أما بعد: عباد الله، اعلموا أن يومكم هذا هو يوم الحج الأكبر، وهو عيد الأضحى والنحر. هو يوم الحج الأكبر لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسك الحج؛ يرمون الجمرة الكبرى، ويذبحون الهدايا، ويحلقون رؤوسهم، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة. وهو عيد الأضحى والنحر لأن الناس يُضحُّون فيه وينحرون هداياهم.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين، تميّزت شريعة الإسلام بعيدين، ليسا تمجيدًا لوجيه، ولا إحياءً لذكرى، ولا احتفاءً بميلاد، وليس العيد فرصة لكيلِ المدائح ونظمِ الأشعار ثناءً على حركة من الحركات أو انتصارًا من الانتصارات أو إنجازًا من الإنجازات، إنما العيد في الإسلام له شأن آخر ومعنى متميز، إنه تجديدُ إعلان التّوحيد لله ربّ العالمين الأحد الفرد الصمد، وذلك التوحيد ينبثق منه دعوةُ وِحدةٍ للأمة المسلمة، إنه دعوةٌ لمراجعة الأوضاع وتقييم الماضي والحاضر والإعداد للمستقبل. وإعلانُ الفرحة وإظهارها في العيد إنما هو ترجمةٌ لتك المعاني وفرحٌ بذلك المجد الّذي خصّ الله تعالى به أمّة محمد أن جعلهم خير أمة أُخرجت للناس.
لقد نال بنو إسرائيل من المجد والشرف في التاريخ ما لم تنله أمة غيرهم، فكثير من الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم هم من بني إسرائيل، وفي القرآن إشارات كثيرة إلى ذلك المجد، منها قول الله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ [البقرة: 211]، وقوله سبحانه: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 47]، وقوله جل شأنه: وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [الدخان: 32]، وقوله تعالى: أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء: 197]، فلما كفروا بنعمة الله وعَدُّوا تلك النعم مبررًا لهم في الإسراف بالظلم والتعنت والجحود والعناد وسُوء الأدب مع الله تعالى ومع رسله وكفروا بنعمة الله وتكبّر بعضهم وترهبن آخرون رهبانية مبتدعة سلب الله تعالى مجدهم، وأُورِثنا إياه، فلله الحمد والمنة.
فطيروا فرحًا ـ يا أمة محمد ـ بهذا التكريم وهذه الخصوصية، وشعور المسلم بذلك وهو يسرح طرفه ما بين المشرق والمغرب يمنح قلبه إجلالاً وتعظيمًا لربه وحياءً منه سبحانه الذي اصطفاه ما بين جموع غفيرة قُدِّر أن لا تهتدي إلى صراطه المستقيم، وذلك الشعور يمّده أيضًا بروحٍ منه وعون أن لا يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكل دين سوى الإسلام كفر، وكل مذهب خلاف هدي رسول الله ابتداع، فلا يزال انتماء المسلم لدينه الذي يؤمن أنه فخرُه ورأسُ ماله، بل يوقن أنه حياتُه وموته، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ [الأنعام: 162، 163].
واعلموا ـ عباد الله ـ أنه ما غاظ اليهود شيء مثلما غاظهم سلب النبوة والملك منهم ونقلها للعرب، الأمر الذي أوقد نار الحسد في قلوب اليهود، قال الله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْحَقُّ [البقرة: 109]، وقال سبحانه: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة: 90]. لقد أفرزت نار الحقد والحسد في قلوبهم نارًا حقيقية سعوا ويسعون في إشعالها طيلة تاريخهم إلى عصرنا الحاضر، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا [المائدة: 64]، هذه سجيتهم، وهذا طبعهم لا يتغير، فلا يمكن أن تنسجم طِباعهم ولا تتفاعل مع مؤتمرات السلام، أو تقبل نفوسهم الجلوس على طاولات تفاوض وصلح.
دولتهم المعاصرة تمتلك أشد أنواع الأسلحة فتكًا ودمارًا، ورافضة الدخول في أي معاهدة دولية للحد من تلك الأسلحة، فلأي شيء يُعدونها؟! إنها سعي منهم لهدم دين محمد وقتل المسلمين إن استطاعوا، عبَّر عن مشاعرهم هذه جَدهم حُيي بن أخطب في نهاية اجتماعٍ عقده مع الرسول أول ما وصل الرسول إلى المدينة، وسأله أي: سأل حيي بن أخطب أحد كبار اليهود بعد الاجتماع عن حقيقة الرجل يعني محمدًا ، أهو الذي ورد وصفه بالتوراة؟ فأجاب: نعم، قال: ما العمل؟ قال: عداوته والله ما بقيت، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89].
وتاريخ اليهود حافل بالمكر والخديعة والحسد وخبث الطوية ضدّ أنبياء الله تعالى ورسله، وليس ضد أمة محمّد فحسب، سفكوا الدماء وشرّدوا الأبرياء وقتلوا الأنبياء، بل قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181]، أفيُرتجى من هؤلاء عدل وسلام لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبَدَ الطاغوت وألقى العداوة والبغضاء بينهم إلى يوم القيامة؟!
معاشر المسلمين، إن الله غني عن العالمين، وهو الرزاق ذو القوة المتين، والأحساب والأنساب تتساقط إذا صادمت الشرع واستكبرت على الحق، وليس لها عند الله وزنٌ ولا قيمة، وإنما الميزان المعتبر شرعًا هو التقوى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
تذكروا ـ معشر المسلمين الأفاضل ـ أنّ لكم إخوة في الإسلام يمرّ عليهم العيد أو ربما الأعياد لم يأنسوا بجمعٍ أو يهنؤوا بعيد، أحوالهم تختلف بين مريض وأسير وشريد وطريد، أرامل وثكالى ويتامى، سامهم العدو سوء العذاب، وخذلهم الصديق بالإهمال والتجاهل والنسيان وموت الضمير، والراحمون يرحمهم الرحمن، فأفيضوا أولاً على إخوانكم وأرحامكم وأقاربكم وجيرانكم وزملائكم ما يطمئنهم إليكم ويؤكد رحمتكم بهم؛ حتى تسود الرحمة في المجتمع بدلاً من الشحناء والقطيعة والتباغض والنفعية المادية التي سرعان ما تتهشم وتنكشف حين تقلّ أو تضعف، ومن وجد سبيلاً وحيلة أن يصلَ معروفه إلى أيّ مسلم محتاج فليفعل، فإنّكم لا تدرون في أيّ نفقاتكم يمكن القبول والبركة والأجر، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء وترفع الدرجات عند مولاكم الرحيم جل شأنه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، أحب الأعمال إلى ربكم في يومكم هذا إراقة الدماء بذبح الأضاحي، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحبَّ إلى الله من إهراق الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفسًا)) رواه الترمذي وحسنه ورواه ابن ماج والحاكم وقال: "صحيح الإسناد". وروى البخاري ومسلم عن أنس قال: ضحّى النبي بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما.
والأضحية ـ عباد الله ـ تعبيرٌ عن تجريد العبادة لله وتحقيقٌ للتقوى، قال الله جل وعز: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ [الحج: 37]، وهي تذكير للمؤمن أنه يتعين عليه أن يضحّي بكل غالٍ في سبيل الله ولو كانت روحه، كما فعل الخليل عليه السلام الذي أُمِرنا باتباع ملته حين عزم على أن يضحّي بابنه إسماعيل عليه السلام امتثالاً لأمر الله تعالى. والأضحية دعوة عملية لتخليص النفس من الشحّ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [الحشر: 9]. ومن السنة أن يأكل المضحّي ثُلُثًا ويهدي ثُلُثًا ويتصدق بثلث.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، الأولاد من بنين وبنات أمانة في أعناقنا، والبحث الجاد في كل ما يصلح حالهم ويرتقي بهم إيمانيًا وتعليميًا ودنيويًا أمرٌ حض عليه الإسلام ورغّب فيه، بل أوجبه ووعد عليه المثوبة في الدنيا والآخرة. إن من التفريط وقلّة الحكمة أن ينشغل الوالد بأعماله بعيدًا عن أولاده، أو ربما قضى البعضُ سحابة نهاره وجزءًا من ليله في استراحته الخاصة أو مع زملائه لا يدري عن أولاده شيئًا، وإذا عُوتب في ذلك أجاب قائلاً: وفرت لهم كل ما يحتاجونه، والسائق تحت طلبهم ووفق تصرفهم وأمرهم. هل هذا التعامل مع الأولاد يُعدُّ تربية؟! هل يعد رعاية يسقط به الواجب المنصوص عليه في حديث الرسول : ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته))؟! هل هذا التعامل يُرجى معه صلاح الأولاد أو فلاحهم أو نجاحهم؟! لو عوتب هذا الأب عن جوانب قصور في نفسه لأجاب: ما كان آباؤنا يهتمون بالتربية، فكل نهارهم عمل، ولا نراهم إلا في نهار الجمعة. فانظروا وتعجبوا من مثل هذا، لا ينسى تقصيرًا وقع في حقّه، مع أنه غير مقصود، ومع أن الأوضاع سابقًا كما يعلم الجميع تختلف في جوانب كثيرة عمّا هي عليه الآن، فليتّق الله كلّ أبٍ مفرّط، وليعلم كل مقصِّر في أمانة تربية الأولاد أنه سيجد غِبَّها في الدنيا قبل الآخرة.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلاً.
|