.

اليوم م الموافق ‏25/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

علم الغيب

5257

التوحيد, الرقاق والأخلاق والآداب

الشرك ووسائله, الكبائر والمعاصي, نواقض الإسلام

مهران ماهر عثمان نوري

الخرطوم

19/2/1428

خالد بن الوليد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ثناء الله على نفسه بكونه يعلم الغيب. 2- الأدلة على أنه لا يعلم الغيب إلا الله. 3- شبهات والرد عليها. 4- حكم الذهاب للكهان والعرافين. 5- التحذير من فضائيات الشرك والزندقة.

الخطبة الأولى

أما بعد: فقد أثنى الله تبارك وتعالى على نفسه بصفة العلم في كثير من آي القرآن الكريم، فقال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12]. ومدح نفسه سبحانه بعلم الغيب فقال: اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ [الرعد: 8، 9]، وقال: ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [السجدة: 6]، وقال: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون: 92]، وقال: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [التغابن: 18]، وقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر: 22].

عباد الله، مما يجب علينا أن نعقد عليه قلوبنا أنه لا يعلم الغيب إلا الله، فلا يشارك اللهَ فيه نبي مرسل ولا ملك مقرب ولا ولي صالح، قال سبحانه وتعالى: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل: 65]. الحصر في لغة العرب له طرق عديدة، أقواها ما كان بالنفي والإثبات، وهذه الآية أعلمتنا أن علم الغيب مختص بالله سبحانه، لا يعلم الغيب إلا الله.

وقال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26، 27]، فلا يعلم الرسول من الغيب إلا القدرَ الذي أذن فيه الله تعالى.

وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا [مريم: 77، 78]. ثبت عَنْ خَبَّابٍ بن الأرت قَالَ: كُنْتُ قَيْنًا ـ أي: حدادًا ـ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، قَالَ: لا أُعْطِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ ، فَقُلْتُ: لا أَكْفُرُ حَتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ ثُمَّ تُبْعَثَ، قَالَ: دَعْنِي حَتَّى أَمُوتَ وَأُبْعَثَ فَسَأُوتَى مَالاً وَوَلَدًا، فَأَقْضِيكَ، فَنَزَلَتْ: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا.

وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34]. قال نبينا : ((مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنْزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) رواه البخاري.

إنّ الأنبياء لا يعلمون الغيب؛ وسأذكر بعض الأدلة على ذلك.

من هم أفضل الأنبياء أيها المؤمنون؟ هم أولو العزم من الرسل، وهم من ورد ذكرهم في قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا [الأحزاب: 7]، وأبدأ بسيدنا ونبينا محمد ، وهو أفضلهم.

قال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: 188]. قال السعدي رحمه الله: "لفعلت الأسباب التي أعلم أنها تنتج لي المصالح والمنافع، ولحذرت من كل ما يفضي إلى سوء ومكروه؛ لعلمي بالأشياء قبل كونها، وعلمي بما تفضي إليه".

وعليك ـ يا عبد الله ـ إذا خالط قلبَك شكٌّ في هذا أن ترجع بهذا السؤال إلى نفسك: لو كان نبينا يعلم الغيب فلماذا ترك أم المؤمنين عائشة في حادثة الإفك ولم يعلم بتخلُّفها؟! وكان سبب فرض التيمم أنّ عائشة رضي الله عنها أخّرت النبي وأصحابه في طلب عِقدٍ لها، فتأخروا ونفد ماؤهم وشُرع التيمم، ولم يجدوا العقد، فلما بعثوا بعيرها كان العقد تحته، ألا يدل هذا على أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى؟!

وإبراهيم عليه السلام لو كان يعلم الغيب لما استحقّ مدحًا لمّا أُمر بذبح ابنه، قال تعالى: وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ [الصافات: 104-106].

ونوح عليه السلام لو كان يعلم الغيب لما سأل ما لا علم له به، قال تعالى: وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ [هود: 45-47].

وموسى عليه السلام لو كان يعلم الغيب لما ضرب البحر بعصاه بعد أن نجّاه الله وقومه، قال تعالى: وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ [الدخان: 24].

وعيسى عليه السلام قال الله في شأنه: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 116-118].

والملائكة لا يعلمون الغيب، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ [البقرة: 30-33].

وأعلمنا الله أنّ الجن كسائر المخلوقات لا يعلمون الغيب، فقال: فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ: 14].

ولا الأولياء يعلمونه، فهذا جبريل يأتي إلى النبي في صورة رجل ويسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، فلما ولى قال: ((أتدرون من السائل؟)) قال الصحابة وهم سادات الأولياء وفيهم عمر: الله ورسوله أعلم.

عباد الله، هذه بعض الإشكالات المتعلقة بهذا الموضوع نوردها والإجابة عليها:

أولا: قلنا: لا يعلم الغيب إلا الله، فكيف قال عمر بن الخطاب : (يا سارية الجبلَ) مخاطبًا أمير جيشه على جهة فارس، ولما قدِم الجيش بعد شهر من هذه الخطبة أخبر سارية بأنه سمع صوت عمر ينادي: (يا سارية الجبلَ)، فانحاز إلى جبل وظهروا على عدوهم بسبب ذلك.

الجواب: القصة صحيحة، أخرجها البيهقي في دلائل النبوة، وحسّن إسنادها الألباني وابن حجر رحمهما الله. ولا إشكال فيها لحديث صحّ عن النبي قال فيه: ((إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنْ الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ)) متفق عليه. والمحدَّث: من يُجري الله الحقَّ على لسانه بلا قصد، كما قال الحافظ ابن حجر في الفتح. فهذه كلمة أجراها الله على لسان عمر وهو محدث، وأسمعها ساريةَ كرامةً لعمر ، ولسنا ننكر الكرامات، وإنما ننكر أن يعلمَ الغيب غيرُ الله، وفي بعض طرق هذه القصة أنّ عليًا أنكر على عمر فِعله، فنفى عمر أن يكون قد قال هذا الكلام، فأشهَد عليٌّ المصلين. وهذا يدل على أنها كلمة أجراها الله على لسانه كرامةً له.

واسمحوا لي أن أسأل سؤالاً: لو كان عمر يعلم الغيب كيف يصلّي وخلفه قاتِلُه أبو لؤلؤة المجوسيّ ولا يفعل شيئًا؟!

ثانيًا: ومن الإشكالات: إذا كان لا يعلم ما في الأرحام إلا الله فكيف توصّل الأطباء للتعرف على نوعية الجنين في بطن أمه؟!

والجواب: لسنا ننكر أنّ الأطباء توصلوا إلى ذلك، والتعرف على نوعية الجنين يكون بطريقين: عن طريق الموجات الصوتية، وهذا يكون في الشهر الرابع، وعن طريق عيّنة من السائل الأمنيوسي، وهذا يكون من الشهر الأول. ولكن ما يهمّنا أنّ هذا لا يعارض ما في القرآن الكريم؛ فالواقع لا يمكن أن يناقض القرآن الكريم أبدًا.

والجواب: أنّ المراد: لا يعلم بجميع أحوال الجنين الغيبيَّة إلا الله، ومن الأحوال الغيبيّة نوعه قبل أن يخلق، فإذا وُجد ما يدلّ على نوعه فليس هذا من باب علم الغيب، فأمور الجنين الغيبية كثيرة لا يمكن أن يعلمها إلا الله: ذكر أو أنثى، وشقي أم سعيد، وعمله، وفي أي وقت على وجه التحديد سيخرج، ومدّة بقائه إذا خرج... وغير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها فضلاً عن الإحاطة بحقيقتها.

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (4/435) لهذه الآية: وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ [لقمان: 34]: "أي: ما حملت من ذكر أو أنثى، أو حسن أو قبيح، أو شقي أو سعيد، أو طويل العمر أو قصيره، كما قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم: 32]"، وقال أيضًا (6/352): "وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه". تأمل: "مما يريد أن يخلقه"، فإن خَلَقه لم يكن غيبًا، وإنما استتر بظلمات ثلاث، فإن انقشعت عُلِم حالهُ ونوعُه.

ثالثا: هؤلاء الكهان والعرافون أحيانًا يَصْدُقون.

والجواب: وفي الغالب يكذبون، وهذا الصدق الذي يكون أحيانًا يُعزى لواحدٍ من ثلاثة أمور:

1- إما أن يكون من وحي الشياطين، كما قال تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221-223]، وقال : ((إِنَّ الْمَلائِكَةَ تَنْزِلُ فِي الْعَنَانِ ـ وَهُوَ السَّحَابُ ـ، فَتَذْكُرُ الأَمْرَ قُضِيَ فِي السَّمَاءِ، فَتَسْتَرِقُ الشَّيَاطِينُ السَّمْعَ، فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إِلَى الْكُهَّانِ، فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ)) رواه البخاري. فإذا استرق السمع فربما أدركه الشهاب قبل أن يُلقي بالخبر إلى من تحته، وربما أدركه بعد ذلك، فيُوحى إلى الكاهن ومعه مائة كذبة، فقوله : ((فيكذبون معها)) أي: الشياطين.

وعن عَائِشَةُ رضي الله عنها: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللَّهِ عَنْ الْكُهَّانِ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ : ((لَيْسُوا بِشَيْءٍ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَحْيَانًا بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ، فَيَقُرُّهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ قَرَّ الدَّجَاجَةِ، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ)) رواه البخاري.

ولو كذب عليك شخصٌ مرة واحدة لكان العقل أن لا تصدّقه أبدًا، فكيف يُصدَّق سفيه كافر يتلقّى الخبر ومعه مائة كذبة؟!

وقد حَدَّث ساحرٌ تائب[1] أن من الحيل التي كانوا يستخدمونها لإضلال الناس أن يأتي إلى الساحر رجل فيطلب قرين الساحر ـ أي: شيطانه ـ من قرين الرجل أن يوسوس إليه بأمر، فيتفق القرينان على أمر معين يُخبر به الساحر، فيفكر فيه الرجل، فيقول له الساحر: أنت تفكر في كذا، فيتعجّب الرجل وما يدري أن الساحر والقرينين تلاعبوا به.

2- قد يكون مصادفةً محضة، يُسأل العراف عن شيء، ولا يوجد غير احتمالين، فيخمِّن ويصدق.

3- قد يخبر العراف عن شيء ويصدق باستنتاج منطقي سليم، أي: يقرأ الواقع الدال على ما أخبر به. مثلاً: يأتيه طالب يعرفه الكاهن، والطالب متميّز في دراسته، لم يرسب قط، فيسأله عن امتحانات هذا العام، فيخبره بنجاحه.

واسمع هذه القصة مع أنها ليست مع كاهن، وإنما حدثت مع إمام عظيم، ولكنها تدلّ على ما سبق تقريره:

كان الإمام الشافعي والمُزَني والربيع بمسجد، فجاء رجل يدور على النِّيام، فقال الشافعي للربيع: قل له: هرب لك عبد أسود مصاب في إحدى عينيه؟ فذهب إليه وسأله، قال الرجل: نعم، أين هو؟ قال: هيا إلى الشافعي، فسأله الرجل، قال: في الحبس، فوجدوه في الحبس، فقال له المزني: أخبرنا فقد حيّرتنا! قال: رأيته يدور على النيام فقلت: يطلب هاربًا، ورأيته يجيء إلى السُّودان دون البِيضان فقلت: يطلب عبدًا أسود، ورأيته يجيء إلى ما يلي العين اليسرى فقلت: مصاب في إحدى عينيه، فقالوا له: وكيف عرفت أنه في الحبس؟! قال: هذا هو الغالب، فإن العبيد إذا جاعوا سرقوا، وإذا شبعوا أفسدوا.

أيها المؤمنون، من جاء إلى كاهن أو عراف أو منجم أو دجال[2] يسأله عن أمر غيبي فلا يخلو حاله مما يلي:

1- أن يسأل ولا يصدق، وهذا لا تقبل صلاته أربعين يومًا، ثبت في صحيح مسلم عن النبي أنه قال: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)).

2- أن يصدقهم، وهذا كافر، قال : ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ )) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بحال المسؤول؟!

3- أن يأتيهم ليسمع فقط، وهذا فسق، قال تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء: 140]، وقال : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا بِالْخَمْرِ)) رواه الترمذي.

4- أن يسأل لبيان عجزه للناس، وهذا سنة. قال النبي لابن صياد: ((إِنِّي قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا))، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ : ((اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ)) رواه البخاري ومسلم.

فليحذر المسلم، وليجعل نصب عينه قول النبي : ((من تعلَّق شيئًا وُكِلَ إليه)) رواه أحمد والترمذي، فمن تعلق بهم وكل إليهم، ومن وُكل إلى غير الله فأي خير ينتظر؟! وقال : ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ وَلا تُطُيِّرَ لَهُ، أو تَكَهَّنَ وَلا تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ)) رواه الطبراني في الكبير.

ولا يشترط أن تقفَ على باب الكاهن والمشعوذ, بل إن الإتيان يتحقق بقراءة برج الحظِّ في مجلة أو الجلوس عند قارئة الكفّ والفنجان أو مشاهدة بعض القنوات كما سيأتي. والتصديق يُتصوّر حصوله ولو لم يقع ما أخبر به العراف أو الكاهن؛ لأن مداره على القلب.

عباد الله، لقد خلق الله النجوم لثلاثة أمور، قال قتادة رحمه الله: "خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاثٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا. فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ" رواه البخاري.

قال تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ [الصافات: 6-10]، وقال: وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [فصلت: 12]، وقال: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5]، وقال: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل: 16].

فلا يُستدل بها على حوادث الأرض، قال : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه. فالنجوم علامات يُستدلّ بها على الأمكنة والأزمنة، يستدل بها على دخول فصل الخريف أو غيره، ولكن لا يستدلّ بها على نزول المطر، ألسنا نجد هذا النوء بعينه سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر، ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيرًا ما يكون في زمنها الأمطار؟! فالنوء لا تأثير له، فعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السَّمَاءِ كَانَتْ مِنْ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)) رواه البخاري ومسلم. ومنه نعرف خطأ الذين يقولون: إذا طلع النجم الفلاني ازداد هبوب الرياح؛ لأن النجوم لا صلة لها بالرياح.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين.



[1] هو حامد آدم موسى وفقه الله وثبته.

[2] الكاهن: الذي يتكهن بما في المستقبل، والعراف: الذي يدعي معرفة الماضي، والمنجم: من يستدل بالنجوم على أمور الغيب، والدجَل يشمل ذلك كله.

الخطبة الثانية

أما بعد: فمن إتيان الكهان مشاهدة بعض الفضائيات، وأقف اليوم محذرًا من فضائية (كنوز)، وما شابهها في مادتها وبرامجها.

عباد الله، هذه القناة مليئة بالمحظورات والمخالفات العقدية، وهذه المحظورات وقفتُ عليها بنفسي، لم يخبرني بها زيد أو عمرو، ومنها:

1- التعامل مع الجانّ، فمن عباراتهم: (حدثني السر)، (حدثني سِرِّي)، (قال الروحاني).

2- ادعاء علم الغيب، ومن مظاهر ذلك: الإخبار بمشكلة المُتصِل بمجرد إخبارهم باسم والدة المتصل. ومما قالوه مرارًا: (سترزق طفلا)، (يأتيك رزق كبير)، وغير ذلك من الأباطيل. ولا ريب أنّ من يفعل ذلك يتعامل مع الجن.

3- التدليس على الناس بنصحهم بقراءة آيات معينة، وينصحون بتكرارها إلى حدٍّ معين؛ خداعًا ومكرًا، فإن السذَّجَ من المشاهدين يصدقونهم بحجة أنهم يرشدون إلى القرآن الكريم ويعالجون به وهم قد كفروا به، فعلينا أن لا ننخدع بمثل هذا. ما معنى أن يرشدوا إلى قراءة آيات معينة من القرآن وفي القرآن: قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وهم يدعون علم الغيب ويخبرون عن أمور غيبية؟!

4- زرع الفتنة بين الناس. سمعت أحدهم يقول: (هذا العمل عمله أحد أقربائك)، (هذا العمل عمله أحد أقربائك يبدأ اسمه بحرف الخاء، أخبرني السرُّ بذلك). وهذا دأب الدجالين، يحبون إيقاع الفتن بين الناس.

ألا فاتقوا الله أيها المؤمنون، وأقول بناءً على ما سبق تقريره: من جلس أمام هذه القناة ومثيلاتها وصدَّق ما فيها فهو كافر بالله العظيم، لست أنا من يكفِّره، كفّره رسول الله ، وكما أنّ من الخطر العظيم تكفير المؤمنين فمن الخطر كذلك أن تشهد لكافرٍ كفَّره رسولُ الله بالإيمان. ومن اتصل عليهم وسأل ولم يصدق لم تقبل له صلاة أربعين ليلة. ومن شاهد ولم يصدق ولم يسأل لمجرد المشاهدة وقضاء الوقت فهو آثم كما سبق بيانه.

نسأل الله أن يجنبا الفتن، وأن يحفظ لنا ديننا، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً