أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ حق التقوى، فالأعمار تطوى، والأجيال تفنى، فاتقوا الله وأحسنوا إن الله يحب المحسنين.
أيها المؤمنون، في هذه الدنيا مصائب ورزايا ومحن وبلايا، الآمٌ تضيق بها النفوس، ومزعجاتٌ تورث الخوف والجزع، فكم ترى من شاكٍ، وكم تسمع من لوّام، هذه هي حقيقة الدنيا في ابتلائها؛ تُضحِك وتُبكي، وتجمع وتشتت، شدةٌ ورخاء، وسراء وضراء، ودار غرور لمن اغتر بها، وموطن عبرةٍ لمن اعتبر بها.
ومن ذلك ـ يا عباد الله ـ ما مرّ على العالم في الأيام الماضية، حدثٌ عظيم يتعلق بهذا الكون الذي من حولنا، ألا وهو الزلزال العظيم الذي أصاب شرق آسيا؛ فخلّف آلافًا من الضحايا والمشردين، وقد سمعتم بل وربما شاهدتم عبر وسائل الإعلام بعض آثار الزلزال الذي ضرب تركيا، فأهلك عشرات الآلاف من البشر، فاللهم لا شماتة، والمسلم عندما تمرُّ عليه مثل هذه الأحداث العظيمة وغيرها المتعلقة بالكون من حوله ينبغي أن تكون له وقفة تأمل واعتبار، ولنا مع هذه الأحداث وقفات:
فأولاً: أيها المسلمون، إن هذا الحادث هو تذكيرٌ للعباد بعظمة الله وقدرته، وأن الله تعالى هو القادر على كل شيء، المالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، إنه الله جل جلاله، إنه الملاذ في الشدة، والأنيس في الوحشة، والنصير في القلة، إنه الله جل جلاله، سلوة الطائعين، وملاذ الهاربين، وملجأ الخائفين.
إليه وإلاّ لا تُشدّ الركائبُ ومنه وإلاّ فالمؤمِّل خـائبُ
وفيـه وإلاّ فالغرام مضيّعٌ وعنه وإلاّ فالمُحدِّث كاذبُ
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، كما قال سبحانه عن نفسه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ [الرحمن: 29]، يغفر ذنبًا، ويفرّج كَربًا، ويرفع قومًا، ويضع آخرين، يُحيي ميتًا، ويُميت حيًا، ويُجيب داعيًا، ويشفي سقيمًا، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، يجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويعلّم جاهلاً، ويهدي ضالاً، ويرشد حيرانًا، ويغيث لهفانًا، ويفك عانيًا، ويُشبع جائعًا، ويكسو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويعافي مبتلى، ويقبل تائبًا، ويجزي محسنًا، وينصر مظلومًا، ويقصم جبارًا، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويؤمن روعةً.
إنه الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، خلق فسوى، وقدّر فهدى، وأخرج المرعى، فجعله غثاءً أحوى، السماءَ بناها، والجبالَ أرساها، والأرضَ دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، يبسط الرزق، ويُغدق العطاء، ويرسل النعم.
إنه الله جل جلاله، أغرق فرعون وقومه. إنه الله جل جلاله، أرغم أُنوف الطغاة، وخفض رؤوس الظلمة، ومزَّق شمل الجبابرة، ودمّر سد مأرب بفأرة، وأهلك النمرود ببعوضة، وهزم أبرهة بطيرٍ أبابيل، عذَّب امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، وغفر لامرأة بغيٍّ لأنها سقت كلبًا كاد يموت من العطش.
أيها المسلمون، إنه الله جل جلاله، من تقرب إليه شبرًا تقرب إليه ذراعًا، ومن تقرب إليه ذراعًا تقرب إليه باعًا، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة، فالباب مفتوح ولكن من يلج؟ والمجال مفسوح ولكن من يُقبل؟ والحبل ممدود ولكن من يتشبث به؟ والخير مبذول ولكن من يتعرض له؟ فأين الباحثون عن الأرباح؟! وأين خُطّاب الملاح؟! أين عشّاق العرائس وطلاّب النفائس؟!
الوقفة الثانية:
أن هذه الزلازل لا شك عندنا ـ نحن المسلمين ـ أنها عقوبات ربانية من الله على ما يرتكبه العباد من الكفر والفسوق والعصيان، كما قال بعض السلف لما زُلزِلت الأرض: "إن ربكم يستعتبكم". ولما وقع زلزالٌ بالمدينة في عهد عمر بن الخطاب قام فيهم خطيبًا ووعظهم وقال: (لئن عادت لا أُساكنكم فيها)؛ لعلم عمر بأن ما حصل ما هو إلا بسبب ذنوب الناس، وأنَّ هذا تهديد وعقوبة من الله عز وجل.
إن الذنوب والمعاصي ـ يا عباد الله ـ سبب لكل بلاءٍ وشر ومحنة؛ فبالمعصية تبدّل إبليس بالإيمان كفرًا، وبالقُرب بُعدًا، وبالرحمة لعنة، وبالجنة نارًا تلظى، وبالمعصية عمّ قوم نوحٍ الغرق، وأُهلكت عادٌ بالريح العقيم، وأُخذت ثمود بالصيحة، وقُلِبت على اللوطية ديارهم، فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
أيها المسلمون، إن للمعاصي شؤمها، ولها عواقبها في النفس والأهل، في البر والجو، تضلّ بها الأهواء، وتفسد بها الأجواء، بالمعاصي يهون العبد على ربه، فيرفع مهابته من قلوب خلقه، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج: 18]. قال الحسن رحمه الله: "هانوا عليه فعَصَوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم".
بسبب الذنوب والآثام والمعاصي والإجرام يكون الهم والحزن والذل والهوان، بالمعاصي تزول النعم، وتحل النقم، وتتحول العافية، ويُستجلب سخط الجبار.
إذا كنت فِي نعمة فارعهـا فإن المعاصي تُزيل النعـم
وحطها بطاعة رب العبـاد فرب العباد سريع النقـم
وإياك والظلمَ مهما استطعت فظلم العباد شديـد الوخم
وسافر بقلبـك بيْن الورى لتبصر آثار من قد ظلـم
إن آثار الذنوب والمعاصي كثيرة، ولقد عد الكثيرَ منها ابن القيم في كتابه القيّم "الداء والدواء"، فليُرجع له فهو مفيد في بابه.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بما فيهما من الهدي والبيان، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات، إن ربي قريب مجيب.
|