.

اليوم م الموافق ‏16/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير

5298

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, فقه

أحاديث مشروحة, آفات اللسان, الطهارة, الكبائر والمعاصي

صالح بن عبد الله الهذلول

البدائع

9/5/1423

جامع الدهامي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- شرح حديث ابن عباس في عذاب القبر. 2-الوعيد الشديد لمن يتهاون بأمر البول بترك الاستنزاه أو الاستبراء. 3- الوعيد لمن يمشي بالنميمة بين الناس. 4- عظم ذنب من يغتاب العلماء والمصلحين. 5- حكم وضع الجريدتين على القبر. 6- مناسبة جمع الخصلتين في حديث واحد.

الخطبة الأولى

أما بعد: فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: مرَّ النبي بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانين يعذبان في قبورهما، فقال النبي : ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير))، ثم قال: ((بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة))، ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلتَ هذا؟ قال: ((لعله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا))، أو قال: ((إلى أن ييبسا)) رواه البخاري.

ومعنى الحديث ـ معاشر المسلمين ـ أن النبي كان يمشي ذات يومٍ بالمدينة ومعه بعض أصحابه رضي الله عنهم، فمرُّوا بقبرين، فأسمع الله تعالى نبيه صوتَ من في القبرين يعذبان، وأطلعَ سبحانه نبيَّه على سبب العذاب الذي يجري عليهما، فقال : إنهما ليعذبان بسبب أمرٍ كبير، لكنّ جملةً من الناس لا ينظرون إليه، ولا يعدُّونه كبيرًا، لأنه خفيٌ وحقير، فأراد النبي أن يوضح حقيقة الأمر بأنه كبير، نحو قوله تعالى: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15]، ويؤيد هذا المعنى ما روي في صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة: ((يعذبان عذابًا شديدًا في ذنب هيِّن))، أي: هينٌ في عيون المتساهلين به. وقال بعض أهل العلم في معنى ((وما يعذبان في كبير)) أي: إن الاحتراز منه ليس كبيرًا ولا شاقًا.

عباد الله، ما المراد بقول النبي : ((لا يستتر من بوله))؟ ذهب بعض أهل العلم إلى أن المعنى: لا يستبرئ ولا يتنزه ولا يتوقّى ولا يتحفّظ من البول، فيراه يقع على جسمه أو على ملابسه ولا يهتم ولا يلتفت إليه، وهذا القول هو القول الراجح والله أعلم.

وذهب آخرون إلى أن معنى ((لا يستتر من بوله)) يعني: لا يستر عورته حين يتبول، لكن القول الأول أرجح كما أسلفت. وقد ورد في صحيح ابن خزيمة ما يؤكد المعنى الأول من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((أكثر عذاب القبر من البول))، وفي السنن من حديث أبي هريرة أيضًا: ((استنزهوا من البول، فإن عامة عذاب القبر منه)).

أيها المؤمنون، الشق الثاني من الحديث فيه وعيد شديد أيضًا لمن يمشي بالنميمة أو لا يتورع عن الغيبة. والنميمة: نقل كلام الغير بقصد الإضرار، أما إذا اقتضى نقل الكلام فِعْلُ مصلحة أو ترك مفسدة فمندوب إليه، وربما كان واجبًا في بعض الأحيان والمواقف؛ كمن رأى شخصًا يفعل منكرًا ويجاهر به أو يسعى في نشره وإشاعته ولو خفية، فهنا يجب على من رآه أو علمه نقلُ ما يفعل ذلك الفاسق إلى من يعنيه الأمر؛ منعًا لفشوّ المنكرات بين المسلمين. وقد ورد في بعض طرق الحديث التي أخرجها البخاري في الأدب المفرد قال : ((أمّا أحدهما فكان يغتاب الناس))، وأخرج أحمد والطبراني بإسناد صحيح قال: مرّ النبي بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير))، وبكى، وفيه: ((وما يعذبان إلا في الغيبة والبول)). وفي المسند والطبراني أنّ النبي مرّ على قبر يُعذّب صاحبه فقال: ((إن هذا كان يأكل لحوم الناس))، وأكْلُ لحوم الناس يصدُق على الغيبة والنميمة، وهما محرّمتان بإجماع المسلمين، كما حكاه النووي في الأذكار، وتظاهرت الأدلة على ذلك. لكن من اغتاب صاحب فضلٍ كعالمٍ أو محتسب أو داعية أو مصلحٍ بين الناس أو متصدق ومتبرّع لمشاريع الخير ليس كمن اغتاب مجهول الحال مثلاً، وإن كانت الغيبة محرمة على كلّ أحد إلا ما استثناه الشرع.

ولشناعة وبشاعة الغيبة صورها النبي ومثلها أحسن تمثيل وأبلغه فيما رواه البخاري في الأدب المفرد وصححه ابن حبان من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا، وأن رجلاً قال لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه ـ يعني ماعزًا ـ فلم يدع نفسه حتى رُجمَ رجم الكلب، فقال لهما النبي : ((كُلا من جيفة هذا الحمار ـ لحمار ميت ـ، فما نلتما من عِرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة)).

ويلاحظ ـ معاشر الإخوة ـ من هذا الحديث أن النبي أمر المتكلم بالغيبة والسامعَ له كليهما بالأكل من جيفة الحمار، مما يدل على تحريم سماع الغيبة، وأن الواجب في حق من سمع أحدًا يغتاب آخر أن ينكر عليه، ويذكِّره بحرمة الغيبة.

وقد عرَّف النبي الغيبة بقوله: ((ذكرك أخاك بما يكره))، وسواءٌ كان ذلك فيه أو لم يكن فيه. ونقل الحافظ ابن حجر عن بعض العلماء قوله: وسواءٌ كان ذكرك له أن تعيبه في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خُلقِه أو خَلقه أو مالهِ أو والده أو ولده أو زوجه أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به، وسواءٌ ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز.

فاتقوا الله عباد الله، ولا تبطلوا أعمالكم، وغالبوها وقاهروها في إبعادها عما يضر ولا ينفع.

اللهم إنا نسألك العزيمة على الرشد والغنيمة من كل برّ...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيُّكم أحسن عملاً وهو العزيز الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: بعد أن بيّن النبي حال صاحبي القبرين وأنهما يعذبان ثم بيّن سبب عذابهما دفعته رحمته بأمته محاولاً جهدَه أن يخفف عنهما من العذاب، فدعا بجريدة وهو العسيب الرطب كما في بعض الروايات، فكسرها كسرتين، فوضع على كل قبر منهما كسرة، ولما سأله الصحابة رضي الله عنهم: لِمَ فعلت هذا؟ أجاب : لعله أن يُخفف عنهما العذاب ما لم تيبس الجريدتان.

وهذا الفعل أي: وضع جريدتين رطبتين على القبر من خواصه ، فشفع لهما هذه المدّة، وفَعَله فقط على قبور مخصوصَة أُطلِع على تعذيب أهلها، ولو كان مشروعًا على إطلاقه لفعله في كل القبور. كما أن كبار الصحابة لم يفعلوا ذلك وهم أعلم بالسنة، وعليه فلا يجوز لأحد أن يأتي بغصنين رطبين ويضعهما على قبرِ قريب له أو حبيب أو صديق رجاء أن يخفف عنه العذاب، ولا أن يغرس عليه شجرة، ولا يبني عليه قُبة تظله ونحو ذلك مما ابتدعه من لا علم لهم بالشرع، فالأمر ليس عواطف، وإنما ليس للإنسان إلا ما سعى. وقد مرَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما على قبر عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعليه فسطاط مضروب، أي: بيت من الشعر يظلل القبر، فقال ابن عمر: يا غلام انزعه فإنما يظله عمله. رواه البخاري.

عباد الله، جانب مهمٌ في هذا الموضوع هو محل استفسار كثيرٍ ممن يسمعه، وهو هل أصحاب القبرين مسلمان أم كافران؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: الظاهر من مجموع طرق الحديث أنهما كانا مسلمين، وساق أدلة كثيرة على ذلك، منها رواية عن ابن ماجة: مرَّ بقبرين جديدين، وفي المسند أنه مرَّ بالبقيع، فقال: ((من دفنتم اليوم هنا؟)) فهذه وغيرها من المرجّحات تدلّ على أنهما كانا مسلمين.

أيها المسلمون، إن أجسادنا على النار لا تقوى، فاتقوا الله تعالى وراقبوه، ولا تدعوا للشيطان فرصة يعبث في دينكم، فالأمر كما سمعتم، أمرٌ قد لا يبدو في نظر البعض أنه ذو شأن، فإذا به سبب من أسباب عذاب القبر.

ذلكم الوعيد فيمن ارتكب واحدًا من الذنبين، فما بالكم بمن وقع فيهما معًا، أي: لا يتنزه من البول ولا يتورع عن الغيبة، ومات ولم يتب من ذلك، كم سيلاقي؟! وكم سيندم؟!

وأخيرًا معاشر المؤمنين، قد يتساءل مسلم: لماذا جمع النبي بين هاتين الخصلتين في حديث واحد؟ هل هناك حكمة أو مناسبة؟ أجاب بعض أهل العلم قائلاً: إن البرزخ ـ والبرزخ هو الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو المدة التي يقضيها الميت في قبره ـ مقدمة للآخرة، وأولُ ما يُقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله تعالى الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، ومفتاح الصلاة التطهّر من الحدث والخبث، ومفتاح الدماء الغيبة والسعي بين الناس بالنميمة بنشر الفتن التي يسفك بسببها الدماء.

اللهم استعملنا في طاعتك، وأعنا على ذكرك وشكرك...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً