ثم أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أنفاسَكم معدودة وأعماركم محدودة، وعما قريبٍ تقدمون على ربكم، فما تخشَون أن تلقوا به ربكم غدًا فدَعُوه اليوم، وما تحبون أن تلقوا به ربكم فاستعجلوه أن تُقتطعوا دونه.
عباد الله، روى البخاري ومسلم عليهما رحمة الله عن عمرو بن عوف رضي الله عنه قال: قدم أبو عبيدة بمالٍ من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله ، فلما صلى رسول الله انصرف فتعرّضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم ثم قال: ((أظنُّكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين))، فقالوا: أجل يا رسول الله، قال: ((فأبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم؛ فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تُبسَط الدنيا عليكم كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم)).
عباد الله، إنّ من ينظر في سوق الأسهم وما يعتَلج فيه من تهافتٍ على الدنيا وانشغالٍ بها وتقحُّم للحرام وجُرأةٍ على المتشابه وتقصيرٍ في الواجبات ثم يقرأ هذا الحديث لا يملك إلا أن يتذكر قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3، 4].
إخوة الإيمان، إن قوله : ((وتُهلِكَكُم كما أهلكتهم)) يتضمن أنواعًا من الإهلاك رأيناها بأَعيُننا وسمعناها بآذاننا في هذا السوق.
فمن إهلاك الدنيا لأصحابها طلبُها من الحرام كالربا والقمار والميسر ونحوها، وإنَّ الله سبحانه وتعالى لم يحرم شيئًا من المكاسب كما حرّم الربا، فقد حرمه سبحانه وتعالى، وأخبر أن آكِلَه لا يقوم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع الذي به مسٌ من الجن، قال سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 275]، بل إن الله سبحانه وتعالى جعل أكل الربا حربًا له ولرسوله ، قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ.[البقرة: 278، 279]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ أي: استيقنوا بحرب من الله ورسوله)، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب)، ثم قرأ: فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((اجتنبوا السبع الموبقات))، قيل: يا رسول الله، وما هن؟ قال: ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات))، والموبقات هي الذنوب المهلكات.
عباد الله، لا يخفى على أحد أن كثيرًا من الشركات التي تُتَداول أسهمُها في السوق تستثمِر بالربا، فأي إهلاك أعظم من الاتّجار بأسهم شركات الربا؛ فيأكله المسلم ويؤكله أهله، فتنبت على السحت لحومهم، وتحجب عن السماء دعواتهم، ويستوجبون غضب الله ولعنته وحربه وعذابه؟!
إخوة الإيمان، ومن إهلاك الدنيا لعُبَّادها أن تجرّئَهم على المتشابه وكأنه أطيب الحلال، وفي الصحيحين عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله يقول: ((ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)).
لقد قسَّم أهل العلم شركات المساهمة التي يتداولها الناس إلى ثلاثة أقسام: نقية في الجملة، ومحرمة، ومختلَطة، فالشركات المختلَطة هي التي تستثمر في الربا بنسبة قليلة، وهي من المتشابه الذي أمر رسول الله باجتنابه بقوله عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
عباد الله، إن الشبهة في الشركات المختلطة قوية، فهي تعمل بيقين في الربا، والربا من الشناعة كما قد سمعتم، حتى إن مجمع الفقه الإسلامي الذي يضمّ عشرات العلماء من أنحاء العالم الإسلامي قد عقد عدة دورات ومع ذلك لم يخرج فيها برأيٍ لقوةِ شبهتها وخطورة أمرها. ومع ذلك تجد بعض المستثمرين في سوق الأسهم يتقحّمها لا يلوي على شيء، وكأنه يستثمر أمواله في لبن أو عسل. فأي إهلاك أعظم بعد الربا من أن يقع المسلم في المتشابه على أُم رأسه ثم هو لا يحس بحرج ولا تأثم؟!
عباد الله، ومن إهلاك الدنيا لعُبَّادها اتباع الهوى وما تشتهيه الأنفس من فتاوى أهل العلم، فكثير من المستثمرين في سوق الأسهم له في كل شركة شيخ، وفي كل مسألة مفتي، فمن وافق هواه من أهل العلم فهو المعروف بالعلم والورع، والمعروف بالعلم والورع اليوم جاهل غدًا، لأنه خالف الهوى، ويكفي كثيرًا من الناس أن يكون في المسألة خلاف، وكأن خلاف أهل العلم تخييرٌ للعوام، وبعض الناس لا يقول: ما حكم كذا؟ وإنما يقول: هل قال بالجواز أحد؟
إخوة الإيمان، إن الله عز وجل يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل: 43]. ومن لم يكن عنده علمٌ يستطيع به النظر في الأدلة والترجيح بين الأقوال فليس عنده علم يعلم به المصيب من المفتين، فلم يبق إلا أن يُقلِّد من يثق بعمله وورعه، فإن لم يكن له علم بهم استعان بعد الله ببعض أهل العلم في معرفة من يقلِّد، ثم يلزم قوله، ويجعله حجة بينه وبين الله.
عباد الله، أيُّ هلاكٍ وضلالٍ أعظم من اتباع الهوى بغير هدى من الله؟! قال الله سبحانه وتعالى: فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص: 50]، وقال سبحانه: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [الجاثية: 23].
اللهم اهدنا وحبب الهدى لنا، اللهم نور بصائرنا وأصلح قلوبنا، اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شرور أنفسنا، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك إنك أنت الغفور الرحيم.
|