عباد الله، سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع الثبات وأسباب الثبات؛ لعلنا نكون وإياكم ممن ثبتهم الله على الحق حتى ماتوا عليه.
نتكلم على الثبات في وقت تمر الأمة فيه بمراحل حرجة من حروب وفتن، ربما لو فكر فيها الرجل العاقل لشرد ذهنه وانخلع قلبه مما يرى. ولكن اعلم ـ أخي المسلم ـ أن الثبات على الحق والتمسك به من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم: 27]. وقدوتنا في ذلك هو رسول الله ، فقد لاقى ما لاقى ومع ذلك كان أشد ثباتًا حتى بلغ رسالة ربه على أتم وجه.
عباد الله، إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف شاء، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد، يصرفه حيث شاء))، ثم قال: ((اللهم مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك)) رواه مسلم. وهذه أمُّ سلمة رضي الله عنها تحدِّث أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول: ((اللهم مقلبَ القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قالت: قلت: يا رسول الله، وإنَّ القلوب لتتقلب؟! قال: ((نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا إن قلبه بين أصبعين من أصابع الله، فإن شاء الله عز وجل أقامه، وإن شاء الله أزاغه)) أخرجه أحمد في مسنده والترمذي في جامعه بإسناد صحيح. وهذا أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان رسول الله يكثر أن يقول: ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك))، قال: فقلت: يا رسول الله، آمنا بك وبما جئت به، هل تخاف علينا؟! قال: ((نعم، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله، يقلّبها كيف يشاء)) أخرجه الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه بإسناد صحيح.
وما سمي الإنسان إلا لِنَسْيِهِ ولا القلب إلا أنه يتقلب
ومصداق هذا كله مشاهد ملموس في واقع الناس، فكم من روضة أمست وزهرها يانع عميم أصبحت وزهرها يابس هشيم، فبينا ترى الرجل من أهل الخير والصلاح ومن أرباب التقى والفلاح، قلبه بطاعة ربه مشرق سليم، إذا به انقلب على وجهه فترك الطاعة وتقاعس عن الهدى، وبينا ترى الرجل من أهل الخنا والفساد أو الكفر والإلحاد، قلبه بمعصية الله مظلم سقيم، إذا به أقبل على الطاعة والإحسان وسلك سبيل التقى والإيمان.
أيها الإخوة المؤمنون، إن تذكر هذا الأمر لتطير له ألباب العقلاء، وتنفطر منه قلوب الأتقياء، وتنصدع له أكباد الأولياء، كيف لا والخاتمة مغيّبة والعاقبة مستورة؟! والله غالب على أمره، والنبي قد قال: ((فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)) متفق عليه. فالله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عباد الله، اعلموا أنه على قدر ثبات العبد على الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثباته على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط في الدنيا يكون سيره على ذلك الصراط، فمنهم من يمر مر البرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم كالريح، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش، ومنهم من يسقط في جهنّم، وهل تجزون إلا ما كنتم تعملون؟! ولذا نحن في اليوم مرات ومرات ندعو الله أن يثبّتنا على الصراط المستقيم، ونقول: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [الفاتحة: 6، 7].
يا رب، ثبّتنا على طريق الصالحين، طريق الإيمان، طريق التقوى، طريق التوحيد، طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
فيا عباد الله، عليكم أن تجتهدوا في أخذ أسباب الثبات وأن تحتفوا بها، علمًا بأن المقام جد خطير، والنتائج لا تخالف مقدماتها، والمسببات مربوطة بأسبابها، وسنن الله ثابتة لا تتغير، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
فمن أسباب حصول الثبات على الحق والهدى والدين والتقى:
أولاً: الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى؛ وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها، وقد قال مخاطبًا خير خلقه وأكرمهم عليه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً. وقال تعالى: إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا. وكان نبينا يكثر من قوله: ((لا، ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد، مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
ثانيًا: ومن أسباب الثبات على الخير والصلاح الإيمان بالله تعالى، قال عز وجل: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَة [إبراهيم: 27]. والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب وينطق به اللسان وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا. فالمثابرة على الطاعة والمداومة عليها المبتغى وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.
ثالثًا: ومن أسباب الثبات على الطاعة والخير ترك المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها؛ فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن)). وأما الصغائر فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إياكم ومحقرات الذنوب، كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود، حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه)).
خل الذنـوب صغيرهـا وكبيرهـا ذاك التقـى
واصنع كماش فـوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تَحقـرن صغـيـرة إن الْجبال من الحصـى
رابعًا: من أسباب الثبات على الإسلام والإيمان الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلمًا وعملاً وتدبرًا، فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتًا للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، فقال الله تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ. فكتاب الله هو الحبل المتين والصراط المستقيم والضياء المبين لمن تمسك به وعمل.
خامسًا: ومن أسباب الثبات على الصالحات عدم الأمن من مكر الله، فإن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده مكره، فقال عز وجل: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ. وقد قطع خوف مكر الله تعالى قلوب المتقين المحسنين، وغفل عنه الظالمون المسيئون، كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعًا بالأمان، وقال الله تعالى: أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ.
يـا آمنًا مـعَ قبحِ الفعـل منـه هل أتاك توقيعُ أمن أنت تملكه
جمعـت شيئين أمنًا واتبـاع هوى هذا وإحداهما في المرء تهلكـه
أما المحسنون من السلف والخلف فعلى جلالة أقدارهم وعمق إيمانهم ورسوخ علمهم وحسن أعمالهم فقد سلكوا درب المخاوف، يخافون سلب الإيمان وانسلاخ القلب من تحكيم الوحي والقرآن، حتى صاح حاديهم يقول:
والله ما أخشـى الذنـوب فإنهـا لعلـى سبيل العفو والغفران
لكنما أخشـى انسلاخ القلب من تحكيـم هذا الوحي والقرآن
فالحذر الحذر من الأمن والركون إلى النفس، فإنه ما دام نَفَسُك يتردد فإنك على خطر. قال ابن القيم رحمه الله: "إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب وأنه يحول بين المرء وقلبه وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمّنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته، وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم".
سادسًا: ومن أسباب الثبات على الهدى والحق سؤال الله التثبيت، فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك، فألحوا على الله تعالى بالسؤال أن يربط على قلوبكم ويثبتكم على دينكم، فالقلوب ضعيفة، والشبهات خطافة، والشيطان قاعد لك بالمرصاد، ولك فيمن تقدمك من المؤمنين أسوة حسنة، فإن من دعائهم: رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، وما ذكره الله تعالى عنهم: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ، وقد كان أكثر دعاء النبي : ((يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك)). أسال الله أن يثبتنا وإياكم على الخير والصلاح.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
|