أما بعد: أيها الناس، فقد مضى في الخطبة السابقة الحديث عن أسباب السحر، وأنها من حيث الجملة هي: ضعف الإيمان بالله والتوكل عليه، وإهمال أوراد الصباح والمساء المأثورة عن المصطفى ، وكثرة الصور والتماثيل في البيوت، والغناءُ والموسيقى، وأكل الربا الذي قال الله تعالى ذكره فيه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة: 278، 279]، والذي يقدر لون الحرب وحجمها والمساحة التي تشملُها ثم الخسارة الناجمة عنها هو الله العزيز الجبار، وهو الذي يحدد وقتها، قد تكون حربًا على الأعصاب والقلوب، أو حربًا على البركة والنماء والرخاء، أو حربًا على السعادة والطمأنينة، ولعل تنامي أثر السحرة نوع من الحرب المقدرة بسبب تساهل المسلمين اليوم في أكل الربا وإصرار الكثيرين عليه.
ومضى أن من أسباب انتشار السحر الجهل بالشرع، وكثرة العمال والخادمات من غير المسلمين أو ممن ينتسبون إلى الإسلام لكن حظهم منه قليل، كما أن من أسبابه الرغبة العمياء لدى بعض التجار أو من دونهم في تطوير اقتصادهم وزيادة دخلهم، فيستعينون بالسحرة لجلب الزبائن والعملاء، وأشرتُ فيما مضى إلى المشعوذين، وأن خطرهم لا يقل عن خطر السحرة خاصة، وأن بعضهم يتقمّص لباس التدين، فهو يهدم الدين باسم الدين وإن كان يصلي مع المسلمين، فالعبث في عقول الناس بتمتمات بعضها يُفهم وبعضها لا يفهم ثم ابتزاز أموال المرضى أمرٌ مرفوض في شرعنا.
معاشر المسلمين، إن توقي ضررِ السحر ودفعَه ينظر إليه من جانبين: وقائي وعلاجي.
أما الوقائي: فإنه يتعين على الجهات الرسمية أن تُعلّم الناس العقيدة الصحيحة، وبيان حكم السحر وتعلمِه، وما يتعلق به، وتُعِدَّ برامج إعلاميةً جذابة تحذر من السحر.
وثانيًا من الجانب الوقائي: تعميق الصلة وتوثيقها بالله عز وجل الذي بيده ملكوت كل شيء، ولا يكون شيء ولا ينفذ إلا بقدره، ولو شاء سبحانه لأمسكه. وتوثيق الصلة بالخالق سبحانه بكثرة دعائه ودوام ذِكره والتضرع إليه، فمن لا يسأل الله يغضب عليه. وسنة نبيكم زاخرة بالأذكار المشروعة، وعلى المسلم الأخذ بها وتعاهدها في كل وقت. ومن ذلكم وصيته لعبد الله بن خبيب رضي الله عنه وهي عامة لكل أفراد الأمة أن يقرأ المعوذتين وقل هو الله أحد حين يصبح ثلاث مرات، وحين يمسي كذلك، وقال: ((تكفيك من كل شيء))، وقال في حديث آخر: ((ما من عبدِ يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم ثلاث مرات فيضره شيء)).
إن المحافظة على الأذكار المأثورة الثابتة عن النبي صباحًا ومساء وقراءةَ آيةِ الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص دبر كل صلاة وعند النوم لهي أبلغ الأسباب وأقوى الوسائل الوقائية من كل شر ومكروه بما فيها السحر.
إن السحر ـ أيها المسلمون ـ إنما يقع تأثيره في القلوب الضعيفة والنفوس الشهوانية المعلقة بالسُّفليات؛ ولهذا فإن غالب ما يؤثر السحر ـ كما يقول ابن القيم رحمه الله ـ في النساء والصبيان والجهال وأهل البوادي وكلِّ من ضعف حظه من الدين والتوكل على الله ومن لا نصيب له في الأوراد الإلهية والدعوات والتعوذات النبوية.
فالمسحور هو الذي أعان على نفسه بتعليق قلبه بشيءٍ كثيرًا ما يلتفت إليه وينشغل به، والأرواح الخبيثة إنما تتسلط على أرواح تجدها فارغةً من القوة الإلهية وخاليةً من سلاح الأوراد والأذكار والتوكل على الله والثقة به، وحينها يتمكن السحر منها.
وثالثًا: من العوامل الوقائية من السحر التصبح بسبع تمرات من تمر العجوة، لما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عامر بن سعيد رضي الله عنه أن النبي قال: ((من تصبح بسبع تمرات من تمر العجوة لم يصبه سُمٌّ ولا سحر)). وقد ذهب جمعٌ من أهل العلم أن لفظ العُجْوة خرج مخرج الغالب، فلو تصبّح بأي تمر نفع وإن كان تمر العجوة أكثر نفعًا وأقوى تأثيرًا وبركةً.
الرابع: تجنب سماع الأغاني والموسيقى، لأنها باب واسع من أبواب الشيطان يدخل معه، والسحرة إنما هم من حاشية إبليس يمشون وراءه، ويتلمسون رضاءه ويتقربون إليه. ولا تلتفت ـ أيها المؤمن ـ إلى ما تنشره القنوات الفضائية من فتاوى تبيح الغناء، فهذا الرأي مردود بالأدلة التي تحرم الغناء، والعبرة بما قام عليه الدليل لا بما خالفه. ومن أدلة تحريم الغناء قول الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان: 6]. وقد أقسم الصحابي عبد الله بن مسعود أن المراد به الغناء، وقال: (إنه ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل). وجاء في المعنى أحاديث كثيرة كلها تدل على تحريم الغناء وآلات اللهو والطرب، وأنها وسيلة إلى شرور كثيرة وعواقب وخيمة. وجاء في صحيح البخاري وغيره أن النبي قال: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف))، والمراد بالمعازف: الغناء وجميعُ آلاته.
والخامس: من الوسائل الوقائية من السحر المعاملة الحسنة مع العمال والخدم والمستأجرين، فعليك ـ أيها المسلم ـ أن تعامل من تحت يدك من عمال وخدم معاملة حسنة، فأنت مأمور شرعًا بذلك، بل الدين المعاملة، وحُبَّ لأخيك ما تحب لنفسك، وتأكد أنّ هذه العمالة ما تركوا أطفالهم وأوطانهم إلا لحاجة يرجون سدادها، وقَدِموا إلى هذه البلاد ينظرون إليها على أنها أفضل البلدان تطبيقًا لشرع الله، فلا تكن سببًا في صدهم وإحباطهم بمعاملتك المبنية على الجشع والطمع وقلة الرحمة، ولا تستعديهم على نفسك وتثير نقمتهم على هذا المجتمع.
معاشر المسلمين، الجانب الثاني من توقي السحر هو الجانب العلاجي؛ وهو علاج المسحور بعد أن يقع عليه السحر، ويكون ذلك بالرقى الشرعية من كلام الله وكلام رسوله وبالأدوية المعروفة، قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: 82]، فالقرآن كله شفاء ودواء لكل داءٍ. أما النُشْرة وهي حلُّ السحر عن المسحور بسحرٍ مثله فهي محرمة، وقد استفتي فيها إمام المفتين محمدٌ كما في حديث جابر فقال: ((هي من عمل الشيطان)) أخرجه أبو داود بسند حسن. فالحديث هنا صريح بالمنع، ويعضده قول النبي : ((تداووا عباد الله، ولا تداووا بحرام)). وعلى المسحورين الفزع إلى الله سبحانه، والتضرعُ إليه، وملازمة الدعاء، وتحري أوقات الإجابة؛ كثلث الليل الآخر وفي السجود وبين الآذان والإقامة، وكذلك اختيارُ الألفاظ المناسبة لوصف حاله، وعرضها على اللطيف الخبير الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، كأن تقول: يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، وقول: يا رب العرش العظيم، وقول: يا منان يا ذا الجلال والإكرام، وقول: يا حييُّ يا كريم، يا رحيم يا ودود، يا عليم يا حكيم، ونحوها. ولا يملُّ من كثر تردادها، فقد يبتلي الله عبده ليستخرج الدعاء منه، وهو سبحانه أهلُ الثناء والمجد.
ومن علاج السحر ـ أيها المسلمون ـ استخراج السحر وإبطاله كما صح عن النبي أنه سأل ربه سبحانه أن يدله على السحر حينما سحره اليهودي كما ثبت في الصحيحين، فاستخرجه من بئر، فوُجد في مشط ومشاطة وجُفِّ طلعة ذكر، فلما استخرجه ذهب ما به كأنما نشط من عقال. والمشط: ما يمشط به الشعر، والمشاطة: الشعر المتساقط بعد المشط، والجف: وعاء طلع النخل، وهو ما نسميه بالكافور.
علينا ـ معاشر المسلمين ـ أن نثق ونؤمن ونوقن بأنه لا يُفلح الظالمون، وأن الله سيبطل عمل المفسدين، والسحرةُ إنما هم ظالمون ومفسدون، وسيلقون جزاءهم في الدنيا نكدًا وخسارة، وفي الآخرة عذابا شديدا.
بارك الله لنا في القرآن العظيم وسنة سيد المرسلين...
|