أما بعد: فإنّ الله جل وعلا له الحكمة البالغة العليا في الأرض من تصارُع القوى وتنافس الطاقات في هذه الحياة الدنيا الصاخبة التي لا تهدأ، تموج بالناس في ميادينها الواسعة المترامية الأطراف. ومن الملاحظ ـ معاشر الإخوة ـ أن الناس عبر التاريخ في تدافعٍ وتسابقٍ وتزاحم، ومن وراء ذلك كله يد الحكيم العليم سبحانه، فلو شاء الله عز وجل لهدى الناس جميعًا، ولو شاء سبحانه ما اقتتلوا، لكنه قدّر أن تكون هذه الحياة دارَ امتحان ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
ولولا دفْعُ الله الناس بعضهم ببعض لتعفنت الحياة وأَسِنَت وأنتنت، والناس في الغالب تتعارض مصالحهم وتتباين اتجاهاتهم وآراؤهم، كما تختلف أديانهم، فيقع التصارع والتغالب والتدافع، وهذا يستجيش في النفوس مكنوناتٍ مذخورة فتظل أبدًا يقِظَةً عاملة كادّةً كادحة، وهكذا فطرها الله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق: 6]، فإن لم يكن جهدُ بدنٍ وكد وعملٍ فهو جهدُ تفكيرٍ وكدُّ مشاعر، الواجد والمحروم سواء، إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء.
لكنّ فريقًا من الناس يوفق للخير والهدى والصلاح، فيثبتون على الحق ويُدركون حكمة الله تعالى في الخلق، ويتواصون بالحق وعلى الصبر، فيكون الفوز والنصر والتأييد لهم، ويظهرون على عدوّهم.
بيد أن ذلك الظهور والنصر عزيز؛ فقد ينتابُهُ ويتخلله كرٌ وفر، وقوةٌ وضعف، وتقدمٌ وتقهقر، وألمٌ وأمل، وفرحٌ وغم، واطمئنانٌ وقلق. ولأجل أن يثبت المسلم على دين الإسلام ويموت عليه يحتاج إلى يقين لا تبدّده سرّاء ولا تثنيه ضراء، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر.
أيها المؤمنون، ومع أن الله تعالى تكفّل بالنصر للمؤمنين في مثل قوله تعالى: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ، إلا أنه سبحانه شاء أن يتم ذلك عن طريق المؤمنين أنفسهم، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد: 4]، فلو شاء جل وعلا لأنزل نصره على عباده، وخذل وهزم أعداءه.
ونصر المؤمنين على الظالمين وعلى الكافرين قد يبطئ ويتأخر لحكمة يقدرها الله تعالى.
يبطئ النصر لأن الأمة لا تزال في فرقة واختلاف وتهافت على الدنيا، لم تعِ دورها بعد، ولم تعرف خطر عدوها، فلم تحشد طاقتها استعدادًا له، ولو نالت النصر وهي على تلك الحال السيئة لفقدته سريعًا لعدم قدرتها على حمايته طويلاً. وقد شاهدنا وشهدنا تطبيق ذلك في أفغانستان بعد طرد الروس منها وتمكّن المجاهدين، ثم ما لبثوا أن دبَّ الخلاف بينهم.
يبطئ النصر حتى تبذل الأمة آخر ما في طوقها من قوة وآخر ما تملكه من رصيد، فلا تستبقي عزيزًا ولا غاليًا لا تبذله هينًا رخيصًا في سبيل الله.
يبطئ النصر حين يغتر المسلمون بقوتهم وحدها، ويغفلون عن سند الله ومدده وتوفيقه كما حدث للمسلمين يوم حنين.
وقد يبطئ النصر لتزيد الأمةُ المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتبذل ولا تجدُ لها سندًا إلا الله، ولا متوجهًا إلا إليه وحده في الضراء، فلا تلجأ إلى هيئة الأمم ولا تناشدها، ولا تشكو لمجلس الأمن ولا تحتكم إلى ما يسمى بالشريعة الدولية ولا ترضاها، وما ذاك إلا لأن الصلة بالله تعالى هي الضمانة الأولى لاستقامة الأمة على الحق بعد النصر، فلا تطغى ولا تظلم ولا تنحرف عن الحق والعدل الذي نصرها الله تعالى به.
وقد يبطئ النصر لأن المؤمنين لم يجردوا بعد كفاحهم وتضحيتهم لله، وإنما يقاتلون لمغنم أو حمية، أو من أجل الكرامة ونحو ذلك، والله جل وعلا يريد أن يكون الجهاد له وحده وفي سبيله، بريئًا من النوايا الأخرى التي تلابسه. وقد سُئل رسول الله : الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى، فأيها في سبيل الله؟ فقال: ((من قاتل لتكون كلمة الله عي العليا فهو في سبيل الله)) متفق عليه.
كما قد يبطئ النصر لأن في الشر الذي يكافحه المؤمنون بقية من خير، يريد أن يُجرد الشر منها ليتمحض خالصًا، ويذهب وحده هالكًا، لا تتلبس به ذرة من خير تختفي في غماره.
وقد يبطئ النصر ويتأخر لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تمامًا. وكم نسمع من بني جلدتنا من يمجد أمريكا والغرب ويشيد بإنسانيتهم، ويعجب بدمقراطيتهم، ويثني على عدالتهم، فلو انتصر المؤمنون فقد يجد الباطل أنصارًا من المخدوعين فيه، لم يقتنعوا بعدُ بفساد أولئك الكفار وضرورة زوالهم، يجد الباطل أنصارًا من المسلمين غير مستيقنين ببغض الكفار لنا، ويرون أن النصوص القرآنية التي تؤكد عداوة اليهود والنصارى والكفار جميعًا، يرون أن تلك النصوص إنما تعني اليهود والنصارى في عصور مضت وخلت، وحينئذ تظل جذور الباطل وأهله في نفوس مَن لم تتكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله تعالى أن تبقى دولة الباطل حتى ينكشف الكفر بظلمه عاريًا للناس، بوجهه الظالم وسلوكه الذي لا يرحم، ثم يذهب غير مأسوفٍ عليه من أحد أبدًا.
وأخيرًا عباد الله، قد يتأخر النصر ويبطئ ليظل الصراع قائمًا، وليختار الله تعالى مزيدًا من الشهداء، وما عند الله خيرٌ وأبقى.
فمن أجل تلكم الأشياء المذكورة كلها وغيرها مما يعلمه الله تعالى ولا نعمله قد يبطئ النصر، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، مع دفاع الله عن الذين آمنوا ونزول السكينة والطمأنينة في قلوبهم واليقين بما هم عليه من الحق.
اللهم وفقنا لما وفقت إليه عبادك الأخيار، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، وأكرمنا وشرفنا ومتعنا وأسعدنا بالقيام على أمر دينك والدعوة إليك، واجعل أعمالنا صالحة ولوجهك خالصة، ومُنَّ علينا بالقبول...
|