أمَّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى ـ أيّها المؤمنون ـ لعلَّكم تفلِحون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]. فتشبَّثوا بالتوحيد، وتزوَّدوا ليوم الوعيد، فعمّا قليل سيبلَى الجديد ويشيب الوليد، وما أقربَ القاصي من الداني، ورحِم الله عبدًا تزوَّد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].
أيُّها المسلِمون، القضايا التي يجب تردادُها والمسائل التي ينبغي تعدادُها هي قضايا التوحيدِ وإسلام الأمر لله العزيز الحميد. التوحيد ـ أيها المسلمون ـ هو الحقيقة الكبرى والقُطب الأقوى والذي تدور عليه رَحَى الدينِ، بَل هُوَ أَسَاسُ كلِّ النبوّات ومعقِد لِواء الرِّسالات، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25]، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].
وحقيقةُ التوحيد هي إفرادُ الله تعالى بالعبادةِ والتوجّهُ له في كلِّ شيء. ومِن أعظم أبوابِ التوحيد الخوف والرجاء والرغبة والرهبة واليقينُ والتوكّل، وهي مسائل عظيمة يغفَل عنها بعضُ الخلق، حتى إنَّ الشرك ليدخل عليهم من بابها وهم لا يشعرون.
ذلكم ـ أيّها المسلمون ـ حين ينحَدِر العبد إلى الخوفِ من المخلوق ورهبتِه ورجائه والرغبةِ إليه والتوكّل عليه، في إعراضٍ عن الخالق وبُعدٍ عنه، وفي القرآن العظيمِ: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن: 6]. إنَّ الخوفَ من غيرِ الله هو شركُ الجاهليّة الأولى والمشارُ إليه في الآيةِ السالِفَة.
عبادَ الله، إنَّ هذا الخلَلَ القلبيَّ يؤدِّي إلى فعلٍ شركيّ، بل أفعالٍ كثيرة، وذلك حين يصرِف العبد شيئًا من حقوقِ الخالق إلى المخلوق لجلبِ نفعٍ أو دفع ضرّ، بل يصِل الأمر إلى الشِّركِ في توحيدِ الربوبيّة حين يعتَقِد الجهولُ النفعَ والضّرَّ عند غير الله، وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنْ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [يونس: 107].
إنَّ الشِّركَ في هذا الباب من المسائلِ الخطيرةِ، والتي قد يغفَل عنها بعضُ الموحِّدين، والله تعالى يَقُول: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48].
أيّها المسلِمون، إنَّ المزالِقَ في هذه الأبوابِ وفي غيرها من البلايا المهلِكَة والرَّزايا المردِيَة متحقِّقَة في كبيرة من كبائرِ الذنوب وناقضٍ مِن نواقِضِ الإسلام، ألا وهو السّحرُ، وقانا الله وإيّاكم شرَّه ودفع عنّا وعنكم ضرّه.
السِّحر ـ أيّها المسلمون ـ داءٌ خطير وشرّ مستطير، له حقيقة خفيّةٌ وضرَرٌ محقَّق، يهدِم الدينَ، ويتلِف الجسدَ، ويخرب البيوتَ، ويقطَع الأرحام، ويورد النار؛ لذا فقد اتَّفقتِ الشرائع السماويّة على تحرميه، وسماه الله كفرًا، وحذَّر منه في القرآنِ، ولم يجعل لصاحبة في الآخرةِ نصيبًا ولا حظًّا.
السّحرُ عزائمُ ورُقى وعُقَدٌ ونَفث وعَمَل يؤثَّر به في القلوب والأبدان والمشاعِرِ والطبائع، هو بضاعة الشيطان، يلجأ إليه ضِعاف النفوس وضِعاف الإيمان؛ جلبًا لحظٍّ أو دفعًا لنَحس، طمعًا في مالٍ أو طردًا لأوهامٍ أو بَغيًا على عباد الله.
أمَّا الساحر فمُفسِد فاجِرٌ، قد نزِعَت من قلبه الرحمة، واستَأثَر للذِّلَّة، وباع نفسَه للشيطان، وأوبَقَ دنياه وآخرِتَه، لا تجِد ساحِرًا سعيدًا وإن أوهَمَ الناسَ بجلب السعادةِ لهم، ولا تجِد ساحرًا غنيًّا وإن خدَعَهم بدفع الفقر عنهم، سيّئُ الحال، خبيثُ الفِعال، دائِم الذّلَّة، ملازمٌ للفَقر والقِلَّة، قَبيحُ الخِصال.
السِّحرُ والسَّحَرة والعرَّافون والكهَنَة عالم موبوءٌ بالخُرافات والدَّجَل، مطمورٌ بالبَغيِ والظُّلم، تُعشعِشُ في أكنافِهِ الشَّياطين، ويُظلِّلُه الشركُ والكفر المبين، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69]، قَالَ الله عزَّ وجلَّ مؤكِّدًا كفرَ الساحر: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
فهَل يجرُؤ بعدَ هذه الآياتِ مَن في قلبِه مثالُ حبّةٍ من خردَل من إيمانٍ أن يتعلَّمَ السحرَ أو يتَعَاطاه، أو يَلجَأ للسَّحَرَة ليَشتَريَ ما يوبِق دينَه وأُخراه، وقد قَالَ النَّبيُّ : ((اجتنِبوا السَّبعَ الموبِقات))، قالوا: يا رسولَ الله، وما هنّ؟ قال: ((الشّركُ بالله، والسّحر)) الحديث. متفق عليه.
ولأجلِ عظيمِ فسادِ السّاحر وكبيرِ جُرمِه وتعَدِّ شرِّه كان حكمُه القتل؛ لأنَّه من أعظم المفسدين في الأرض، وقد كتبَ عمر بن الخطاب إلى ولاتِه أن اقتُلوا كلَّ ساحرٍ وساحرة. وفي الترمذيِّ عن جندُب : ((حدُّ السِّاحِرِ ضربَةٌ بالسيف)) أو ((ضَربُه بالسّيف)) رُوِي مرفوعًا وموقوفًا.
وقد نصَّ الأئمّة على كفرِه، خاصّةً إذا ظهَرت استعانتُه بالشياطين والتقرّب إليهم. ونصَّ بعضُهم على عدم قبولِ توبتِه. إنّه شأن ليس باليسير، يقول الذهبيّ رحمه الله: "فترى خلقًا كثيرًا من الضُلاَّل يدخلون في السحر، ويظنّون أنه حرام فقط، وما يشعرون أنه الكفر".
عبادَ الله، إنّه ومع انتشار الوعيِ وتطوُّر العلم فإنّك لتعجَب من تعلّق بعض الناس بهذه الأوهام واستشراءِ هذا الداء بين العَوام، فكيف يكون من المسلمِينَ مَن يذهب إلى السحرة ويستعين بهم؟! سبحان الله! أين الدينُ؟! أينَ الإيمان؟! بل أينَ العَقل؟!
يا زمانَ العِلم والمعرفةِ، ماذا تُغني الخيوطُ والخُرَز والحِلَق والحُجُب؟! أيّ نفعٍ تُجدِيه التعاويذُ الشركيّة والتمائم والحُروف والخطوط والطَّلاسِم؟! إنها سخريّة بالعقل وانحطاطٌ في التفكير وانحراف في الدّيانة والسلوك.
قال الشيخُ المجدِّد إمام الدعوة رحمه الله: بابٌ: من الشرك لبسُ الحلقةِ والخيط ونحوهما لرفع البلاء ودَفعِه، قال الله عزّ وجلّ: قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ [الزمر: 38]، وعن عمرانَ بنِ حصين أنَّ النبيَّ رأى رجلاً في يدِه حلقة من صُفر فقال: ((ما هذه الحلقة؟)) قال: هذه منَ الواهنة، قال: ((انزِعها فإنها لا تزيدُك إلا وهنًا)) رواه الإمام أحمد وابن ماجه، زاد أحمد: ((فإنك لو متَّ وهي عليك لم تفلح أبدًا)). قال ابن الأثير رحمه الله في النهاية: "الواهنةُ عِرقٌ يأخذ في المنكب أو في اليدِ كلها، وقيل: وهنٌ في الجسم". وروى الإمامُ أحمد والحاكم عن عُقبةَ بنِ عامر مرفوعًا: ((مَن علَّق تميمةً فلا أتمَّ الله له، ومن تعلَّق ودعةً فلا ودَع الله له))، وفي رواية: ((من علَّق تميمَةً فقد أشرَكَ)).
وبعد: أيها المؤمنون، فإنَّ على المسلِمِ أن يَربَأ بنفسِه ودينِه وعقلِه عن هذه الخرافاتِ المضلِّلَة والشِّركيَّات الموبِقة، وكذا عن كلِّ طرائق المشعوِذين والدجالين، والتي فيها ادِّعاء بعلم المغيَّبات أو القدرة على المعجزات مما انتشَر بلاؤه حتى في الفضائيّات؛ كقراءةِ الكفِّ وقراءةِ الفنجان والاستدلالِ بالطوالِعِ والبروجِ على السَّعد والنحس والخيرِ والشرِّ، فكلّ ذلك رجمٌ بالغيب، يتعيَّش به الدجّالون والكهَنَة، ويغرُّون به البُلهَ والجَهَلة، وأكثرُ من ذلك خسارًا ووبالاً ضَياعُ الدين وفقدان الإيمان.
روى مسلم في صحيحِه أنَّ النبيَّ قال: ((من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة))، هذا لمجرد إتيانِ العرّاف، أما من صدَّقه فإنه أعظمُ خسارًا، يقول النبيّ : ((من أتى عرّافًا أو كاهنًا فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد)) رواه أهل السنن بسند صحيحٍ على شرط الشيخين. وعن عِمرانَ بن حصين مرفوعًا: ((ليس منّا من تطيَّر أو تُطُيِّر له، أو تكهَّن أو تُكُهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومَن أتى كاهِنًا فصدَّقه بما يقول فقَد كفر بما أنزِلَ على محمّد)) رواه البزار بإسناد جيد. والعرَّافُ هو الذي يدَّعي معرفةَ الأمور بمقدِّمات يستدلّ بها، كطلبه معرفةَ اسمِ الأمّ ونحو ذلك، ويدَّعي معرفة الأشياء الغائبة، وقيل: هو الكاهن، والكاهنُ هو الذي يخبِر عن المغيَّبات في المستقبل. ومن هؤلاء المنجِّم والرَّمَّال ونحوهم ممَّن يدَّعي معرفةَ الأشياء الغائبة أو معرفةَ المستقبل.
ألا فاتقوا الله تعالى أيّها المسلمون، وأخلِصوا دينكم لله، وحاذِروا مزالقَ الشيطان والمردِيَات من الشركِ والعصيان، واصرِفوا هممَكم للخالق الديّان، واقصدوه في حاجاتِكم، فما خاب عبدٌ رجاه، وأخلِصوا له التوحيد في باب التوكّل والرجاء، فلا حول ولا قوة أبدًا إلا بالله، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3] أي: كافيه، بل إنَّ التوكّلَ شرط الإيمان كما قال موسى عليه السلام لقومه: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ [يونس: 84]. فإذا بُلِيتَ فثِق باللهِ، وارضَ بِه، فإنَّ الذي يكشف البلوَى هو الله.
أيّها المريض، أيها المبتَلَى، إنَّ ثِقَتَك بالسَّاحر والمشعوِذ أشدُّ بلاءً من مَرَضِك، وإخلادُك إليه أوهى لقلبِك وأوهن لبدنك، فإن رُمتَ الشفاء وطلبتَ الدواءَ وقد استعزَّ بِك الوصب واستفزّك النَّصب فارفَع يديك إلى من يداويك، واقصد الله فهو الذي يعافيك، وإنما يشفيك التَّحنِّي لَه والخشوعُ والتذلّلُ له سبحانه والخضوع، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [النمل: 62].
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنّة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولَكُم.
|