عباد الله، فإن الكثير من الناس يشكون داءً عظُم انتشاره واتّسع شره، داءً خطيرا وشرّا كبيرا يصادم الفطر ويصادر العقل، لغز من الألغاز الفتاكة، وسرّ كبير من الأسرار الهدامة، إنّه كهف مظلم بظلام آثاره، ومستنقع قذر بقذارة أهله، فشا بين الرجال والنساء، والفقراء والأغنياء، والأميين والمتعلمين، والمرضى والأصحاء، والبؤساء والوجهاء، والعالة والرؤساء، تجده في أوساط المجتمع كله؛ السياسي والاقتصادي والثقافي والرياضي، فشا بين الناس عامة وخاصة إلا من رحم ربي، إنه مزيل البسمات، وهادم البيوتات، فكم من أسرة فرق شملها وشتت جمعها، وكم من نساء طلقن وأطفال شردوا، وكم من صحة ذبلت وسعادة سلبت، وكم من فرحة قتلت، وكم من تجارة كسدت، إنه خطر على المجتمع بأسره.
أعرفتموه أيها الإخوة؟ إنه السحر، تلكم العزائم والرقى والعقد والطلاسم التي تؤثر في الأبدان والقلوب، فيُمرض ويقتل، ويفرق ويهدم، ويفسد ويدمر، ويرى المسحور النافع ضارًا والضار نافعًا. إنه السحر قرين الكفر، عالم عجيب، ظاهره فاتن خلاب، وباطنه قذر عفن، هذه هي أعمال الشعوذة والسحر، ما حلت في قلوب إلا أظلمتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، تجلب الأوهام والخيالات الباطلة والوساوس الرديئة.
أيها الإخوة المؤمنون، لما بعث الله نبيه محمدًا بعثه بالهدى ودين الحق الذي أبطل مسالك الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية، من الأوهام والخزعبلات والتخرصات والشعوذات التي وأدت التفكير وسلبت العقول، كان الناس يعمدون إلى نُصُبٍ وحجارة فيعلقون بها آمالهم وآلامهم، وآخرون يتعلقون بحروز وتمائم وخيوط وطلاسم، علها تدفع أو تنفع، فلما جاءت العقيدة الخالصة لله حررت القلوب ورفعت النفوس وسمت بالعقول، فأقامت سدًا منيعًا ودرعًا مكينًا أمام زحف الشعوذة والضلالات وغزو السحرة والخرافات، إذ كيف تزكو النفوس وتصلح القلوب وتُعمر الحياة وتُشاد الحضارات بأوهام السحرة الكاذبين ودجل المشعوذين السارقين النفعيين الذين لا يرعون للإنسان كرامة ولا للعقول حصانة وصيانة؟!
ومع أن العالم اليوم ـ أيها الإخوة ـ يعيش عصر التطور والآليات والتقدم والتقنيات التي يُفترض أنها تُناوئ الخرافة وتناقض الشعوذة وتحارب الدجل والسحرة، إلا أنك تجد فئة من الناس لا زالوا بأعمال السحرة مصدقين، عاكفين ركبهم عندهم، يسألونهم في خوف وذل عمّا هم عنه عاجزون، من دفع ضر أو جلب نفع، فلْيرِنا أهل السحر وأربابه إن كانوا صادقين قدرتهم في دفع مرض يصيبهم أو مصيبة تأتيهم أو رد مَلَك الموت إذا داهمهم.
السحرة ـ إخوة الإيمان ـ وقعوا في سخط الله وغضبه، واستحقوا عقاب الله ونقمته، إذ إن السحر يفسد أعمال الساحر ويبطلها؛ لأنه يتضمن الشرك بالله تعالى، فلا يكون الساحر ساحرًا إلا إذا تقرب إلى الشياطين بطاعتهم والانصياع لأوامرهم، بالذبح لهم والسجود لهم والاستغاثة والاستعاذة بهم ودعائهم من دون الله أو البول على المصحف ودهسه والدخول به إلى الخلاء أو كتابة آيات الله بالقذارة أو بدم الحيض أو أكل النجاسات والخبائث وفعل الفاحشة بأمه أو ابنته، وغير ذلك من الموبقات والمهلكات.
هذه الفعال الكفرية التي يفعلها الساحر هي دليل صدقه في استجابته للشياطين، وعنوان ارتباطه بهم. حينئذٍ يوقن الشيطان أن تلميذه من السحرة قد جاوز المرحلة، فيبدأ يسخر له من شياطين الجن من يعينه على إحداث الفتن والجرائم، هذا سرّ قصة تعلم الساحر الكاذب للسحر.
قال عز وجل: هَلْ أُنَبِئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزّلُ عَلَى كُلْ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السّمْعَ وَأَكّثَرَهُمْ كَاذِبُونَ [الشعراء: 221-223]. وكلما كان الساحر أشد كفرًا كان الشيطان أكثر طاعة وأسرع في تنفيذ أمره، وعلى هذا فالسحر يمثل طعنة في صميم العقيدة، وشرخا خطيرا في صرح التوحيد الشامخ، ولذا فهو من نواقض الإسلام الكبرى، يقول تعالى: وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ [البقرة: 102]، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَك،َ وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) أخرجه النسائي، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي قال: ((ليس منا من تَطير أو تُطير له، أو تَكهن أو تُكهن له، أو سَحر أو سُحر له)) رواه الطبراني بسند حسن.
وعدّ المصطفى السحر من السبع الموبقات أي: المهلكات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ))، قالوا: يا رسول اللَّه، وما هن؟ قال: ((الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاتِ)).
أيها المؤمنون، إن الذين يقصدون السحرة قوم ضعف إيمانهم بالله، وضعف توكلهم على الله، هم بإتيانهم للسحرة قد اشتروا الغضب والخسران بالرضا والغفران، واستحقوا الوعيد والتهديد، روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي : ((من أتى عرافًا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يومًا، فإن صدقه فقد كفر بما أنزل على محمد))، وعن أبي هريرة عن النبي قال: ((من أتى كاهنًا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ))، وفي الحديث: ((لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مؤمن بسحر، ولا قاطع رحم)) حسنه الألباني.
إخوة الإيمان، في عمل السحر وإتيان السحرة جمعٌ بين الكفر بالله والإضرار بالناس والإفساد في الأرض، فالسحرة يعملون للإفساد والفساد مُقابل مبالغ يتقاضونها من ضعاف النفوس وعديمي الضمائر، الذين امتلأت قلوبهم حسدا وحنقا وغيظا على إخوانهم المسلمين، لا يبالون بإخوانهم الذين يُعانون آثار السحر الوخيمة، فلا براحةٍ يهنؤون، ولا باستقرار يسعدون، ضيق وشدة وحزن وكدر يجدونه، خلافات وشقاق ونزاع وقتال يحصل بين الأسرة الواحدة والبيت الواحد.
ألا فليتق الله هؤلاء الذين يقصدون السحرة ليفسدوا في الأرض، ألا يخافون سخطَ الله ونقمته؟! ألا يخشون عاقِبة إيذاء المؤمنين الآمنين والمؤمنات العفيفات؟! يقول الله عز في علاه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب: 58]، وعن ابن عمر قال: صعد رسول الله المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: ((يا معشر من قد أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمانُ إلى قلبِه، لا تُؤذُوا المسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يَفْضَحْهُ ولو في جوف رحله)) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
أيها الإخوة المؤمنون، إننا اليوم في زمنٍ كثر فيه هؤلاء الأدعياء الدجاجلة من السحرة والمشعوذين، ووجدوا لهم مكانًا وعزًا وانتشارًا، فهذه بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية تجعل من برامجها ما تبث من خلالها أعمال السحرة والمشعوذين والدجالين، بل قنوات تفتح من أجل الترويج للسحر والسحرة؛ فتراهم يأتون الناس من باب العلاج الشعبي والتداوي والتطبيب، أو من باب التأليف والمحبة بين الزوجين، أو من باب سداد ديون المديونين، وهم في الحقيقة يحملون السم الزعاف والشر المستطير، فهم الذين يفرقون ويفسدون، ويزرعون الفتن ويخلقون الشرور، بل حدا ببعضهم أن يعملوا السحر بالأولاد والفتيات من أجل فعل فاحشة اللواط والزنا بالمسحورين. من هنا ـ أيها الإخوة ـ يأتي الواجب العظيم في القضاء على هذه الفئة الكافرة؛ لما تُمثله من خطر على الأمة وإخلال بأمن المجتمع وإفساد لعقائد الناس واستهانة بعقولهم وابتزاز لأموالهم.
ومن أعمال السحر ما يسمى بالعلم بالنجوم وتأثيراتها النفسية، والتنبؤ عن طريقها بالمستقبل. عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه : ((مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنْ النُّجُومِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) حسنه الألباني. ومن ذلك التعلق بالنجوم والمطالع والأبراج والكواكب، والتنبؤ من خلاله بالمستقبل، فمن وُلِدَ في برج كذا فهو السعيد في حياته، وسيحصل على ما يريد من مال أو جاهٍ أو حظوظ، ومن وُلِدَ في برج كذا فهو التعيس المنحوس، وسيحصل له كذا وكذا من الشرور والبلايا. اللهم إنا نسألك السلامة في الدين وصحة الاعتقاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
|