أيها المسلمون، حقيقة أن الفكر ليقف حائرًا أمام هذه الأحداث المؤلمة التي تتعرض لها هذه البلاد المباركة بين الفينة والأخرى، ولا أدري بماذا أبدأ وكيف أبدأ للحديث عن الاعتداء الأثيم هذا الأسبوع في المدينة المنوّرة، فكلما توقعنا واستبشرنا أن الفتنة خمدت وإذا بها تنبعث من جديد، ويبدأ معها مسلسل جديد من القتلى من المقيمين الفرنسيين في حادث إرهابي، نعم ضحيتها نفوس معصومة من المسلمين والمعاهدين الفرنسيين. إنه لحدث تحزن له القلوب المؤمنة، وتبكي عليه الأنفس الزكية؛ لما يحمله هذا الحدث من الغدر المشين والحقد الدفين والفكر المنتِن الأثيم.
لقد آلمنا وأقضَّ مضاجعنا ما حصل بالقرب من المدينة النبوية خلال هذا الأسبوع، والذي قامت به شرذمة باغية ـ عليها من الله ما تستحقه ـ من أعمال إجرامية وقتل نفوس معصومة من المسلمين والمعاهدين الفرنسيين، أعمالٍ لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، ولا ترضي الله سبحانه وتعالى ولا رسوله ، ولا ترضي أمة الإسلام، ولا يعمل هذه الأعمال الإجرامية إلاّ أناس تجرّدوا من إنسانيتهم ومروءتهم وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، بل وتجردوا من إيمانهم وانتكست عقولهم. إن من يقوم بهذه الأعمال الإجرامية المشينة قوم طبع الله على قلوبهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم البشعة، حتى تنكروا لهذه البلاد المباركة وما تقوم به من جهود خيّرة وأعمال مشكورة لخدمة الإسلام ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان، وهذا ينم في الواقع عن حقد دفين وسم زعاف يُكاد لهذا الدين وهذه البلاد الطاهرة التي تنعم بنعم لا توجد في غيرها؛ مما أثار حفيظة أعدائها وغاظهم ما تنعم به من سلامة العقيدة وتحكيم الشريعة ووفاق ووئام وأمن واستقرار ورغد عيش واتحاد وجمع كلمة وتوحيد صف والتحام بين الراعي والرعية، الأمر الذي أغاظ الأعداء وجعلهم يخططون لإزالة ما تنعم به هذه البلاد، ويبذلون الغالي والنفيس في سبيل إيجاد الفرقة والخلاف بين صفوف الأمة، ويأبى الله إلاّ أن يتم نوره ونعمته على هذه البلاد ولو كره الكافرون ولو كره الحاقدون ولو كره المغرضون.
وما علموا أن هذه الأحداث وهذه الجرائم مهما كانت جسامتها فلن تزيد المجتمع ولله الحمد إلاّ تماسكًا وترابطًا وتلاحمًا، ولكن هذه الطغمة الفاسدة ومن وراءها من أعداء الإسلام والمسلمين لا يريدون للأمة أن تعيش في أمن وأمان وعيش رغيد، إنهم يريدون زعزعة أمنها وانتهاك حرماتها وإتلاف ممتلكاتها وإزهاق الأنفس البريئة، ضاربين بأحكام الشريعة الإسلامية وآي القرآن الكريم خلف ظهورهم، وقد كشفوا وأفصحوا بهذا العمل المشين عن شعاراتهم المزيفة، وأظهروا خزيهم، وبينوا عوارهم. فما حجة هؤلاء المجرمين يوم يقفون بين يدي أحكم الحاكمين وأعدل العادلين حينما سفكوا دماء الأبرياء وروعوا الآمنين؟! وبأي دليل وبرهان يواجهون به رب الأرض والسموات حين دمروا البناء وأراقوا الدماء؟! إنها لمصيبة عظمى على مجتمع المسلمين أن يجترئ بعضهم على بعض، وأن يتجاوز بعضهم الخطوط الحمراء في الاعتداء على ولاية المسلمين. يا لها من جريمة! ويا لها من مصيبة! ويا لها من فعلة نكراء وعدوان بشع وتسلط قذر يقع فيه أولئك المجرمون المفسدون الذين يقتلون الآمنين والمطمئنين ويعتدون على الناس بغير وجه حق.
ولا شك ـ أيها الإخوة المؤمنون ـ أن كثرة قتل الأنفس في هذا الزمن إنما هو من علامات الساعة، روى الإمام أحمد والبخاري رحمهما الله عن أبي هريرة أن النبي قال: ((لا تقوم الساعة حتى يُقبض العلم، ويتقاربَ الزمان، وتكثر الزلازل، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج))، قيل: ما الهرج؟ قال: ((القتل القتل)).
ولما رأى أعداء الله من اليهود والنصارى والحاقدين من أهل البدع والضلال هذا الخير الذي تنعم به بلادنا وما حباها الله من النعم وما هي عليه من تحكيم للشريعة وإقامة للحدود وحماية للتوحيد ونشر للعقيدة السلفية التي كان عليها رسول الله وحماية للحرمين وميل المسلمين إليها من كل العالم، لما رأوا كل ذلك كادوا لها المكائد، ودسوا لها الدسائس، يريدون إزالة هذه النعمة وتغيير هذا الخير وهدم آخر معقل من معاقل الدين الحق في هذا البلد، فأصبحوا يثيرون الشبه حولها، ويرمونها بما هي منه بريئة، ويؤيّدون من يطعن فيها ظلمًا وعدوانًا، وينشرون مقالاتهم، ويمدونهم بالإذاعات والقنوات، ويدعون إلى نشر الفوضى فيها، وكلما أرادوا فتنة بها أطفأها الله، واستعان اليهود والنصارى ببعض المسلمين الذين انحرفوا عن الدين الحقّ وخاصة من الشباب من أهل البدع والضلال من حيث يشعرون أو لا يشعرون ليتعاونوا جميعًا على الإثم والعدوان، وليفسدوا في هذا البلد الطاهر بشتى أنواع الإفساد.
عباد الله، لقد حصلت في بلادنا هذه أمور عظيمة من سفك للدماء المعصومة من مسلمين وغيرهم بغير حق وانتهاك للحرمات وإرهاب لعباد الله المؤمنين وترويع للآمنين وإتلاف للأموال العامة والخاصة، من قِبَل أناس غلوا في دين الله، فحصل منهم من الشرور العظيمة والمخازي المؤلمة ما يندى له جبين أهل الحق وأهل السنة. وإنه قد اتفقت كلمة علماء أهل السنة في هذا البلد وفي غيره على حرمة هذه الأعمال لما فيها من اعتداء آثم وإجرام شنيع، وهو خيانة وغدر وهتك لحرمات الدين في الأنفس والأموال والأمن والاستقرار، ولا يفعله إلا نفس فاجرة مشبعة بالحقد والخيانة والحسد والبغي والعدوان وكراهية الحياة والخير، ولا يختلف المسلمون في تحريمه ولا في بشاعة جرمه وعظيم إثمه، والآيات والأحاديث في تحريم هذا الإجرام وأمثاله كثيرة معلومة.
ولا شك أن هذا العمل إجرامي مقيت وعدوان فاحش وظلم عظيم ولون من ألوان الفساد والإفساد في الأرض وصورة من صور المحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فأفٍّ لنفس تتوق لقتل الأبرياء وتستمرئ إراقة الدماء المعصومة وتفرح بتناثر الأشلاء، ذلكم أن قتل النفس المعصومة من أعظم الذنوب، وقد عده النبي من أكبر الكبائر، فلقد حرم الإسلام قتل النفس المعصومة بغير حق، وشدّد فيها تشديدًا قطعيًا، فنهى عن قتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق، لقد أعد الله لقاتل النفس المؤمنة بغير حقّ أربع عقوبات عظيمة يستحقها من الله صاحب الجريمة: جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا، قال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93]، ويقول سبحانه وتعالى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام: 151]، وقوله: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32].
فالحفاظ على حرمة إنسان واحد حفاظ على حرمات الناس كلهم، فانظروا ـ معاشر المسلمين ـ عظمة الإسلام، وانظروا ـ حفظكم الله ـ عظمة التشريع، قتل نفس واحدة يعادل قتل الناس من أول خلق آدم إلى قيام الساعة، فإنّ من قتل نفسًا واحدة ظلمًا فكأنما قتل هؤلاء العالم جميعا، ويقول النبي : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق عن الدين التارك للجماعة)) متفق عليه، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((لا يزال المؤمِن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حراما))، ونظر ابن عمر رضي الله عنهما يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك! والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك)، وعن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار))، وقال رسول الله قال: ((لزوال الدنيا جميعا أهون على الله من دم يسفك بغير حق))، ومما جاء في خطبة الوداع تشديد النبي على حرمة هذه الأشياء حين سأل الناس: ((أتدرون في أيّ يوم أنتم، وفي أي شهر، وفي أي بلد؟)) فقالوا: في يوم حرام، وفي شهر حرام، وفي بلد حرام، فقال: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).
يا لها من جريمة! ويا لها من مصيبة! ويا لها من فعلة نكراء وعدوان بشع وتسلّط قذر يقع فيه أولئك المجرمون المفسدون في الأرض الذين تسلطوا على الآمنين المطمئنين من المسلمين والمعاهدين وروعوهم، بل وسفكوا دماءهم ظلمًا وعدوانًا، وأفسدوا في الأرض، وشوهوا صورة الإسلام الناصعة وسمعة التديّن وسمعة الدعوة بأعمالهم الإجرامية وموبقات ارتكبوها، وأتاحوا الفرصة لأعداء الإسلام باتهامه مما هو بريء منه من الإرهاب وإزهاق الأنفس البريئة بغير حق، وليس لهم أيّ مبرر أو أي حجة في ذلك، إن جميع التأويلات التي يستند إليها من يرتكب هذه الأعمال الإجرامية الإرهابية باطلة؛ لأنها تخالف نصوصًا ثابتة وقطعية في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.
أيها المسلمون، إن الجرأة على الدماء والتساهل في أمرها إنما هو جرأة على محارم الله واعتداء على حدود الله وتلاعب بشرع الله وخروج على ولي الأمر في هذه البلاد المباركة، وهذا في الحقيقة يعتبر جرمًا عظيمًا وخطرًا جسيمًا، وهو محرم في شرع الله تبارك وتعالى؛ لما يترتب من الخروج على ولي الأمر من فساد كبير وشر عظيم، ومن مقتضى البيعة النصح لولي الأمر لا الخروج عليه، ومن النصح الدعاء له بالتوفيق والهداية وصلاح النية والعمل وصلاح البطانة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، بل إنها من إخفار الذمة الذي جاء الوعيد بالتحذير منه، ورتّب على ذلك الطرد والإبعاد عن رحمة الله، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا)) متفق عليه. فكيف بمن أخفر ذمة ولي أمر المسلمين؟! وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((ألا من قتل نفسا معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله، فلا يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا)) صحيح لغيره.
نسأل الله تعالى أن يقوي رجال أمننا على تعقّب المجرمين والمفسدين, كما نسأله أن يصلح الأحوال، وأن يبصرنا وإياكم بالحق، وأن يهدينا لاتباعه، وأن يريَنا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى، المعظمين لحرمات الله، المحافظين على أمن المسلمين في أوطانهم وفي ديارهم، القائمين بحق الله تبارك وتعالى، المجتمعين على طاعته، إنه تعالى سميعٌ مجيب الدعوات.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|