أما بعد: فاتقو الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فالأعمار تطوى، والأجيال تفنى، والآجال تُقضى، والمؤمِّل يقعد به أمله، والمسوّف يعاجله أجله، فاتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
أيها المؤمنون، في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا، آلامٌ تضيق بها النفوس، ومزعجات تورث الخوف والجزع، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214].
هذه هي حقيقة الدنيا في ابتلائها، تُضحك وتُبكي، وتجمع وتُشتّت، شدة ورخاء، وسراء وضراء، ودار غرور لمن اغتر بها، وموطن عبرة لمن اعتبر بها.
أمة الإسلام، لقد كانت هذه الأمة أمةً رائدة في الأمم قائدةً للناس، أقامت العدل ورفعت الظلم وأشاعت الرحمة، ولقد ظل العالم الإسلامي بأسره مئات الأعوام وهو متجانس متماسك يشدّ بعضه أزر بعض، ويؤازر الكل العقيدة الإسلامية الجامعة كلما هدد كيانه خطر أو ادلهم خطب. ومنذ أن فقدنا الأندلس وقع تغيُّرٌ رهيب في حياته وأخذت أرضه تنقص من أطرافها، ففقدت أقطار وأمم، وانتهكت مقدسات ومحارم، ودارت رحى الحرب على المسلمين، ودبَّ الضعف إلى جسد الأمة حتى أصابه الهوان والمذلة، ونزعت هيبتها من قلوب أعدائها، دماءٌ تراق، وأعراضٌ تنتهك، وبيوت تهدم، وألوف تشرد، بُقِرت بطون، واندلقت أحشاء، أبيدت أسر، وسلب وطن، إرهابهم لا يفرق بين شيوخٍ ركع ولا نساءٍ عُزّل ولا أطفال رُضّع، ما أرخص دماء المسلمين! وما أشدّ ما نزل بهم من أهوال! وما أعظم ما حلّ بهم من هوان! صور متكررة لواقع واحد.
أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصـا جناحـاه
كم صرفتنـا يد كنـا نصرفهـا وبات يحكمنـا شعب ملكناه
أيها المسلمون، وهنا يأتي السؤال، نعم السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة على واقع المسلمين اليوم: لِمَ لا نبحث عن أسباب هزائمنا وذهاب مقدساتنا؟! هل السببُ عوج خلقي أو خلل سياسي أو اقتصادي أم غشٌ ثقافي أو انحراف عقدي أم هو مزيج متفاوت من هذه العلل جميعا؟! ما المعاصي الخلقية والسياسية والثقافية التي ارتكبها أهل الإسلام فأصابهم ما أصابهم بسببها؟!
أمة الإسلام، لقد حام حول هذا الموضوع كثير من المصلحين الذين يريدون للأمة الخير، فمن مقرّب ومن مبعّد، كثرت الأقوال، وارتفعت الشعارات، وعُقدت المؤتمرات، وسُطّرت الكتابات، ولكن لم نَرَ شيئًا مع هذا كلّه، إذن ما العلة؟ وأين العلاج؟
أتريد ـ أخي المسلم ـ أن تعرف العلة والعلاج؟! تأمل في هذين الحديثين:
روى أحمد وأبو داود أن رسول الله قال: ((يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها))، قالوا: أمن قِلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن))، قالوا: وما الوهن؟ قال: ((حب الدنيا وكراهية الموت)).
وعند أبي داود من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذ تبايعتم بالعِينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرّع وتركتم الجهاد سلّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم)).
فهذا هو السبب، وهذه هي العلة، وذلك هو الوهن؛ حب الدنيا، وكراهية الموت، وترك الجهاد، أن يعيش الناس عبيدًا لدنياهم عُشاقًا لها، تحرّكهم شهواتها وتسيّرهم رغباتُها.
إن سبب ضعف المسلمين وما بهم من هوان وسبب كلّ بلاء وفتنة هو حب الدنيا والحياة وكراهية الجهاد والموت، وهذا يولّد الذنوب والمعاصي والبعد عن الالتزام بأوامر الله وتحكيم شرعه ودينه.
لما تركنا الهدى حلّت بنا محنُ وهاج للظلم والإفساد طوفانُ
أيها المسلمون، في أُحد شُجّ النبي وكسرت رَباعيته، وقتل حمزة أسد الله، وانقلب النصر إلى هزيمة؛ كلّ ذلك بسبب مخالفةٍ واحدة لأمر من أوامر الرسول وبتأويل واجتهاد. إذًا فكيف يريد المسلمون نصرا وتأييدا من الله ويرددون: إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ [محمد: 7] وهم غرقى في الذنوب والمعاصي إلا من رحم الله؟!
إن الأمة اليوم ردّدت وذكرت الجزاء والجواب ونست شرطه. إن الواقع يثبت أن الكثير اليوم يحب الدنيا ويكره الموت ولم يستعد للجهاد، حال المسلمين اليوم إلا من رحم الله ليالٍ حمراء، سهرٌ وغِناء، فضائيات ومسلسلات ونساء متبرجات، أتُنصر الأمة اليوم بغناء من فنان أو بمسلسل خالع أو بطرحٍ ممن لا يعرف الله طرفة عين؟!
إن الذنوب والمعاصي ـ يا عباد الله ـ سبب لكل بلاءٍ وشر ومحنة، فبالمعصية تبدّل إبليس بالإيمان كفرًا، وبالقرب بعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجنة نارًا تلظى. وبالمعصية عم قوم نوحٍ الغرق، وأهلكت عادٌ بالريح العقيم، وأخذت ثمود بالصيحة، وقُلّبت على اللوطية ديارهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40]. إنها الحقيقة الصارخة: فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ .
تلكم الذنوب يا عباد الله، وتلكم عواقبها، وما هي من الظالمين ببعيد. ما ظهرت المعاصي في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا تمكّنت من قلوب إلا أعمتها، ولا فشت في أمة إلا أذلتها، فلا تفارقها حتى تدع الديار بلاقع.
أيها المسلمون، إن للمعاصي شؤمها، ولها عواقبها في النفس والأهل، في البر والجو، تَضلّ بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]. قال الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعصَوه، ولو عزّوا عليه لعصمهم". بسبب الذنوب والآثام والمعاصي والإجرام يكون الهم والحزن والذل والهوان، بالمعاصي تزول النعم وتحل النقم وتتحول العافية ويستجلب سخط الجبار.
إذا كنت في نعمة فارعهـا فإن المعاصي تُزيل النعـم
وحطها بطاعة رب العبـاد فرب العباد سريع النقـم
وإياك والظلم مهمااستطعت فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبـك بين الورى لتبصر آثار من قد ظلـم
يا عبد الله، انتبه لهذه الحقيقة؛ إن العبد إذا ابتلي بالمعاصي استوحش قلبه، وضعفت بأهل الخير والصلاح صلته، قلت طاعته لربه، واستحوذ عليه شيطانه. وحتى تعلم أن الأمة انهمكت في المعاصي واستهوَت الذنوب إلا ما رحم ربي فتأمل وانظر لواقعنا اليوم، فلقد فشا فينا أنواع من الذنوب والآثام والسيئات والإجرام، بل أصبحت عند كثيرٍ منا أمرًا طبيعيًا، كثر الإمساس فقلّ الإحساس، فلقد فشا فينا الربا والزنا، وشُربت الخمور والمسكرات، وأُدمنت المخدرات، كثر أكل الحرام، وتنوعت الحيل فيه؛ شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، وفشت رذائل الأخلاق ومستقبح العادات في البنين والبنات، وانتشر بيننا الحسد والبغضاء، لا لشيء إنما لأمر الدنيا، حتى نجد الرجل يبغض الرجل ولا يسلّم عليه من أجل هواه ودنياه ولا حول ولا قوة إلا بالله، أصبحت الأمة مخدَّرة بكأس غنائية وأمور تافهة ساقطة، بل تأمّل فيما يبثّ عبر شاشات الفضائيات؛ سهر وفجور، وآثام وذنوب، وقلة حياء وفساد، واهتمام كثير من الناس بها، فماذا يعني كل ذلك؟!
إن آثار الذنوب والمعاصي كثيرة، ولقد عدّ الكثير منها ابن القيم في كتابه القيّم الداء والدواء، فليُرجع له فهو مفيد في بابه.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهدى والبيان، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، إن ربي قريب مجيب.
|