.

اليوم م الموافق ‏10/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

لا تغضب

3504

الرقاق والأخلاق والآداب

مساوئ الأخلاق

ناصر بن محمد الأحمد

الخبر

24/11/1427

النور

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أسباب الغضب. 2- أنواع الغضب. 3- من الأدوية الشرعية لعلاج داء الغضب. 4- صور من هدي السلف عند الغضب.

الخطبة الأولى

أما بعد: أيها المسلمون، الغضب عدو العقل، وهو له كالذئب للشاة، قلَّما يتمكن منه إلا اغتاله، والغضب من الصفات التي ندر أن يسلم منها أحد، بل تركه بالكلية صفة نقص لا كمال، والغضب ينسي الحرمات ويدفن الحسنات ويخلق للبريء جنايات، وقد قيل:

وعين الرضا عن كل عيـب كليلة       ولكن عين السخط تبدي المساويا

وكما قيل:

وعين البغض تبرز كل عيب     وعين الحب لا تجد العيوبا

أيها المسلمون، للغضب أسباب كثيرة جدًا، والناس متفاوتون فيها، فمنهم مَن يَغضب لأمر تافه لا يُغضِب غيره، ومنهم من لا يغضب إلا لأمر عظيم، وهكذا، فمِن أسباب الغضب:

أولاً: العُجْب، فالعُجْب بالرأي والمكانة والنسب والمال سبب للعداوة، فالعُجب قرين الكِبْر وملازم له، والكِبْر من كبائر الذنوب، فقد قال النبي : ((لا يدخل الجنة مَن في قلبه مثقال ذرة من كِبر)).

ثانيًا: المِِراء، قال عبد الله بن الحسين: "المراء رائد الغضب، فأخزى الله عقلاً يأتيك بالغضب". وللمِراء آفات كثيرة منها الغضب، ولهذا فقد نهى الشارع عنه، قال النبي : ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا)).

ثالثًا: من أسباب الغضب المِزاح، إن المزاح بدؤه حلاوة لكنما آخره عداوة، يحتدّ منه الرجل الشريف، ويجتري بسخفه السخيف، فتجد بعض المكثرين من المزاح يتجاوز الحد المشروع منه؛ إما بكلام لا فائدة منه، أو بفعل مؤذ قد ينتج عنه ضرر بالغ، ثم يزعم بعد ذلك أنه كان يمزح؛ لذا قال النبي : ((لا يأخذن أحدكم متاع صاحبه جادًا ولا لاعبًا)).

قال الشاعر:

مـازح صديقك ما أحبَّ مزاحـا       وتوقَّ منه في المزاح مزاحـا

فلربَّمـا مزح الصديـق بمزحـة        كانت لباب عداوة مفتاحـا

ذُكِر لخالد بن صفوان المزاح فقال: "يَصُكُّ أحدكم صاحبَه بأشد من الجندل، ويُنشقه أحرَق من الخردل، ويُفرغ عليه أحرَّ من المِرجل، ثم يقول: إنما كنت أمازحك!". وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "إياك والمزاح؛ فإنّه يجرّ القبيح ويورث الضغينة". وقال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: "إذا كان المزاح أمامَ الكلام كان آخره اللّطم والشتام".

رابعًا: بذاءة اللسان وفحشه، بشتم أو سب أو تعيير مما يوغل الصدور ويثير الغضب، وقد قال النبي : ((إن الله يبغض الفاحش البذيء)).

أيها المسلمون، الغضب أنواع:

الأول: الغضب المحمود، وهو ما كان لله تعالى عندما تنتهك محارمه، وهذا النوع ثمرة من ثمرات الإيمان، إذ إن الذي لا يغضب في هذا المحل ضعيف الإيمان، قال الله تعالى عن موسى عليه السلام بعد عِلمه باتخاذ قومه العجل: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين.

أما غضب النبي فلا يُعرف إلا أن تنتهك محارم الله تعالى، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما ضرب رسول الله شيئًا قط بيده ولا امرأة ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن يُنتهَك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل.

ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله على أصحابه وهم يختصمون في القدر، فكأنما يُفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، فقال: ((بهذا أمرتم؟! أو لهذا خلقتم؟! تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم))، فقال عبد الله بن عمرو: ما غبطت نفسي بمجلس تخلفت فيه عن رسول الله ما غبطت نفسي بذلك المجلس وتخلفي عنه.

وما أكثر ما تنتهك محارم الله تعالى في هذا الزمان علنًا وسرًا، فكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة لا همَّ لها سوى نشر الرذيلة ومحاربة الفضيلة وإشاعة الفاحشة وبث الشبهات وتزيين المنكر وإنكار المعروف والاستهزاء بالدين وشعائره، فهذا كله مما يوجب الغضب لله تعالى، وهو من الغضب المحمود وعلامة على قوة الإيمان، وهو ثمرة لحفظ الأوطان وسلامة الأبدان، وتظهر ثمرة الغضب هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرد على الشبهات.

أما السكوت المطبق مع القدرة على التغيير فسبب للهلاك، فعن زينب بنت جحش رضي الله عنها أن النبي استيقظ من نومه وهو يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه)) وحلَّق بأصبعه وبالتي تليها، قلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: ((نعم؛ إذا كثر الخبث)).

وكذلك من الغضب المحمود الغضب لما يحدث للمسلمين من سفك للدماء وانتهاك للأعراض واستباحة للأموال وتدمير للبلدان بلا حق، وفي مقدمة ذلك في هذه الأيام ما يحصل للمسلمين في فلسطين على أيدي اليهود الغاصبين، وما يحصل للسنة في العراق على أيدي التعاون المشترك بين الصليبيين والصفويين العلاقمة، فإنه أمر أصبح مكشوفًا لكل أحد، بل تصريحاتهم الجريئة المعلنة تثبت ذلك والله المستعان. ولا شك أن غضب المسلم لهذا الأمر من الغضب المحمود، بل من الغضب الواجب نصرة لإخوانه المستضعفين هناك.

الثاني: الغضب المذموم، وهو ما كان في سبيل الباطل والشيطان، كالحميَّة الجاهلية والغضب بسبب تطبيق الأحكام الشرعية وانتشار حِلَق تحفيظ القرآن الكريم ومعاداة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بسبب محاربتهم للرذيلة، وكذا الدفاع عن المنكرات كالتبرج والسفور وسفر المرأة بلا محرم، ويظهر ذلك جليًا في كتابة بعض كُتَّاب الصحف، فتجد أحدهم يغضب بسبب ذلك، ولا همَّ له سوى مسايرة العصر، سواء وافق الشرع المطهر أو خالفه، فالحق عندهم ما وافق هواهم، والباطل ما حدَّ من مبتغاهم، قال الله تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين وَإذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُون وَإن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِين أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُون.

الثالث: الغضب المباح، وهو الغضب في غير معصية الله تعالى دون أن يتجاوز حدَّه؛ كأن يجهل عليه أحد، وكظمه هنا خير وأبقى، قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين.

ومما يُذكر هنا أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء، فتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجه، فرفع علي بن الحسين رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله عز وجل يقول: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظ، فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس، فقال لها: قد عفا الله عنك، قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين، قال: اذهبي فأنت حرة.

وقال نوح بن حبيب: كنت عند ابن المبارك فألحّوا عليه، فقال: هاتوا كتبكم حتى أقرأ، فجعلوا يرمون إليه الكتب من قريب ومن بعيد، وكان رجل من أهل الري يسمع كتاب الاستئذان، فرمى بكتابه فأصاب صلعةَ ابن المبارك حرفُ كتابه فانشق وسال الدم، فجعل ابن المبارك يعالج الدم حتى سكن، ثم قال: سبحان الله! كاد أن يكون قتال، ثم بدأ بكتاب الرجل فقرأه.

أيها المسلمون، يحتاج المسلم أن يعالج الغضب في نفسه، وما أنزل الله داءً إلا وأنزل له شفاء، فمن الأدوية الشرعية لعلاج داء الغضب:

أولاً: الاستعاذة بالله من الشيطان، قال تعالى: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم. عن سليمان بن صرد قال: كنت جالسًا مع النبي ورجلان يستبان، فأحدهما احمرَّ وجهه وانتفخت أوداجه، فقال النبي : ((إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان، ذهب عنه ما يجد))، فقالوا له: إن النبي قال: ((تعوَّذْ بالله من الشيطان))، فقال: وهل بي جنون؟!

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأما الغضب فهو غول العقل، يغتاله كما يغتال الذئب الشاة، وأعظم ما يفترسه الشيطان عند غضبه وشهوته".

ثانيًا: تغيير الحال، فعن أبي ذر أن رسول الله قال: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)).

ثالثًا: ترك المخاصمة ولزومُ السكوت، قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "ومن الأمور النافعة أن تعلم أن أذية الناس لك ـ وخصوصًا في الأقوال السيئة ـ لا تضرك بل تضرهم، إلا إن أشغلت نفسك في الاهتمام بها وسوغت لها أن تملك مشاعرك، فعند ذلك تضرك كما ضرتهم، فإن أنت لم تصنع لها بالاً لم تضرك شيئا".

يخاطبني السفيه بكل قبح        فأكره أن أكون له مُجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلمًا        كعود زادَه الإحراق طيبا

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي أنه قال: ((علِّموا وبشِّروا ولا تعسروا، وإذا غضب أحدكم فليسكت)).

إذا نطق السفيـه فلا تجبه      فخيْرٌ من إجابته السكـوتُ

سكتُّ عن السفيه فظن أني     عييتُ عن الجواب وما عييتُ

شرار الناس لو كانوا جميعًا      قذى في جوف عيني ما قذيتُ

فلستُ مُجاوبًا أبدًا سفيهًا      خزيتُ لمن يُجافيـه خزيـتُ

رابعًا: الوضوء، فقد روِيَ عن عطية السعدي قال: قال رسول الله : ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تُطْفَأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)).

خامسًا: استحضار الأجر العظيم لكظم الغيظ، فمن استحضَر الثوابَ الكبير الذي أعدَّه الله تعالى لمن كتم غيظه وغضبه كان سببًا في ترك الغضب والانتقام للذات.

وبتتبع بعض الأدلة من الكتاب والسنة نجد جملة من الفضائل لمن ترك الغضب، منها الظفر بمحبة الله تعالى والفوز بما عنده، قال تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين. ومرتبة الإحسان هي أعلى مراتب الدين، وقال تعالى: فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهمْ يَتَوَكَّلونَ وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُون.

وأيضًا ترك الغضب سبب لدخول الجنة، عن أبي الدرداء قال: قلت: يا رسول الله، دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: ((لا تغضب ولك الجنة)). وأيضًا المباهاة به على رؤوس الخلائق، عن أنس أن النبي قال: ((مَن كظم غيظًا وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيِّره في أي الحور شاء)). وأيضًا من فضائل ترك الغضب النجاة من غضب الله تعالى، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قلت: يا رسول الله، ما يمنعني من غضب الله؟ قال: ((لا تغضب))، فالجزاء من جنس العمل، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله تعالى خيرًا منه. وقال أبو مسعود البدري : كنت أضرب غلامًا لي بالسوط فسمعت صوتًا من خلفي: ((اعلَم أبا مسعود))، فلم أفهم الصوت من الغضب، قال: فلما دنا مني إذا هو رسول الله ، فإذا هو يقول: ((اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود،)) قال: فألقيت السوط من يدي، فقال: ((اعلم ـ أبا مسعود ـ أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام))، قال: فقلت: لا أضرب مملوكًا بعده أبدًا.

ومن الفضائل أيضًا زيادة الإيمان، قال النبي : ((وما من جرعة أحب إليَّ من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيمانًا)). ومن أعظم فضائل ترك الغضب العمل بوصية رسول الله ، فعن أبي هريرة أن رجلاً قال للنبي : أوصني، قال: ((لا تغضب))، فردد مرارًا قال: ((لا تغضب)). وهنيئًا لمن امتثل هذه الوصية وعمل بها، ولا شك أنها وصية جامعة مانعة لجميع المسلمين. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى: "هذا الرجل ظن أنها وصية بأمر جزئي، وهو يريد أن يوصيه النبي بكلام كلي، ولهذا ردد، فلما أعاد عليه النبي عرف أن هذا كلام جامع، وهو كذلك؛ فإن قوله: ((لا تغضب)) يتضمن أمرين عظيمين:

أحدهما: الأمر بفعل الأسباب والتمرن على حسن الخلق والحلم والصبر، وتوطين النفس على ما يصيب الإنسان من الخَلْق من الأذى القولي والفعلي، فإذا وفق لها العبد وورد عليه وارد الغضب احتمله بحسن خلقه، وتلقَّاه بحلمه وصبره، ومعرفته بحسن عواقبه، فإن الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به، والنهي عن الشيء أمر بضده وأمر بفعل الأسباب التي تعين العبد على اجتناب المنهي عنه، وهذا منه.

الثاني: الأمر بعد الغضب أن لا ينفذ غضبه، فإن الغضب غالبًا لا يتمكن الإنسان من دفعه ورده، ولكنه يتمكن من عدم تنفيذه، فعليه إذا غضب أن يمنع نفسه من الأقوال والأفعال المحرمة التي يقتضيها الغضب، فمتى منع نفسه من فعل آثار الغضب الضارة فكأنه في الحقيقة لم يغضب، وبهذا يكون العبد كامل القوة العقلية والقوة القلبية".

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه...

 

الخطبة الثانية

أما بعد: أيها المسلمون، قال الشاعر:

ولم أرَ فِي الأعداء حيـن اختبرتهم        عدوًا لعقل المرء أعدى من الغضب

كثيرًا ما نسمع أن والدًا قتل ولده أو ولدًا قتل والده ـ فضلاً عن غيرهم ـ بسبب الغضب، وكم ضاع من خير وأجر وفضل بسبب الغضب، وكم حلت من مصيبة ودمار وهلاك بسبب الغضب، وبسبب ساعة غضب قطعت الأرحام ووقع الطلاق وتهاجر الجيران وتعادى الإخوان. عن وائل قال: إني لقاعد مع النبي إذ جاء رجل يقود آخر بنسعة، فقال: يا رسول الله، هذا قتل أخي، فقال رسول الله : ((أقتلته؟)) فقال: ((إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة))، قال: نعم قتلته، قال: ((كيف قتلته؟)) قال: كنت أنا وهو نحتطب من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "إذا اقتدحت نار الانتقام من نار الغضب ابتدأت بإحراق القادح، أَوْثِقْ غضبك بسلسلة الحلم، فإنه كلب إن أُفلت أَتلف".

فكثيرُ الغضب تجده مصابًا بأمراض كثيرة، كالسكري والضغط والقولون العصبي وغيرها مما يعرفها أهل الاختصاص، كما أنه بسببه تصدر من الغاضب تصرفات قولية أو فعلية يندم عليها بعد ذهاب الغضب. ولو استحضر كل واحد منا قبل أن يُنفذ غضبه الحاضر ثمرةَ غضبٍ سابقٍ ندم عليه بعد إنفاذه لما أقدم على ما تمليه عليه نفسه الأمارة بالسوء مرة ثانية، فمنع الغضب أسهل من إصلاح ما يفسده.

أيها المسلمون، إليكم بعض الصور من هدي السلف عند الغضب:

سب رجلٌ ابنَ عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال: يا عكرمُن، هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى. وقال أبو ذر لغلامه: لِمَ أرسلتَ الشاةَ على علف الفرس؟ قال: أردت أن أغيظك، قال: لأجمعن مع الغيظ أجرًا، أنت حرّ لوجه الله تعالى. وأسمعَ رجلٌ أبا الدرداء كلامًا فقال: يا هذا، لا تغرقن في سبّنا ودع للصلح موضعًا، فإنَّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه. وقال الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى لابنه: يا بنيَّ، إذا أردت أن تواخي رجلاً فأغضبه؛ فإن أنصفك وإلا فاحذره.

وأختم بما رواه عطاء بن السائب عن أبيه قال: صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها، فقال له بعض القوم: لقد خفّفت أو أوجزت الصلاة، فقال: أما على ذلك، فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول الله ، فلما قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم: ((اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمتَ الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمتَ الوفاة خيرًا لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضاء بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين".

اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحينا ما علمتَ الحياة خيرًا لنا، وتوفنا إذا علمتَ الوفاة خيرًا لنا. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضاء بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً