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب، وسنة النبيّ المصطفى الأوّاب. أقول قولي هذا، وأستغفر الله الغفور الوهّاب لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه كان غفّارًا، وتوبوا إليه إنّه كان توّابًا.
|