أما بعد: معاشر المسلمين، سورة الفاتحة، هل تساءل أحدٌ منا يومًا ما السر في تكرار قراءتها في كل ركعة من صلواتنا المفروضة والنافلة؟! وجمهور العلماء على أن قراءتها ركن من أركان الصلاة. وهل سعى كل مسلم إلى معرفة معانيها والبحث عن تفسيرها؟ وهل حرص طلاب العلم خاصة على معرفة بعض دقائق معانيها؟ ولماذا قراءتها على المريض ـ نفسيًا كان أو عضويًا ـ يُغني عن الدواء بإذن الله كما هو ثابت في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري في قصة الرجل اللديغ حين قُرِئت عليه فقام كأن لم يكن به شيء؟
هذا ما سأحاول فيه بهذه الخطبة وربما غيرها؛ أن أقف معكم على بعضٍ من أصول معانيها، أما الإحاطة بأكثرها وتتبع دقائقها فيحتاج إلى أمرين لا يتوفران هنا: الأول: الرسوخ في العلم، والثاني: الوقت الطويل.
فتعالوا بنا نستلهم بعضًا من هدايات هذه السورة التي قال الرسول عنها كما صح في المسند والترمذي: ((والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان ـ أي: القرآن ـ مثلها، إنها السبع المثاني)). قال ابن القيم في مدارج السالكين (1/74): "أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب، جمع معانيها في التوراة والإنجيل والقرآن، وجمع معاني هذه الكتب الثلاثة في القرآن، وجمع معاني القرآن في المفصل، وجمع معاني المفصل في الفاتحة، ومعاني الفاتحة في قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]".
وقد كتب العلماء الكثير عن تفسيرها، حتى إن الإمام ابن القيم رحمه الله كتب ثلاثة مجلدات لبسط معاني آيةٍ واحدة فيها فقط في قوله تعالى إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ في كتابه المشهور: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين.
وأبلغ من هذا وذاك ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قال الله مجّدني عبدي، فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
معاشر المؤمنين المصلين، لعل ما سبق من التساؤلات أو ما ذكر من عناية العلماء أو ما سمعتم من صحيح الكلم الصادر من مشكاة النبوة عن هذه السورة العظيمة؛ لعل ذلكم يكون عونًا لنا في مدافعة الغفلة والسهو المفرط في الصلاة، والذي أضحى يتشكّى منه الكثير من المصلين، ولعل تدّبر معانيها أيضًا يكون سببًا في الخشوع الذي هو روح الصلاة، فنتذوقُها ونستطعمها، فنقبلُ عليها، ونفرحُ بالدخول بها. وفقنا الله للصواب وهدانا لفهم نصوص السنة وآيات الكتاب.
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الحمد: ذكر صفات المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله، والرب هو المالك المتصرف، والربوبية تقتضي أمرَ العباد ونهيَهم وجزاء محسنهم بإحسانه ومسيئهم بإساءته، ومع أنه مالكُ كل شيء وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء، إلا أنه الرحمن الرحيم، فاطمئِنَّ أيها المسلم، بل افرح وافخر بربك ومولاك الذي تعبده، رحمن رحيم، يعفو ويصفح ويغفر، حليم لا يعجّل بالعقوبة، كريم لا يبخل بالعطاء، فسارع إليه بالخروج من الذنوب والتوبة منها، فإذا خررتَ ساجدًا ومظهرك ساجدًا يدل على الذلة والخضوع، وهو أقرب ما تكون من مولاك، فاغتنم تلك الفرصة فلعلها لا تعود، واطرح ما لديك في ساحته، واعرض نفسك عليه مشفقًا من عذابه، مؤمِّلاً عفوَه وصفحه، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
يقرأ المصلي في كل ركعة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، ما يوم الدين هذا الذي خصّه الله تعالى بالملك، وهو سبحانه المالك كلَّ شيء؟ إن سورة الفاتحة تثير معنى يوم الدين وتذكِّر به، إنه اليوم الذي لا بد أن يشهده كل إنسان. آية مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ توقظه ليأخذ أُهبة السفر الذي لا بد لكل حي أن يسافر إلى ذلك الموقف، ويشهد ذلك اليوم. وبحسب كمال انتباهه ويقظته يكون عزمه على المسير، وبحسب قوة عزمه وقِلّة عجزه يكون استعداده لذلك اليوم، يومَ الوعد والوعيد، والجنةِ والنار، يومَ يُبْصِرُ الناسَ وقد خرجوا من قبورهم مهطعين لدعوة الحق، وقد نزلت ملائكة السماوات فأحاطت بهم، وقد جاء الجليل سبحانه، ونُصب كرسيّه لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، ووُضع الكتاب، وجِيء بالنبيين والشهداء، ونُصِب الميزان، وأخذت الصحف تتطاير، واجتمعت الخصوم، وتعلّق كل غريم بغريمه، ولاح الحوض وأكوابه عن كَثَب، وكثُر العِطاش، وقلَّ الوارد، ونُصب الجسر على متن جهنم للعبور، والنار يحطم بعضها بعضًا تحته، والمتساقطون فيه أضعاف الناجين.
كل هذه المعاني تكون شاهدة في قلب المصلي حين يقرأ قول الله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، فتنكسر حدة التعلق بالدنيا والانجذابِ إليها، ليطير إلى الآخرة وكأنه يسمع هاتفًا يقول:
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنَّها منازلك الأولى وفيها المخيّم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعـود إلَى أوطاننا ونسلم
وأنت في هذا الجو وقلبك هَلِع فَزِع لا تملكِ إلا أن تتوسل إلى ربك بالدعاء أن يهديك سواء السبيل، ويعينَك ويوفقَك، ويشرحَ صدرك لعبادته وحده، لتنجو من أهوال ذلك اليوم العظيم وخزاياه، ولتفوز بجنته ورضاه. وكل هذه المعاني وأكثر صيغت بأوجز عبارة وأبلغ بيان في الآية التي تلي الآية السابقة وهي قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وفرقٌ بين لفظ: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ولفظ: (نستعينك)، فلفظ: (نستعينك) قد نستيعن معك بغيرك، وأما لفظ: وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فلا نطلب العون إلا منك وحدك؛ لأن الأمر كلَّه بيدك وحدك، لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة، وفيها إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يُتوكّل إلا على من يستحق العبادة لأن غيره ليس بيده الأمر، فلا تتوكل عليه أيها المسلم. والربط بين العبادة والتوكل صُرِّح به في آيات أخرى؛ في قوله سبحانه: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]، وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِي اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ [التوبة: 129]، وقوله: قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا [الملك: 29] وغيرها. قال ابن تيمية رحمه الله: "إِيَّاكَ نَعْبُدُ تدفع الرياء، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ تدفع الكبر".
نفعنا الله بهدي كتابه وسنة رسوله وهدي الصحابة، أقول قولي هذا...
|