عباد الله، اثنان إذا صلحا صلحت الأمة، وإذا فسدا فسدت الأمة: العلماء والأمراء، العالم ينصح ويرشد ويبين ويعلّم، والحاكم ينفّذ ويطبق، فإذا نافق العالم استبدّ الحاكم، وإذا ما استبد الحاكم ضاعت البلاد والعباد وانهارت الأخلاق وضاعت الأرزاق.
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن العالم العامل من صفاته أن يخشى الله وحده وأن يكون طاهرا نزيها، وخشية الله أن لا يخاف المسلم إلا خالقه، فغير الله لا يضر ولا ينفع، ولا يخفض ولا يرفع، لأن الملك كلّه لله، ولا يحدث فيه شيء إلا بأمر الله. فمن خاف الله وحده خوّف الله منه جميع خلقه، ومن لم يخف الله خوّفه الله من جميع خلقه. ويوم كان العلماء لا يخافون إلا الله انتظمت مواكب الحياة، ويوم خاف العلماء على مصالحهم ومناصبهم ارتبكت مسالك الحياة، وأصبح الصدق كذبا والكذب صدقا، أصبحت الأمانة خيانة، والخيانة أمانة.
فتعالوا ـ أيها المؤمنون ـ نعِش وإياكم مع علَم من أعلام الأمة الذين نصر الله بهم الدين وأعلى بهم شأن المسلمين، إنه الإمام حقا وشيخ الإسلام صدقا، إنه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، لقد امتحن في حياته وابتلي وزلزل زلزالا شديدا، فصبر وبقي على دينه وعقيدته، ففاز في الدنيا والآخرة.
لقد رأى الرسول وقال له: يا أحمد، إنك ستُبتَلى فاصبر، يرفع الله لك علما إلى يوم القيامة. وابتليَ الإمام بفتنة القول بخلق القرآن، وجلد وسجن وبقي عالي الهمة، لم يتراجع عن موقفه الثابت على الحق مهما كلف الثمن، ومن هنا قال أهل العلم: لقد نصر الله هذا الدين برجلين: بأبي بكر يوم الردة، وبأحمد يوم المحنة.
لقد جلد الإمام أحمد على موقفه الإيماني، لم يجلد لأنه شرب الخمر أو ارتكب جريمة الزنا أو تجسَّس على المسلمين أو سرق أموال الأمة أو ضحى بالمسلمين من أجل أعداء الأمة، إذن فلم جلد الإمام؟ إنه الظلم، والظالم لا يفرق بين العلماء والجهلاء، وتذكروا دائما أن الظالم لا يقبل كلمة الحق، ولا يرضى بالطريق المستقيم. جلد الإمام رضي الله عنه وكان يقول: رحم الله الأولين، كانوا توضع المناشير على أجسامهم فلا يتأوهون!
عباد الله، انظروا إلى هذا المشهد الرباني، لما ضرب الإمام في الأول قال: بسم الله، فلما ضرب الثاني قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما ضرب الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلما ضرب الرابع قال: قُلْ لَن يُّصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ، فلما ضرب الخامس قال: يا أمير المؤمنين، اذكر الوقوف بين يدي الله كوقوفي بين يديك لا تستطيع منعًا، ولا عن نفسك دفعا، فلما ضرب السادس اضطرب المئزر في وسطه، فرفع الإمام رأسه إلى السماء وحرك شفتيه، فما استتمّ الدعاء حتى رأينا كفّا قد خرج من تحت مئزره، فرد المئزر إلى وضعه بقدرة الله تعالى.
عباد الله، وسئل الإمام: ماذا قال عندما اضطرب المئزر؟ فقال: قلت: اللهم إني أسألك باسمك الذي حملت به العرش إن كنت تعلم أني على الصواب فلا تهتك لي سترا. وذكر تلامذة الإمام أنهم سألوه: عندما جلدت كنت تبتسم! وكنا نبكي من حولك، فأجاب بقوله: إنكم تبكون لأنكم ترون يدَ الجلاد، أما أنا فقد كنت أضحك لأنني كنت أرى يد ربّ العباد. سبحان الله! قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَّسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ .
عباد الله، إن السجن هو سجن النفوس لا سجن الأجسام، لقد صبر الإمام أحمد على محنته وعاش حميدا وأفضى إلى الله على نور وهدى.
عباد الله، ورئي الإمام أحمد بعد وفاته في النوم وعليه حلَّتان، وعلى رأسه تاج من النور، وإذا هو يمشي مشية لم يكن يمشيها، فسئل عن ذلك فقال: هذه مشية الخدام في دار السلام. وصدق الحق وهو يقول: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [الإنسان: 19-22].
وورد في الحديث الشريف: ((لا تجعلوا بيوتكم قبورا، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان)).
|