الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وبعد: عباد الله، أنتم في شهر الله المحرم، أحد الأشهر الأربعة الحرم، وهذا الشهر فيه من الفضائل ما ليس في غيره، ومن ذلك فضل الصيام فيه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله: ((أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل)).
ومن خصائص هذا الشهر أن فيه فضيلة صيام عاشوراء، وهو العاشر من المحرم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان عاشوراء يومًا تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي يصومه، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما نزلت فريضة شهر رمضان كان رمضان هو الذي يصومه، فترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء أفطره.
ولقد كان الرسول يتحرى ذلك اليوم، فعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلاّ هَذَا الْيَوْمَ: يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ. ومعنى (يتحرى) أي: يقصد صومَه لتحصيل ثوابه والرغبة فيه.
ولصيام هذا اليوم المبارك فضل عظيم، كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي : ((صيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يُكفّر السنة التي قبله)) رواه أحمد ومسلم. وهذا من فضل الله علينا أن أعطانا بصيام يوم واحد تكفير ذنوب سنة كاملة، والله ذو الفضل العظيم.
وروى عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: حِينَ صَامَ رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((فَإِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ صُمْنَا الْيَوْمَ التَّاسِع))، قَالَ: فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ . رواه مسلم.
ويجوز صيام عاشوراء وحده ويحصل به تكفير الذنوب بإذن الله، لكن الأفضل صيام يوم قبله، قال الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم: يستحب صوم التاسع والعاشر جميعا; لأنه صام العاشر ونوى صيام التاسع، أما صيام يوم بعده فلم يثبت عن النبي فيه شيء، لكن من فاته صيام يوم التاسع وصام الحادي عشر جاز له ذلك، أو من صامه على أنه من النفلِ المطلق أيضا جاز له ذلك.
ويوم عاشوراء يوافق يوم الاثنين القادم بناء على الرؤية الشرعية.
تزود من الدنيـا فإنـك لا تدري إذا جنّ عليك الليل هل تعيش إلَى الفجر
فكم من فتى يمسي ويصبح لاهيًـا وقد نسجـت أكفانـه وهو لا يـدري
وكم ساكن عند الصبـاح بقصره وعند المسـاء قد كان مـن ساكني القبر
وهناك من خصَّ يوم عاشوراء ببعض البدع، ومنها تخصيص ليلة عاشوراء أو يومها بقيام معيّن أو الاجتماع للصلاة أو اغتسال أو اكتحال أو التطيّب أو المصافحة، وبعض النّاس يتّخذه عيدا يحتفل به، وهذا لا يجوز، وبعضهم يتّخذه مأتما وعويلا ونياحة ولطما للصدور وضربا بالسيف على الرؤوس وإسالة للدماء ووضعا للسلاسل في الأعناق، وهذه بدعة قبيحة محرّمة ليست من الإسلام في شيء، والإسلام بريء منها وممّن ابتدعها، والله أرحم بعباده من أن يأمرهم بتعذيبِ أنفسهم بمثل هذه الأفعال الشّنيعة القبيحة، نسأل الله السّلامة والعافية.
على المسلم أن لا يتّكل على صيام هذا اليوم مع مقارفَته للكبائر؛ إذ الواجب التوبة من جميع الذنوب، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وكاغترار بعضهم بصوم يوم عاشوراء أو يوم عرفة حتى يقول بعضهم: يوم عاشوراء يكفر ذنوب العام كلها، ويبقى صوم عرفة زيادة في الأجر، ولم يدر هذا المغترّ أن صومَ رمضان والصلوات الخمس أعظم وأجلّ من صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء، وهي إنما تكفر ما بينهما إذا اجتنبت الكبائر"، ولتكن عبادتنا ـ عباد الله ـ كما يحبّ ربنا ويرضى ووفق سنة نبيه المصطفى .
نسأل الله أن يهدينا سبل السّلام، وأن يرزقنا العمل بما يُرضيه، وأن يُعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم وفقنا لكل خير واصرف عنا كل شر، اللهم وفقنا لفعل الخيرات وترك المنكرات وأن تغفر لنا وترحمنا.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وانصر عبادك الموحدين...
|