.

اليوم م الموافق ‏09/‏ذو القعدة/‏1445هـ

 
 

 

وعاد الحجيج

5122

الرقاق والأخلاق والآداب

مواعظ عامة

عبد الله بن محمد البصري

القويعية

16/12/1427

جامع الرويضة الجنوبي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الفرح بإتمام شعيرة الحج. 2- الوصية بإحسان الظن بالله تعالى. 3- الوصية بالثبات على الاستقامة. 4- الحج مطهرة للنفوس. 5- المداومة على الذكر والاستغفار. 6- علامة الحج المبرور. 7- التحذير من العجب والغرور. 8- ضرورة المحاسبة والمراجعة بعد انقضاء موسم الخيرات.

الخطبة الأولى

أَيُّها المُسلِمُونَ، وفي الأَيَّامِ القَلِيلَةِ المَاضِيَةِ وفي رِحلَةٍ مِن أَروَعِ الرِّحلاتِ وَسِيَاحَةٍ مِن أَجملِ السِّيَاحَاتِ قَضَى الحُجَّاجُ عِبَادَةً مِن أَعظَمِ العِبَادَاتِ، وَقَدَّمُوا قُربَةً مِن أََجَلِّ القُرُبَاتِ، عَادُوا بَعدَهَا فَرِحِينَ بما آتَاهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ، مُستَبشِرِينَ بما مَنَّ عَلَيهِم مِن تَوفِيقِهِ وَحَجِّ بَيتِهِ، قُلْ بِفَضلِ اللهِ وَبِرَحمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَليَفرَحُوا هُوَ خَيرٌ ممَّا يَجمَعُونَ. فَهَنِيئًا لَلحُجَّاجِ حَجُّهُم وَعِبَادَتُهُم وَاجتِهَادُهُم، هَنِيئًا لهم وُقُوفُهُم بِتِلكَ المَشَاهِدِ وَالمَشَاعِرِ، وَتَنَقُّلُهُم بَينَ تِلكَ السَّاحَاتِ وَالعَرَصَاتِ، وَهَنِيئًا لهم قَولُ الرَّسُولِ : ((مَن حَجَّ فَلم يَرفُثْ ولم يَفسقْ رَجَعَ مِن ذُنُوبِهِ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ))، وَقَولُهُ : ((والحَجُّ المبرُورُ لَيسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّةُ)).

فَإِلى كُلِّ مَن حَجَّ بَيتَ اللهِ الحَرَامَ وَوَقَفَ في تِلكَ المَوَاقِفِ العِظَامِ، إِلى مَن بَسَطَ في تِلكَ المَشَاهِدِ كَفَّيهِ دَاعِيًا رَاجِيًا، وَحَسَرَ رَأسَهُ خَاضِعًا خَاشِعًا، وَتَجَرَّدَ للهِ في لِباسِ العُبُودِيَّةِ ذَلِيلاً مُنكَسِرًا، إِلَيكُم يَا مَن طُفتُم وَسَعَيتُم وَوَقَفتُم وَبِتُّم، وَذَبحتُم وَحَلَقتُم وَرَمَيتُم وَوَدَّعتُم، وَفَعَلتُم مَا تَرجُونَ بِهِ رَحمَةَ اللهِ، نَقُولُ لَكُم: أَبشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُم وَافرَحُوا، فَبُشرَى رَسُولِ اللهِ صِدقٌ وَوَعدُ اللهِ حَقٌّ، وَذَلِكَ فَضلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ. لَقَد دَعوتُم رَبًّا عَظِيمًا كَرِيمًا، وَسَأَلتُم إِلهًا بَرًّا رَحِيمًا، وَلُذتُم بِرَؤُوفٍ وَدُودٍ، لا يَتَعَاظَمُهُ أَن يَغفِرَ ذنبًا وَإِنْ كَبُرَ، وَلا أَن يُعطِيَ فضلاً وَإِن كَثُرَ، فَأَحسِنُوا ظَنَّكُم بِرَبِّكُم، فَإِنَّهُ سُبحَانَهُ عِندَ ظَنِّ عَبدِهِ بِهِ، يَقُولُ تعالى في الحَدِيثِ القُدسِيِّ: ((أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَني، فَإِن ذَكَرَني في نَفسِهِ ذَكَرتُهُ في نَفسِي، وَإِن ذَكَرَني في مَلأٍ ذَكَرتُهُ في ملأٍ خَيرٍ مِنهُم، وَإِن تَقَرَّبَ إِليَّ شِبرًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ ذِرَاعًا، وَإِن تَقَرَّبَ إِليَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبتُ إِلَيهِ بَاعًا، وَإِن أَتَاني يَمشِي أَتَيتُهُ هَروَلَةً)).

وَإِنِّي لأَدعُـو اللهَ أَسأَلُ عَفوَهُ   وَأَعلَمُ أَنَّ اللهَ يَعفُـو وَيَغفِـرُ

لَئِن أَعظَمَ النَّاسُ الذُّنُوبَ فَإِنَّهَا  وَإِن عَظُمَت في رَحمَةِ اللهِ تَصغُرُ

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، يَا مَن حَجَجتُم البَيتَ العَتِيقِ، وَجِئتُم مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ وَطَرَفٍ سَحِيقٍ، هَا أَنتُم وَقَد كَمُلَ حَجُّكُم وَتمَّ تَفَثُكُم، بَعدَ أَن وَقَفتُم عَلَى هَاتِيكَ المَشَاعِرِ وَأَدَّيتُم تِلكَ الشَّعَائِرَ، هَا أَنتُم وَقَد رَجعتُم إِلى دِيَارِكُم وَأَبنَائِكُم، فَاحذَرُوا العَودَةَ إِلى المُحَرَّمَاتِ، وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا. لَقَد عَرَفتُم فَالزَمُوا، وَآمنتُم بِاللهِ فَاستَقِيمُوا، وَفَتَحتُم في حَيَاتِكُم صَفحَةً بَيضَاءَ نَقِيَّةً فَحَذَارِ مِنَ العَودَةِ إِلى الأَفعَالِ المُخزِيَةِ وَالمَسَالِكِ المُردِيَةِ، وَأَوفُوا بما عَاهَدتُمُ اللهَ عَلَيهِ مِنَ التَّوبَةِ يُنجِزْ لَكُم مَا وَعَدَكُم مِنَ الأَجرِ العَظِيمِ، فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفسِهِ وَمَن أَوفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيهُ اللهَ فَسَيُؤتِيهِ أَجرًا عَظِيمًا. حَذَارِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ وَالعَدُوِّ المُبِينِ، فَقَد غَاظَهُ مَا رَأَى مِن رَحمَةِ اللهِ لَكُم في عَرَفَاتٍ وَتَجَاوُزِهِ عَن ذُنُوبِكُم، وَسَيَعمَلُ عَلى أَخذِ الثَّأرِ مِنكُم فَاحذَرُوهُ، وَأَتبِعُوا الحَسَنَةَ الحَسَنَةَ، فَمَا أَجمَلَ الحَسَنَةَ تَتبَعُهَا الحَسَنَةُ! وَاحذَرُوا مِنَ الإِسَاءَةِ بَعدَ الإِحسَانِ، فَمَا أَقبَحَ السَّيِّئَةَ بَعدَ الحَسَنَةِ!

يَا بَنِـي الإِسلامِ مَن عَلَّمَكُم    بَعدَ إِذ عَـاهَدتُمُ نَقضَ العُهُود

كُلُّ شَيءٍ في الهَوَى مُستَحسَنٌ   مَا خَلا الغَدرَ وَإِخلافَ الوُعُود

إِنَّ الحَاجَّ مُنذُ أَن يُلبِّيَ وَحتى يَقضِيَ حَجَّهُ وَكُلُّ أَعمَالِ حَجِّهِ وَمَنَاسِكِهِ تُعَرِّفُهُ بِعَظِيمِ حَقِّ اللهِ عَلَيهِ، وَتُقَرِّرُهُ بِخَصَائِصِ أُلُوهِيَّتِهِ، وَتُذَكِّرُهُ أَنَّهُ لا يَستَحِقُّ العِبَادَةَ سِوَاهُ، وَأَنَّهُ هُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَردُ الصَّمَدُ الذي تُسلَمُ النَّفسُ إِلَيهِ وَيُوَجَّهُ الوَجهُ إِلَيهِ، وَمِنهُ وَحدَهُ تُطلَبُ الحَاجَاتُ، وَبِهِ يُستَعَاذُ مِنَ المَكرُوهَاتِ، فَكَيفَ يَهُونُ عَلَى الحَاجِّ بَعدَ ذَلِكَ أَن يَصرِفَ حَقًّا مِن حُقُوقِ اللهِ لِغَيرِ اللهِ مِن دُعَاءٍ أَو تَوَكُّلٍ أَوِ استِعَانَةٍ أَوِ استِغَاثَةٍ أَو ذَبحٍ أَو نَذرٍ أَو طَلَبِ شِفَاءٍ أَو غَيرِهِ؟! أَيُّ حَجٍّ لِمَن عَادَ بَعدَ حَجِّهِ يَأتي المُشَعوِذِينَ وَالكَهَنَةَ أَو يُصَدِّقُ الدَّجَّالينَ وَالسَّحَرَةَ أو يَأنَسُ بِأَهلِ التَّنجِيمِ وَالطِّيَرَةِ أَو يُعَلِّقُ التّمَائِمَ وَيَعتَمِدُ عَلَى الحُرُوزِ؟! أَينَ أَثَرُ الحَجِّ فِيمَن عَادَ بَعدَهُ مُضَيِّعًا لِلصَّلاةِ مُتَّبِعًا لِلشَّهَوَاتِ مَانِعًا لِلزَّكَاةِ مُمسِكًا عَنِ الإِنفَاقِ في الخَيرَاتِ آكِلاً لِلرِّبَا متعاملاً بالغِشِّ مُتَنَاوِلاً لِلسُّحتِ وَالرِّشوَةِ مُتَعَاطِيًا لِلمُخَدِّرَاتِ وَالمُسكِرَاتِ؟! أَينَ مِنَ التَّأَثُّرِ بِالحَجِّ مَن ظَلَّ قَاطِعًا لِلقَرَابَاتِ والأَرحَامِ وَالِغًا في المُوبِقَاتِ والآثَامِ ظالمًا لِعِبَادِ اللهِ بَاخِسًا حُقُوقَهُم؟! أَينَ دُرُوسُ الحَجِّ وَفَوَائِدُهُ لِمَن تَخَلَّى عَنِ السُّنَّةِ وَنَكَصَ عَنِ اتِّبَاعِهَا وَحَادَ عَن طَرِيقِهَا؟!

فَيَا مَنِ امتَنَعتُم في الحَجِّ عَن محظُورَاتِ الإِحرَامِ، اِعلَمُوا أَنَّ هُنَاكَ محظُورَاتٍ وَممنُوعَاتٍ عَلَى الدَّوَامِ، وَحُدُودًا يَجِبُ الوُقُوفُ عَلَيهَا وَعَدَمُ تَجَاوُزِهَا مَدَى العُمرِ، فَاحذَرُوا إِتيَانَهَا أَو قُربَانَهَا، فَإِنَّ رَبَّكُم وَاحِدٌ، وَهُوَ عَلَى أَعمَالِكُم في كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ رَقِيبٌ مُشَاهِدٌ، يَقُولُ جل وعلا: تِلكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. لَقَد أَوصَاكُم رَبُّكُم جل وعلا بَعدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِكُم بِوَصِيَّةٍ عَظِيمَةٍ فَقَالَ سُبحَانَهُ: فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءَكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا، وَإِنَّمَا أَمَرَكُم بِهَذَا بَعدَ الحَجِّ لِتَظَلُّوا عَلَى عَهدِ الاستِقَامَةِ وَتَستَمِرُّوا في طَرِيقِ الصَّلاحِ، وَلِتُوَاصِلُوا المَسِيرَةَ في صِرَاطِ التَّقوَى وَدَربِ الفَلاحِ، فَسَلُوا اللهَ الثَّبَاتَ إِلى المَمَاتِ، وَتَعَوَّذُوا بِهِ مِنَ الحَورِ بَعدَ الكَورِ؛ فَإِنَّ الاستِقَامَةَ هي الطَّرِيقُ إلى حُسنِ الخَاتمةِ وَمِن ثَمَّ إلى الجَنَّةِ، إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ نَحنُ أَولِيَاؤُكُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِن غَفُورٍ رَّحِيمٍ. لَقَد اجتَهَدتُم في مَعرِفَةِ مَوَاقِفِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ في حَجِّهِ فَوَقَفتُم بها، وَسَأَلتُم عَمَّا فَعَلَ في مَنَاسِكِهِ وَأَخذَتُم بِهِ وَطَبَّقتُمُوهُ، أَلا فَاستَمِرُّوا عَلى ذَلِكَ في كُلِّ شُؤُونِكُم، فَإِنَّهُ لا سَبِيلَ إِلى الفَلاحِ وَالهُدَى إِلاَّ بِاتِّبَاعِ سُنَّتِهِ وَالاهتِدَاءِ بِهَديِهِ، لَقَد كَانَ لَكُم في رَسُولِ اللهِ أُسوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرجُو اللهَ وَاليَومَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ لِلحَجِّ المَبرُورِ أَمَارَةً وَعَلامَةً، وَلِقَبُولِهِ مَنَارَةً وَشَامَةً، سُئِلَ الحَسَنُ البَصرِيُّ رحمه اللهُ: مَا الحَجُّ المَبرُورُ؟ فَقَالَ: "أَن تَعُودَ زَاهِدًا في الدُّنيا رَاغِبًا في الآخِرَةِ". فَليَكُنْ حَجُّكُم بَاعِثًا لَكُم إِلى المَزِيدِ مِنَ الخَيرَاتِ وَفِعلِ الصَّالحاتِ، وَاعلَمُوا أَنَّ المَؤمِنَ لَيسَ لَهُ مُنتَهى مِن صَالحِ العَمَلِ إِلاَّ حُلُولُ الأَجَلِ، قال سُبحَانَهُ: وَاعبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأتِيَكَ اليَقِينُ.

ثُمَّ إِنَّ مِنَ الأُمُورِ التي يَجِبُ عَلَى العَبدِ المُسلِمِ أَن يَنتَبِهَ إِلَيهَا بَعدَ أَدَاءِ كُلِ عَمَلٍ صَالحٍ لِيَكُونَ عَمَلُهُ مَقبُولاً وَأَجرُهُ مَوفُورًا أَن يحذَرَ مِنَ العُجبِ بِمَا صَنَعَ مِنَ الخَيرِ، فَإِنَّ الشَّيطَانَ كَثِيرًا مَا يَدخُلُ عَلَى المَرءِ مِن بَابِ العُجبِ، فَيُفسِدُ عَلَيهِ عِبَادَتَهُ أَو يُنقِصُ أَجرَ طَاعتِهِ، وَمِن هُنَا كَانَ عَلَى المُسلِمِ أَن يَتَّهِمَ نَفسَهُ بِالتَّقصِيرِ، وَأَن يَعِيشَ بَينَ الخَوفِ وَالرَّجَاءِ، وَأَن يَستَصغِرَ العَمَلَ وَلا يَغتَرَّ بِهِ، فَإِنَّهُ مَهمَا عَمِلَ وَقَدَّمَ وَاجتَهَدَ فَإِنَّ عَمَلَهُ كُلَّهُ لا يُؤَدِّي شُكرَ نِعمَةٍ مِنَ النِّعَمِ التي في جَسَدِهِ مِن سَمعٍ أَو بَصَرٍ أَو نُطقٍ أَو غَيرِها، وَلا يَقُومُ بِشَيءٍ مِن حَقِّ اللهِ الذي خَلَقَهُ وَرَزَقَهُ وَأَطعَمَهُ وَسَقَاهَ وَآمَنَهُ وَوَفَّقَهُ وَهَدَاه؛ وَلِذَلِكَ كَانَ مِن صِفَاتِ المُخلِصِينَ أنهم يَستَصغِرُونَ أَعمَالَهُم وَلا يَرَونها شَيئًا؛ حتى لا يُعجَبُوا بها أَو يُصِيبَهُمُ الغُرُورُ فَيَحبَطَ أَجرُهُم، أَو يَكسَلوا عَنِ الأَعمَالِ الصَّالحةِ فِيمَا بَعدُ، وَلَقَد وَصَفَ اللهُ بِالخَوفِ وَالإِشفَاقِ وَالوَجَلِ مَن كَانُوا إِلى الخَيرَاتِ يُسَارِعُونَ، قال اللهُ عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُم مِن خَشيَةِ رَبِّهِم مُشفِقُونَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِم يُؤمِنُونَ وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِم لا يُشرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُم وَجِلَةٌ أَنَّهُم إِلى رَبِّهِم رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ في الخَيرَاتِ وَهُم لَهَا سَابِقُونَ، وَقَد فَسَّرَهَا النبيُّ بِأَنَّهُمُ الذين يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَيَخَافُونَ أَن لا يُتَقَبَّلَ مِنهُم.

إِنَّهُ مَهمَا حَرِصَ الإِنسَانُ على تَكمِيلِ عَمَلِهِ وَتَجوِيدِهِ فَإِنَّهُ لا بُدَّ مِنَ النَّقصِ وَالتَّقصِيرِ، وَمِن هُنَا عَلَّمَنَا اللهُ تعالى كَيفَ نَرفَعُ هَذَا التَّقصِيرَ وَنُتِمُّ ذَلِكَ النَّقصَ، فَأَمَرَنَا بِالاستِغفَارِ بَعدَ العِبَادَاتِ، فَقَالَ بَعدَ أَن ذَكَرَ مَنَاسِكَ الحَجِّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاستَغفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، وَأَمَرَ نَبِيَّهُ أَن يَختِمَ حَيَاتَهُ العَامِرَةَ بِعِبَادَةِ اللهِ وَالجِهَادِ في سَبِيلِهِ بِالاستِغفَارِ فَقَالَ: إِذَا جَاء نَصرُ اللهِ وَالفَتحُ وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ في دِينِ اللهِ أَفوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا، فَكَانَ بعَدَ ذَلِكَ يَقُولُ في رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: ((سُبحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمدِكَ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لي))، وَكَانَ يَقُولُ بَعدَ كُلِّ صَلاةٍ: ((أَستَغفِرُ اللهَ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَأَكثِرُوا مِنَ الأَعمَالِ الصَّالحةِ وَدَاوِمُوا عَلَيهَا، فَإِنَّ مِن عَلامَاتِ قَبُولِ الحَسَنَةِ فِعلَ الحَسَنَةِ بَعدَهَا، وَالَّذِينَ اهتَدَوا زَادَهُم هُدًى وَآتَاهُم تَقواهُم، وَ((أَحَبُّ الأَعمَالِ إِلى اللهِ أَدوَمُها وَإِن قَلَّ)).

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ، فَإِذَا قَضَيتُم مَنَاسِكَكُم فَاذكُرُوا اللهَ كَذِكرِكُم آبَاءكُم أَو أَشَدَّ ذِكرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن خَلاَقٍ وِمِنهُم مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُولَئِكَ لَهُم نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الحِسَابِ وَاذكُرُوا اللهَ في أَيَّامٍ مَعدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلاَ إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرُونَ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا في قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى في الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيِهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بِالإِثمِ فَحَسبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئسَ المِهَادُ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاء مَرضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ إِنَّهُ لَكُم عَدُوٌّ مُّبِينٌ فَإِن زَلَلتُم مِن بَعدِ مَا جَاءتكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.

 

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ: فَيَا أَيُّهَا المُسلِمُونَ، اتَّقُوا اللهَ فَإِنَّ تَقوَاهُ أَفضَلُ زَادٍ وَأَحسَنُ عَاقِبَةٍ في مَعَادٍ، وَاعلَمُوا أَنَّ الدُّنيَا مَيدَانُ تَنَافُسٍ وَمِضمَارُ سِبَاقٍ، سَبَقَ فِيهَا قَومٌ فَفَازُوا، وَتَخَلَّفَ آخَرُونَ عَنِ الرَّكبِ فَخَابُوا، فَرَحِمَ اللهُ عَبدًا نَظَرَ فَتَفَكَّرَ وَاعتَبرَ، وَأَبصَرَ فَجَاهَدَ وَصَابَرَ وَصَبرَ، وَعَرَفَ العَاقِبَةَ فَلَزِمَ الجادَّةَ وأدَامَ المُرابَطَةَ، فاصبرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلمُتَّقِينَ، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحسِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصبرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد مَضت أَيَّامٌ مُبَارَكَةٌ وَانقضى مَوسِمٌ فَاضِلٌ، أَوقَعَ المُسلِمُونَ فِيهِ الحَجَّ، وَرَجَعَ مِنهُم أَقوَامٌ مَقبُولُونَ مَغفُورَةٌ ذُنُوبُهُم، مَرفُوعَةٌ دَرَجَاتُهُم، مُكَفَّرَةٌ خَطَايَاهُم، مَضَت تِلكَ الأَيَّامُ التي فِيهَا عَشرُ ذِي الحِجِّةِ أَفضَلُ الأَيَّامِ عِندَ اللهِ، وَفِيهَا يَومُ عَرَفَةَ يَومُ العِتقِ مِنَ النَّارِ، وَيَومُ العِيدِ يَومُ الحَجِّ الأَكبرِ، وَأَيَّامُ التَّشرِيقِ التي هِيَ أَيَّامُ أَكلٍ وَشُربٍ وَذِكرٍ للهِ عز وجل، لَقَدِ انتَهَت تِلكَ الأَيَّامُ العَظِيمَةُ وَذَلِكَ المَوسِمُ الجَلِيلُ، فَمَاذَا استَفَدنَا مِنهَا يَا تُرَى؟! وَبِأَيِّ دَرسٍ خَرَجنَا مِنهَا؟! لِنُحَاسِبْ أَنفُسَنَا وَلنَنظُرْ فِيمَا قَدَّمنَا، هَل صُمنَا أَيَّامَ العَشرِ أَو مَا تَيَسَّرَ مِنهَا مَعَ الصَّائِمِينَ؟! هَل أَدَّينَا صَلاةَ العِيدِ مَعَ المُسلِمِينَ وَضَحَّينَا للهِ رَبِّ العَالمينَ وَتَصَدَّقنَا مَعَ المُتَصَدِّقِينَ؟! هَل تَصَافَحَت قُلُوبُنا يَومَ تَصَافَحنَا صَبِيحَةَ العِيدِ؟! هَل تَعَانَقَت أَفئِدَتُنَا يَومَ تَعَانَقنَا أَيَّامَ العِيدِ؟! هَل وَصَلَ قَاطِعُ الرَّحِمِ رَحِمَهُ؟! هَل تَرَاجَعَ الظَّالمُ عَن ظُلمِهِ لِنَفسِهِ وَلإِخوَانِهِ؟! هَل غَيَّرنَا أَحوَالَنَا مِن سَيِّئٍ إِلى حَسَنٍ وَمِن حَسَنٍ إَلى أَحسَنَ؟! هَل فَرَرنَا مِنَ اللهِ إِلى اللهِ؟! أَجتَمَعَت قُلُوبُ المُسلِمِينَ حِينَ اجتَمَعَت أَبدَانُهُم في رِحَابِ بَيتِ اللهِ؟! أَعَادَ الحُجَّاجُ مِن رِحلَةِ عِبَادَةٍ أَم مِن نُزهَةِ استِجمَامٍ؟! أَسئِلَةٌ كَثِيرَةٌ وَتَساؤُلاتٌ مُلِحَّةٌ تَفرِضُ نَفسَهَا وَتَبرُزُ أَمَامَ نَاظِرَي كُلِّ مُسلِمٍ مَوَحِّدٍ، وَتَتَطَلَّبُ مِن كُلِّ عَبدٍ يخشَى اللهَ وَيَتَّقِيهِ إِجَابَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً، لَعَلَّ فِيهَا مَا يُصَحِّحُ المَسَارَ وَيُغَيِّرُ الطَّرِيقَ وَيَرُدُّ الشَّارِد وَيُنَبِّهُ الغَافِلَ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَن كَانَ عَمِلَ صَالحًا وَقَدَّمَ خَيرًا فَليَحمَدِ اللهَ، وَليُوَاصِلِ العَمَلَ الصَّالحَ، وَليُدَاوِمْ عَلَيهِ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ وَفي مُستَقبَلِ أَيَّامِهِ، وَأَمَّا مَن فَرَّطَ في تِلكَ الأَيَّامِ وَأَهمَلَ وَتَجَاهَلَ الفَضَائِلَ وَضَيَّعَ الفُرَصَ فَليَستَغفِرِ اللهَ وَليَتُبْ إِلَيهِ، وَليَحفَظْ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ وَليُصلِحْ مُستَقبَلَهُ، فَإِنَّ الرُّجُوع إِلى الحَقِّ خَيرٌ مِنَ التَّمَادِي في البَاطِلِ، وَالتَّوبَةَ تَجُبُّ مَا قَبلَهَا وَتَقطَعُهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لِنَتَذَكَّرْ بِانقِضَاءِ المَوَاسِمِ وَالشُّهُورِ اِنقِضَاءَ الأَعمَارِ وَالرَّحِيلَ إِلى دَارِ القَرَارِ، وَأَنَّ الدُّنيَا دَارُ مَمَرٍّ وَلَيسَت بِدَارِ مَقَرٍّ، وَسُوقُ تَزَوُّدٍ إلى الآخِرَةِ، فَلنَتَزَوَّدْ مِنهَا بِصَالحِ الأَعمَالِ، فَإِنَّ خَيرَ الزَّادِ التَّقوَى، وَلنَغتَنِمِ الأَعمَارَ وَمَوَاسِمَ الطَّاعَةِ، فَإِنها سَرِيعَةُ المُرُورِ عَجِلَةُ العُبُورِ، وَلنَتَزَوَّدْ ممَّا بَينَ أَيدِينَا مِن مَحَطَّاتِ العِبَادَةِ المُتَكَرِّرَةِ في كُلِّ يَومٍ، مِنَ الصَّلَوَاتِ الخَمسِ وَنَوَافِلِهَا وَقِيَامِ اللَّيلِ، وَصِيَامِ التَّطَوُّعِ وَالصَّدَقَاتِ، وَذِكرِ اللهِ بُكرَةً وَعشِيًّا، وَالتَّهلِيلِ وَالتَّسبِيحِ وَالاستِغفَارِ، وَدُعَاءِ اللهِ في جَوفِ اللَّيلِ الآخِرِ وَأَدبَارِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنَّنَا إِلى ذَلِكَ أَحوَجُ مِنَّا إِلى كَثِيرٍ ممَّا تَعَلَّقنَا بِهِ وَاشتَغَلنَا بِتَحصِيلِهِ مِن مُسَاهَمَاتٍ واكتِتَابَاتٍ وَطَردٍ لِلدُّنيَا وَلَهَثٍ وَرَاءَ المَادَّةِ.

نُرَقِّعُ دُنيَانَا بِتَمزِيـقِ دِينِنَا      فَلا دِينُنَا يَبقَى وَلا مَا نُرَقِّعُ

إِنَّكُم بَعدَ أَيَّامٍ مَعدُودَةٍ وَلَيالٍ قَلائِلَ تُوَدِّعُونَ مِن أَعمَارِكُم عَامًا وَتَستَقبِلُونَ آخَرَ، فَاغتَنِمُوا زَمَنَكُم وَجَاهِدُوا أَنفُسَكُم، وَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَاغدُوا وَرُوحُوا وَأدلِجُوا، وَالقَصدَ القَصدَ تَبلُغُوا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُسلِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلتَنظُر نَفسٌ مَّا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً