أما بعد: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي : ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير))، ثم قال: ((بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة))، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلتَ هذا؟ قال: ((لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا))، أو قال: ((إلى أن ييبسا)) رواه البخاري.
ومعنى الحديث ـ معاشر المسلمين ـ أن النبي كان يمشي ذات يومٍ بالمدينة ومعه بعض أصحابه رضي الله عنهم، فمرُّوا بقبرين، فأسمع الله تعالى نبيه صوتَ من في القبرين يعذبان، وأطلعَ سبحانه نبيَّه على سبب العذاب الذي يجري عليهما، فقال : إنهما ليعذبان بسبب أمرٍ كبير، لكنّ جملةً من الناس لا ينظرون إليه، ولا يعدُّونه كبيرًا، لأنه خفيٌ وحقير، فأراد النبي أن يوضح حقيقة الأمر بأنه كبير، نحو قوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]، ويؤيد هذا المعنى ما روي في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: ((يعذبان عذابًا شديدًا في ذنب هيِّن))، أي: هينٌ في عيون المتساهلين به. وقال بعض أهل العلم في معنى ((وما يعذبان في كبير)) أي: إن الاحتراز منه ليس كبيرًا ولا شاقًا.
عباد الله، ما المراد بقول النبي : ((لا يستتر من بوله))؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى: لا يستبرئ ولا يتنزه ولا يتوقّى ولا يتحفّظ من البول، فيراه يقع على جسمه أو على ملابسه ولا يهتم ولا يلتفت إليه، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم.
وذهب آخرون إلى أن معنى ((لا يستتر من بوله)) يعني: لا يستر عورته حين يتبول، لكن القول الأول أرجح كما أسلفت. وقد ورد في صحيح ابن خزيمة ما يؤكد المعنى الأول من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((أكثر عذاب القبر من البول))، وفي السنن من حديث أبي هريرة أيضًا: ((استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه)).
أيها المؤمنون، الشق الثاني من الحديث فيه وعيد شديد أيضًا لمن يمشي بالنميمة أو لا يتورع عن الغيبة. والنميمة: نقل كلام الغير بقصد الإضرار، أما إذا اقتضى نقل الكلام فِعْلُ مصلحة أو ترك مفسدة فمندوب إليه، وربما كان واجبًا في بعض الأحيان والمواقف؛ كمن رأى شخصًا يفعل منكرًا ويجاهر به أو يسعى في نشره وإشاعته ولو خفية، فهنا يجب على من رآه أو علمه نقلُ ما يفعل ذلك الفاسق إلى من يعنيه الأمر؛ منعًا لفشوّ المنكرات بين المسلمين. وقد ورد في بعض طرق الحديث التي أخرجها البخاري في الأدب المفرد قال : ((أمّا أحدهما فكان يغتاب الناس))، وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح قال: مرّ النبي بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير))، وبكى، وفيه: ((وما يعذبان إلا في الغيبة والبول)). وفي المسند والطبراني أنّ النبي مرّ على قبر يُعذّب صاحبه فقال: ((إن هذا كان يأكل لحوم الناس))، وأكْلُ لحوم الناس يصدُق على الغيبة والنميمة، وهما محرّمتان بإجماع المسلمين، كما حكاه النووي في الأذكار، وتظاهرت الأدلة على ذلك. لكن من اغتاب صاحب فضلٍ كعالمٍ أو محتسب أو داعية أو مصلحٍ بين الناس أو متصدق ومتبرّع لمشاريع الخير ليس كمن اغتاب مجهول الحال مثلاً، وإن كانت الغيبة محرمة على كلّ أحد إلا ما استثناه الشرع.
ولشناعة وبشاعة الغيبة صورها النبي ومثلها أحسن تمثيل وأبلغه فيما رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا، وأن رجلاً قال لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه ـ يعني ماعزًا ـ فلم يدع نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب، فقال لهما النبي : ((كُلا من جيفة هذا الحمار ـ لحمار ميت ـ، فما نلتما من عِرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة)).
ويلاحظ ـ معاشر الإخوة ـ من هذا الحديث أن النبي أمر المتكلم بالغيبة والسامعَ له كليهما بالأكل من جيفة الحمار، مما يدل على تحريم سماع الغيبة، وأن الواجب في حق من سمع أحدًا يغتاب آخر أن ينكر عليه، ويذكِّره بحرمة الغيبة.
وقد عرَّف النبي الغيبة بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره))، وسواءٌ كان ذلك فيه أو لم يكن فيه. ونقل الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء قوله: وسواءٌ كان ذكرك له أن تعيبه في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خُلقِه أو خَلقه أو مالهِ أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، وسواءٌ ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز.
فاتقوا الله عباد الله، ولا تبطلوا أعمالكم، وغالبوها وقاهروها في إبعادها عما يضر ولا ينفع.
اللهم إنا نسألك العزيمة على الرشد والغنيمة من كل برّ...
|