أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عباد الله، يقول ربنا جل في علاه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [القصص: 68]. فسبحان من له الخلق والأمر تبارك ربّ العالمين، فالخلق خلقه، والأمر أمره، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23].
عباد الله، إنّ اللهَ خلق الزمان واختار منه ما يشاء، فاختار من الشهور بعضها وفضلها على بعض، واختار من الليالي والأيام ما يشاء، كل ذلك بحكمته ورحمته، عليم حكيم، رؤوف رحيم، لا رادّ لقضائه، ولا معقب لأمره، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 18].
ومما اختار الله من الشهور شهر الله المحرم، فأضافه إلى نفسه سبحانه تشريفًا وتكريمًا، وهو هذا الشهر الذي نعيش الآن أيامه، خصه الله بمزيد تشريف وتكريم، وزاده بفضل إجلال وتعظيم.
ومما جاء في فضلة عن النبي ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: ((أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل)). ومن فضائل يوم عاشوراء أنه اليوم الذي تيبَ فيه على آدم ويونس عليهما وعلى نبينا أفضل الصلاة وأزكى السلام.
عباد الله، إنكم في شهر حرام وفي بلد حرام، عظم الله هذا الشهر وعظم هذا البلد، فمِن تعظيم الله سبحانه أننا نعظم ما عظّم وأن نحرّم ما حرّم.
عظم الله هذا الشهر فقال سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36]. فهذه الأشهر هي ذو العقدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان كما أخبر بذلك الصادق المصدوق .
عباد الله، ولما نوّه الله بعِظَم هذه الشهور ونبه على فضلها عقَّب ذلك بتحريم الظلم فيها، فالظلم ذنب عظيم وإثم مرتعه وخيم، وهو سبب كل شر وفساد وكل بلاء وإلحاد، فهو منبع الرذائل والموبقات ومصدر الشرور والآفات، متى فشا في أمة آذن الله بأفولها, ومتى شاع في بلدة فقد انعقدت أسباب زوالها، فبه تفسد الديار وتخرب الأمصار, وبه ينزل غضب الواحد الجبار, قال الله سبحانه وتعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف: 59]، وقال: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ.
أيها المؤمنون, إن الله تعالى نفى عن نفسه الظلم, فقال عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46], وقال: وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا. وقد حرمه تعالى على نفسه فقال في الحديث القدسي: ((يا عبادي, إني حرمت الظلم على نفسي, وجعلته بينكم محرمًا, فلا تظالموا)) رواه مسلم. فحرم الظلم على نفسه قبل أن يجعله محرمًا بين عباده. وقد أعلن النبي حرمة الظلم في أعظم مجمع وموقف, فقال في خطبته يوم عرفة: ((ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))، وفي الصحيحين أن النبي قال: ((اتقوا الظلم, فإن الظلم ظلمات يوم القيامة))، وقال فيما يرويه مسلم وغيره: ((المسلم أخو المسلم؛ لا يظلِمه, ولا يخذله, ولا يحقره)).
وقد تهدد الله تعالى أرباب الظلم وأهله, فقال جل ذكره: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42]، فالله تعالى للظالمين بالمرصاد, إذا أخذ الظالم لم يفلته، بل يأخذه أخذ غزيز ممقتدر، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]. وقد لعن الله الظالمين فقال: ألا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود: 18]، وأخبر سبحانه أنه يبغضهم فقال: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران: 57].
والظلم ـ يا عباد الله ـ من أعظم أسباب ارتفاع الأمن وزوال الاهتداء عن الأفراد والمجتمعات, قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام: 82]، فبقدر ما يكون في الفرد والمجتمع من الظلم بقدر ما يرتفع عنه الأمن والاهتداء, فالجزاء من جنس العمل، وَمَا رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46].
أيها المؤمنون, إن الظلم الذي وردت النصوص في تحريمه وبيان سوءِ عاقبته والتحذير منه دواوين ثلاثة:
أولها: ديوان لا يغفره الله أبدًا، وهو الإشراك بالله تعالى، بصرف العبادة أو بعض أنواعها لغير الله, كدعاء غيره, والسجود لغيره, والذبح والنذر لغيره, ونبذ شرعه والتحاكم إلى سواه, قال الله تعالى حاكيًا عن لقمان وصيته لابنه: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]، فهذا الظلم لا يغفره الله إلا بالتوبة منه, قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء [النساء: 48]. فأخلصوا ـ أيها المؤمنون ـ عبادتكم لله تعالى, فإنه من قال: "لا إله إلا الله" خالصًا من قلبه دخل الجنة، وحاربوا الشرك وأهله بالدعوة إلى التوحيد.
وأما ثاني الدواوين: فذاك الظلم الذي لا يتركه الله تعالى, وهو ظلم العبد غيرَه من الخلق, فهذا لا بد فيه من أخذ الحقّ للمظلوم من الظالم, كما قال الله سبحانه في الحديث الإلهي: ((وعزّتي، لأنصرنّك ولو بعد حين)).
أيها المؤمنون, اتقوا الظلم, فإنّ نبيكم الصادق المصدوق أخبر أن الدنيا تملأ في آخر الزمان ظلمًا وجورًا, وها نحن نشهد صدق ما أخبر به، فإن الظلم قد فشا وشاع بين الناس، في الدماء والأموال والأبضاع والأعراض. ومن أعظم الظلم وأشنعه ظلم الأقربين والتعدي عليهم بأي نوع من أنواع الظلم كما قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضـاضة على الحُرِّ من وقع الحسام المهند
فمن الناس من يظلم والديه وأقرب الناس إليه، ومن الناس من يظلم زوجه وأبناءه وبناته ومن له حق الولاية عليهم، ومن ظلم الزوجات أن لا يقوم بما يجب لها من حقوق شرعية، سواء في النفقة أو التعامل الحسن والكلمة الطيبة والاحترام والتقدير المطلوب بين الزوجين والوفاء لها وتقدير ضعفها وعاطفتها وحاجتها، ويظهر الظلم بصورة أوضح عند بعض الذين لديهم أكثر من زوجة، فيميل إلى واحدة على حساب الأخرى.
ومن ظلم الأولاد أنّ بعض الناس لا يحسن العدل بين أولاده، فيظلم بعضهم، ويَشْعُر أحد الأولاد ابنًا أو بنتًا بميل الأب إلى غيره وعدم العدل بينه وبين إخوانه، وتلك مشكلة يغفل عنها الكثير من الآباء؛ مما يسبب الحقد والبغضاء بينهم، وكم سمعنا من هذا الشيء الكثير حتى تبلغ العداوة بين الإخوان شيئًا لا يكاد يصدقه عقل، حتى بلغ الأمر ببعضهم أن يسحر أخاه أو يعتدي عليه بالضرب أو القتل، والرسول يقول: ((اتقوا الله واعدلوا في أولادكم)).
ومن ظلم العبد لغيره ظلم الخدم والعمال، فكم نرى من أصحاب الأعمال الذين ظلموا عمالهم؛ بتحميلهم ما لا يطيقون, أو بتأخير رواتبهم ومستحقاتهم, أو جحد حقوقهم, أو فرض الإتاوات عليهم.
وكم هم الولاة الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم, وحكموا القوانين الوضعية، فلم يعدلوا في الرعية ولم يقسموا بالسوية. وكم هم الذين أطلقوا لأنفسهم العنان في أعراض الناس ودمائهم, فتفكهوا بأعراض الغافلين وسفكوا دماء المؤمنين.
فلِلَّه ما أكثر المفلسين الذين يعملون لغيرهم ويتحمّلون عنهم, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((أتدرون ما المفلس؟)) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع, فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة, ويأتي قد شتم هذا, وقذف هذا, وأكل مال هذا, وسفك دم هذا, وضرب هذا, فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه أُخِذ من خطاياهم فطرحت عليه, ثم طرح في النار)) رواه مسلم.
فيا لها من تجارة بائرة وصفقة خاسرة أن تأتي يوم القيامة وأنت أحوجُ ما تكون إلى حسنة تثقل بها ميزانك, فإذا بخصمائك قد أحاطوا بك, فهذا آخذ بيدك, وهذا قابض على ناصيتك, وهذا متعلق بتلابيبك, هذا يقول: ظلمتني, وهذا يقول: شتمتني, وهذا يقول: اغتبتني أو استهزأت بي, وهذا يقول: جاورتني فأسأت جواري, وهذا يقول: غششتني, وهذا يقول: أخذت حقي.
فيا عباد الله، تداركوا الأمر قبل فوات الأوان، فما هي والله إلا ساعة ثم تبعثر القبور، ويحصّل ما في الصدور، وعند الله تجتمع الخصوم, فيقتص من الظالم للمظلوم, فتحللوا ـ أيها الإخوان ـ من المظالم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار, فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ((من كانت له مظلمة لأخيه من عرضه أو شيء فليتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم, إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته, وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه)) رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|