.

اليوم م الموافق ‏25/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

أهمية التوبة

5255

الرقاق والأخلاق والآداب

التوبة

علي بن عبد الرحمن الحذيفي

المدينة المنورة

19/2/1428

المسجد النبوي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- النقص والخطأ من طبيعة البشر. 2- كتابة الله تعالى للحسنات والسيئات. 3- كثرة سبل الخير. 4- سدّ طرق الشرّ. 5- التوبة هي جماع الخير. 6- حقيقة التوبة. 7- فضل التوبة. 8- وجوب التوبة على كل مسلم. 9- سعة رحمة الله تعالى. 10- شدة فرح الله تعالى بتوبة عبده. 11- التوبة من صفات النبيين وعباد الله الصالحين. 12- حاجة المسلمين الماسة إلى التوبة. 13- شروط التوبة. 14- الاعتبار بقصص التائبين. 15- الحث على الاستعداد للموت.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتّقوا الله ـ معشَرَ المسلِمِين ـ حقَّ التقوى، فتقوَى الله الجليلِ عدّةٌ لكلِّ شِدّة، وحصنٌ أمين لمَن دخَلَه، وجُنّة من عذابِ الله.

واعلَموا ـ عبادَ الله ـ أنَّ رَبَّكم خَلَق بني آدمَ معرَّضًا للخطِيئَات، مُعرَّضًا للتَّقصير في الواجبات، فضاعف له الحسناتِ، ولم يضاعِف عليهِ السَّيِّئات، قال الله تَعَالى: مَن جَاء بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِٱلسَّيّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160]، وعَنِ ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: قَالَ رسولُ الله : ((إنَّ اللهَ كتَبَ الحسناتِ والسيِّئات، فمَن همَّ بحسنةٍ فلَم يعمَلْها كتبَها الله عندَه حسنةً كَامِلة، فإن عمِلَها كتبها الله عندَه عَشرَ حسنات، إلى سَبعِمائة ضِعف، إلى أضعَافٍ كثيرة، فإن هَمَّ بسيّئة فلم يعملْها كتبَها الله حسَنةً كامِلة، فإن عمِلها كتبها الله عندَه سيِّئة واحدَة)) رواه البخاريّ[1].

فَشَرَع الله لكَسبِ الحَسَنات طُرُقًا للخَيرَات وفَرَائِضَ مكفِّراتٍ لِلسَّيِّئاتِ رَافِعةً للدّرَجات، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه عَن رَسول الله قَالَ: ((الصَّلواتُ الخمسُ والجُمعة إِلى الجُمعة ورَمَضَانُ إلى رَمَضَان مكفِّراتٌ لما بينهنّ إذا اجتُنِب الكبائر)) رواه مسلم[2]، وعن عبدِ الله بن عَمرو بن العاص رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسول الله : ((أَربعونَ خَصلةً أعلاها مَنيحَةُ العَنز، مَا مِن عَاملٍ يعمَل بخَصلةٍ مِنها رَجاءَ ثوابِها وتَصدِيقَ مَوعودِهَا إلاّ أدخَلَه الله بها الجنّةَ)) رواه البخاريّ[3]، وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ قالَ: ((الإيمانُ بضعٌ وسَبعونَ ـ أو بضعٌ وستّون ـ شعبة، فأفضلها قول: لا إلهَ إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذَى عن الطّريق، والحياءُ شُعبَةٌ من الإيمان)) رواه البخاريّ ومسلِم[4]، وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسولَ الله، أيُّ العملِ أفضَل؟ قال: ((الإيمانُ باللهِ والجِهادُ في سبيلِه))، قلتُ: أيُّ الرِّقاب أفضَل؟ قال: ((أنفَسُها عندَ أهلِها وأكثَرُها ثمَنًا))، قُلتُ: فإن لم أفعَل؟! قال: ((تُعينُ صَانعًا أو تَصنَع لأَخرَق))، قلتُ: يا رسولَ الله، أرأيتَ إن ضَعُفتُ عن بعضِ العمَل؟! قال: ((تكفُّ شرَّك عن النّاسِ، فإنّها صَدقةٌ مِنك على نفسِك)) رواه البخاريّ ومسلم[5]، وعنه رضيَ الله عنه قالَ: قال رسول اللهِ : ((لا تحقِرَنَّ من المعروفِ شيئًا ولو أن تَلقَى أخاك بوجهٍ طَلِيق)) رواه مسلم[6]، وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: قال رَسول الله : ((إنَّ اللهَ لَيرضَى عَنِ العبدِ أن يَأكُل الأكلةَ فَيَحمَده عليها، أو يشربَ الشَّربة فيحمَده عليها)) رواه مسلِم[7].

وكما شَرَع اللهُ كثرةَ أبوابِ الخَير وأسباب الحَسَنات سَدَّ أَبوابَ الشرورِ والمحرَّمات، وحرَّم وسائلَ المَعاصي والسيِّئات؛ ليثقلَ ميزانُ البرِّ والخَير، ويخِفَّ ميزانُ الإثمِ والشرِّ، فيكون العبدُ من الفائزين المفلِحين، قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ ٱلْفَوٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلإِثْمَ وَٱلْبَغْىَ بِغَيْرِ ٱلْحَقّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ سُلْطَـٰنًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [الأعراف: 33]، وعَن أَبي هريرَةَ رَضِي الله عنه قَالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ يَقولُ: ((مَا نهَيتُكم عنه فاجتَنِبوه، وما أَمرتُكم به فأتُوا منه ما استَطَعتم)) رواه البخاريّ ومسلم[8].

وجِماعُ الخير ومِلاكُ الأمرِ وسَبَبُ السعادةِ التوبةُ إلى اللهِ تَعَالى، قال اللهُ تَعَالى: وَتُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].

ومَعنَى التّوبةِ هي الرُّجوعُ إلى الله والإنابةُ إِليه مِن فعلِ المحرّم والإثم، أَو مِن ترك واجبٍ أو تقصيرٍ فيه، بصدقِ قَلبٍ ونَدمٍ عَلَى مَا كَانَ.

والتَّوبةُ النّصوحُ يحفَظ اللهُ بها الأعمَالَ الصّالحةَ التي فعَلها العبدُ، فلاَ تَفسدُ، ويكفِّر الله بها المعاصيَ التي وقعَت، ويدفعُ الله بها العقُوباتِ النّازِلةَ والآتيَة، قال اللهُ تعالى: فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْىِ فِى ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ [يونس: 98]. رَوَى ابن جريرٍ رحمه الله في تفسير هذه الآية عن قتادةَ قال: "لم ينفَع قرية كفَرَت ثمّ آمنَت حينَ حضرها العذابُ فتُرِكت إلاّ قوم يونس، لمّا فقَدوا نبِيَّهم وظنّوا أنّ العذابَ قد دنا منهم قذَف الله في قلوبِهم التّوبةَ، ولبِسوا المسوح، وألهَوا بَين كلّ بهيمة وولَدها ـ أي: فرّقوا بينهما ـ، ثمّ عجّوا إلى الله أَربعين ليلةً، فلمّا عرَفَ الله الصّدقَ من قلوبِهم والتّوبةَ والنّدامةَ على ما مَضَى منهم كشفَ الله عَنهم العَذَابَ بَعد أن تَدَلَّى عَلَيهم" انتهى[9].

وقال تعالى: وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتّعْكُمْ مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود: 3].

والتَّوبةُ واجِبَةٌ على كلِّ أَحَدٍ مِن المسلِمِين، فالوَاقِعُ فِي كبيرةٍ تجِب عليه التّوبةُ لئلاّ يَبغَتَه الموتُ وهو على المعصيةِ، والوَاقِعُ في صغيرةٍ تجِبُ عليه التّوبة لأنّ الإِصرَارَ على الصَّغيرةِ يكون من كبائرِ الذّنوب، والمؤَدِّي للواجِبَاتِ التَّاركُ للمحرّمات تجِب عليه التّوبة أيضًا لما يَلحَق العَمَلَ مِن الشّروطِ وانتفاءِ موانعِ قبولِه، وما يُخشَى على العامِل مِنَ الشّوائب التي تردُّ العملَ، عن الأغرِّ بن يسار المزنيّ رضي الله عنه قالَ: قالَ رسول الله : ((يَا أيّها النّاس، توبوا إلى اللهِ واستغفِروه، فإنّي أتوبُ في اليَومِ مائَةَ مَرَّة)) رواه مسلم[10].

والتّوبةُ بابٌ عَظيم يَتَحقّق بهِ الحسناتُ الكَثِيرةُ العَظِيمة التي يحبّها الله؛ لأنّ العَبدَ إذا أَحدَث لكلّ ذَنبٍ يقَع فيه توبةً كثُرَت حسناتُه ونَقَصَت سيّئاتُه، قالَ الله تعالى: وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهَا ءاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِى حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَـٰعَفْ لَهُ ٱلْعَذَابُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَـٰلِحًا فَأُوْلَـئِكَ يُبَدّلُ ٱللَّهُ سَيّئَاتِهِمْ حَسَنَـٰتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الفرقان: 68-70].

أيّها المسلمون، تَذَكَّرُوا سَعَةَ رَحمةِ اللهِ وَعَظيمَ فَضلِه وَحِلمِه وَجودِه وكَرَمِه، حَيثُ قَبِل تَوبَةَ التَّائبين، وأقالَ عَثرةَ المذنِبين، ورَحِم ضَعفَ هذَا الإنسانِ المِسكين، وأثابَه على التَّوبةِ، وَفَتَحَ له أَبوَابَ الطّهارةِ والخيرات، عن أبي موسَى الأشعريِّ رضي الله عنه عنِ النَّبيّ قال: ((إنَّ الله تَعَالى يَبسُط يدَه باللَّيلِ ليتوبَ مُسيء النّهار، ويبسُط يدَه بالنّهار ليتُوبَ مسيءُ اللّيل)) رواه مسلم[11].

والتّوبةُ من أعظمِ العباداتِ وأحبِّها إلى الله تعالى، مَن اتّصفَ بها تحقَّق فلاحُه وظهَر في الأمورِ نجاحُه، قال اللهُ تعالى: فَأَمَّا مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صَـٰلِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ ٱلْمُفْلِحِينَ [القصص: 67]، وعسى من الله واجب، قد أوجبَ ذلك على نفسِه.

وكفى بفضلِ التّوبةِ شرَفًا فرحُ الرّبِّ بها فرَحًا شديدًا، عن أنسٍ رضي الله عنه قال: قالَ رسول الله : ((للهُ أشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبدِه من أحدِكم سَقَط على بعيرِه وقد أضَلَّه في أرضِ فلاة)) رواه البخاريّ ومسلم[12].

والتّوبة من صفاتِ النبِيّين عليهم الصلاةُ والسلام ومِن صفاتِ المؤمنين، قال الله تعالى: لَقَدْ تَابَ الله عَلَىٰ ٱلنَّبِىّ وَٱلْمُهَـٰجِرِينَ وَٱلأنصَـٰرِ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوهُ فِى سَاعَةِ ٱلْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة: 117]، وقَالَ تَعَالى عَن موسَى عَلَيه الصَّلاة والسَّلام: قَالَ سُبْحَـٰنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الأعراف: 143]، وقال تعالى عن داودَ عليه الصَّلاة والسَّلام: وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص: 17]، رجَّاعٌ إلى الله تعالى، وقال تعالى: ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلركِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَـٰفِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112]. ألاَ ما أَجَلّ صِفَةَ التّوبة التي بَدَأ الله بِها هَذِه الصِّفاتِ المُثلَى مِن صفاتِ الإيمانِ.

والتّوبةُ عبادةٌ للهِ بالجَوَارِح والقلبِ، واليومُ الذي يَتُوبُ الله فيه على العَبدِ خيرُ أيّامِ العُمُر، والسّاعة التي يفتَح فيها الربُّ لعَبدِه بابَ التّوبة ويَرحمُه بها أفضلُ ساعاتِ العُمر؛ لأنّه قد سَعِد سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا، عن كعبِ بنِ مالك رضي الله عنه في قصّةِ توبَة الله عليهِ في تخلّفه عَن غَزوَة تبوك أنّه قال: فلمّا سلّمتُ على رسولِ الله قال وهوَ يَبرُق وجهُه من السُّرور: ((أبشِر بخيرِ يومٍ مَرَّ عَلَيكَ مُنذ ولدَتك أمّك)) رواه البخاريّ ومسلم[13].

معشرَ المسلِمِين، إنّها تُحِيطُ بِكم أَخطَارٌ عظيمة، وتُنذِرُكم خطوبٌ جَسيمة، وقد نزَل بِالمسلِمِين نَوازِلُ وزلازِل، وأصابَتهُم الفتَنُ والمِحن، وإنّه لا مخرَجَ لهم من هذِهِ المضايِق وهذهِ الكُرُبَات إلاّ بالتّوبةِ إلى الله والإنابَة إليه، فالتّوبةُ واجبةٌ على كلِّ مسلِم على وجهِ الأرض من الذّنوبِ صِغارِها وكبارها؛ ليرحمَنا الله في الدّنيا والآخرةِ، ويكشِفَ الشرورَ والكرُبات، ويَقيَنا عذابَه الأليم وبطشَه الشّديد.

قال أهلُ العِلم: إذا كانَتِ المعصيةُ بينَ العبدِ وربِّه لا حقَّ لآدميٍّ فيها فشروطُها أن يقلِعَ عن المعصيةِ وأن يندَمَ على فعلِها وأن يعزمَ أن لا يَعودَ إليها، وإن كانتِ المعصيةُ تتعلّق بحقّ آدميٍّ فلا بدَّ مع هذه الشّروط أن يؤدّيَ إليه حقَّه أو يَستَحِلّه منه بالعَفو.

والتّوبة من جميعِ الذّنوب واجبَة، وإن تَابَ مِن بَعضِ الذّنوبِ صَحّت توبتُه من ذلك الذّنبِ، وبقيَ عليه ما لم يتُب مِنه.

فتوبوا إلى الله أيّها المسلمون، وأقبِلوا إلى ربٍّ كَريم، أسبَغَ عليكم نِعَمَه الظاهرةَ والباطِنَة، وآتاكم من كلِّ ما سألتموه، ومَدَّ في آجالِكم، وتَذَكّروا دائِمًا وتَذَاكَروا قصَصَ التَّائِبين الذين مَنّ الله عليهم بالتّوبة النّصوح بعد أن غَرقوا في بحارِ الشَّهوات والشّبُهات، فانجَلت غِشاوةُ بصائِرهم، وحيِِيَت قلوبُهم، واستَنَارَت نفوسُهم، وأيقَظَهم اللهُ من مَوتِ الغفلةِ، وبَصّرَهم مِن عمَى الغَيّ وظُلُماتِ المعاصي، وأسعدَهم مِن شَقَاءِ الموبِقات، فصارُوا مَولودِين مِن جَديد، مستبشرين بنعمةٍ من اللهِ وفَضل، لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَٱتَّبَعُواْ رِضْوٰنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [آل عمران: 174].

قال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سَيّئَـٰتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ يَوْمَ لاَ يُخْزِى ٱللَّهُ ٱلنَّبِىَّ وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَٱغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ [التحريم: 8].

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، ونفعنا بهَديِ سيّد المرسَلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستَغفر الله العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.



[1] صحيح البخاري: كتاب الرقاق، باب: من همّ بحسنة أو بسيئة (6491) بنحوه، وأخرجه أيضا مسلم في الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة (131).

[2] صحيح مسلم: كتاب الطهارة، باب: الصلوات الخمس... (233).

[3] صحيح البخاري: كتاب الجنة وفضلها، باب: فضل المنيحة (2631).

[4] صحيح البخاري: كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان (9)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان (35) واللفظ له.

[5] صحيح البخاري: كتاب العتق، باب: أي الرقاب أفضل؟ (2518)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان، باب: بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال (84) واللفظ له.

[6] صحيح مسلم: كتاب البر والصلة، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء (2626).

[7] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب (2734).

[8] صحيح البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله (7288)، صحيح مسلم: كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر (1337).

[9] جامع البيان (11/171).

[10] صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب: استحباب الاستغفار (2702) بنحوه، ومرّة رواه عن الأغرّ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

[11] صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: قبول التوبة من الذنوب (2759).

[12] صحيح البخاري: كتاب الدعوات، باب: التوبة (6309) واللفظ له، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: من الحض على التوبة... (2747).

[13] صحيح البخاري: كتاب المغازي، باب: حديث كعب بن مالك (4418)، صحيح مسلم: كتاب التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك (2769).

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الجبروتِ والملَكوت، الحيّ الذي لا يموتُ، أحمد ربي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِره، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له يحيي ويميت، وأشهد أن نبيَّنا وسيّدنا محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلِّه ولو كره المشركون، اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وعلى آله وصحبه الذين جاهدوا في الله حقَّ جهاده، ففازوا في دنياهم بالخَيرات، وفي آخِرَتهم برفيعِ الدّرجات.

أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى بلزومِ طاعته، واخشَوا عذابَه وعقوبتَه بالبُعد عن محرَّماته.

عبادَ الله، لقد وهب الله لكم الآجالَ، ومكَّنكم من صالح الأعمال؛ لتجعلوها وسيلةً إلى مرضاةِ ربِّكم ذي العزّة والجلال، فبالعمل الصالح يتقرَّب العباد، وبه تتطهَّر القلوب من الزّيغ والفساد، قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].

واعلَموا أنَّ وراءَكم طالبًا حثيثًا لن تفوتوه، فلا تدرونَ متى يَفجَأ أحدَكم الموتُ، عندئذ يتمنَّى المرء لو فسِحَ له في أجله وأصلح من عمله، فلا يُؤخَّر في الأجل، ولا يتمكَّن من صالح العمل، قال الله تعالى: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 99، 100]، وفي الحديثِ عن النبيِّ أنّه قال: ((الكيِّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجزُ من أتبع نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانيّ)).

تذكَّر ـ أيّها الإنسان ـ مَن بينكَ وبين أبينا آدَم عليه الصلاة والسلام من الآباءِ والأمَّهات الذين قدِموا على أعمالهم، فأنتم على آثارِهم سائرون وبهم لاحقون، فهل ترونَ من الأجيالِ الخالية أحدًا أو تسمعون لأصواتهِم صدى؟!، يقول النبي : ((أكثِروا [ذكرَ] هاذم اللّذات)) يعني الموت، واستعِدّوا له بالتوبةِ الصّادِقَة في كلِّ وقت؛ لئلاّ يُحَال بين أحدكم وبين الدنيا بعملٍ سيِّئ يشقى به أبدًا.

عبادَ الله، إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، وقد قال : ((مَن صلّى عليَّ صلاةً واحدةً صلّى الله عليه بها عشرًا)).

فصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخِرين وإمام المرسلين.

اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، اللّهمّ وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وسلّم تسليمًا كثيرًا، اللهمَّ وارضَ عن الصّحابة أجمعين، اللهم وارض عن الخلفاء الراشدين المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً