.

اليوم م الموافق ‏19/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

حجة النبي كما رواها جابر

5116

فقه

الحج والعمرة

عبد الله بن محمد البصري

القويعية

2/12/1427

جامع الرويضة الجنوبي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- صفة حج النبي كما رواها جابر. 2- مسائل وأحكام.

الخطبة الأولى

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، رَوَى مُسلِمٌ بِسَنَدِهِ عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَلِيِّ بنِ حُسَينٍ أَنَّ أَبَاهُ سَأَلَ جَابِرًا رضي اللهُ عنه فَقَالَ: أَخبِرْني عَن حَجَّةِ رَسُولِ اللهِ ، فَقَالَ بِيَدِهِ فَعَقَدَ تِسعًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ مَكَثَ تِسعَ سِنِينَ لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذَّنَ في النَّاسِ في العَاشِرَةِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ حَاجٌّ، فَقَدِمَ المَدِينَةَ بَشَرٌ كَثِيرٌ كُلُّهُم يَلتَمِسُ أَن يَأتَمَّ بِرَسُولِ اللهِ وَيَعمَلَ مِثلَ عَمَلِهِ، فَخَرَجنَا مَعَهُ حَتَّى أَتَينَا ذَا الحُلَيفَةِ، فَوَلَدَت أَسمَاءُ بِنتُ عُمَيسٍ مُحَمَّدَ بنَ أَبي بَكرٍ، فَأَرسَلَت إِلى رَسُولِ اللهِ : كَيفَ أَصنَعُ؟ قَالَ: ((اغتَسِلِي وَاستَثفِرِي بِثَوبٍ وَأَحرِمِي))، فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ في المَسجِدِ ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ، حَتَّى إِذَا استَوَت بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى البَيدَاءِ نَظَرتُ إِلى مَدِّ بَصَرِي بَينَ يَدَيهِ مِن رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَن يَمِينِهِ مِثل ذَلِكَ، وَعَن يَسَارِهِ مِثل ذَلِكَ، وَمِن خَلفِهِ مِثل ذَلِكَ، وَرَسُولُ اللهِ بَينَ أَظهُرِنَا وَعَلَيهِ يَنزِلُ القُرآنُ وَهُوَ يَعرِفُ تَأوِيلَهُ، وَمَا عَمِلَ بِهِ مِن شَيءٍ عَمِلنَا بِهِ، فَأَهَلَّ بِالتَّوحِيدِ: ((لَبَّيكَ اللَّهُمَّ لَبَّيكَ، لَبَّيكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيكَ، إِنَّ الحَمدَ وَالنِّعمَةَ لَكَ وَالمُلكَ، لا شَرِيكَ لَكَ))، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ عَلَيهِم شَيئًا مِنهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ تَلبِيَتَهُ.

قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: لَسنَا نَنوِي إِلاَّ الحَجَّ، لَسنَا نَعرِفُ العُمرَةَ، حَتَّى إِذَا أَتَينَا البَيتَ مَعَهُ استَلَمَ الرُّكنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَربَعًا، ثُمَّ نَفَذَ إِلى مَقَامِ إِبرَاهِيمَ عَلَيهِ السَّلام فَقَرَأَ: وَاتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَجَعَلَ المَقَامَ بَينَهُ وَبَينَ البَيتِ. قال جعفر بن محمد: فَكَانَ أَبي يَقُولُ: وَلا أَعلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ : كَانَ يَقرَأُ في الرَّكعَتَينِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلى الرُّكنِ فَاستَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إِلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: إِنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ ((أَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ))، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيهِ حَتَّى رَأَى البَيتَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَهُ وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ، أَنجَزَ وَعدَهُ، وَنَصَرَ عَبدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ))، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، قَالَ مِثلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ حَتَّى إِذَا انصَبَّت قَدَمَاهُ في بَطنِ الوَادِي سَعَى، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى، حَتَّى أَتَى المَروَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَروَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافِهِ عَلَى المَروَةِ فَقَالَ: ((لَو أَنِّي استَقبَلتُ مِن أَمرِي مَا استَدبَرتُ لم أَسُقِ الهَديَ وَجَعَلتُهَا عُمرَةً، فَمَن كَانَ مِنكُم لَيسَ مَعَهُ هَديٌ فَلْيَحِلَّ وَليَجعَلهَا عُمرَةً))، فَقَامَ سُرَاقَةُ بنُ مَالِكِ بنِ جُعشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلِعَامِنَا هَذَا أَمْ لأَبَدٍ؟ فَشَبَّكَ رَسُولُ اللهِ أَصَابِعَهُ وَاحِدَةً في الأُخرَى وَقَالَ: ((دَخَلَتِ العُمرَةُ في الحَجِّ مَرَّتَينِ، لا بَل لأَبَدٍ أَبَدٍ)).

وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ بِبُدنِ النَّبِيِّ ، فَوَجَدَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا مِمَّن حَلَّ وَلَبِسَت ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكتَحَلَت، فَأَنكَرَ ذَلِكَ عَلَيهَا، فَقَالَت: إِنَّ أَبي أَمَرَني بِهَذَا، قَالَ: فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالعِرَاقِ: فَذَهَبتُ إِلى رَسُولِ اللهِ مُحَرِّشًا عَلَى فَاطِمَةَ لِلَّذِي صَنَعَتْ مُستَفتِيًا لِرَسُولِ اللهِ فِيمَا ذَكَرَتْ عَنهُ، فَأَخبَرتُهُ أَنِّي أَنكَرتُ ذَلِكَ عَلَيهَا، فَقَالَ: ((صَدَقَتْ صَدَقَتْ، مَاذَا قُلتَ حِينَ فَرَضتَ الحَجَّ؟)) قَالَ: قُلتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ، قَالَ: ((فَإِنَّ مَعِيَ الهَديَ فَلا تَحِلَّ))، قَالَ: فَكَانَ جَمَاعَةُ الهَديِ الَّذِي قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ مِائَةً، قَالَ: فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ وَمَن كَانَ مَعَهُ هَديٌ.

فَلَمَّا كَانَ يَومُ التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَصَلَّى بِهَا الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ وَالفَجرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِن شَعَرٍ تُضرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَسَارَ رَسُولُ اللهِ وَلا تَشُكُّ قُرَيشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ كَمَا كَانَت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ القُبَّةَ قَد ضُرِبَت لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمسُ أَمَرَ بِالقَصوَاءِ فَرُحِلَت لَهُ، فَأَتَى بَطنَ الوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ وَقَالَ: ((إِنَّ دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم حَرَامٌ عَلَيكُم كَحُرمَةِ يَومِكُم هَذَا، في شَهرِكُم هَذَا، في بَلَدِكُم هَذَا، أَلا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحتَ قَدَمَيَّ مَوضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كَانَ مُستَرضَعًا في بَنِي سَعدٍ فَقَتَلَتهُ هُذَيلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا عَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوضُوعٌ كُلّهُ، فَاتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ، فَإِنَّكُم أَخَذتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ، وَاستَحلَلتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُم عَلَيهِنَّ أَن لا يُوطِئنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكرَهُونَهُ، فَإِن فَعَلنَ ذَلِكَ فَاضرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيكُم رِزقُهُنَّ وَكِسوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ، وَقَد تَرَكتُ فِيكُم مَا لَن تَضِلُّوا بَعدَهُ إِن اعتَصَمتُم بِهِ: كِتَابُ اللهِ، وَأَنتُم تُسأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنتُم قَائِلُونَ؟)) قَالُوا: نَشهَدُ أَنَّكَ قَد بَلَّغتَ وَأَدَّيتَ وَنَصَحتَ، فَقَالَ بِإِصبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرفَعُهَا إِلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلى النَّاسِ: ((اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصرَ، وَلم يُصَلِّ بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتى المَوقِفَ فَجَعَلَ بَطنَ نَاقَتِهِ القَصوَاءِ إِلى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ، وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ وَذَهَبَتِ الصُّفرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرصُ، وَأَردَفَ أُسَامَةَ خَلفَهُ، وَدَفَعَ رَسُولُ اللهِ وَقَد شَنَقَ لِلقَصوَاءِ الزِّمَامَ حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَورِكَ رَحلِهِ وَيَقُولُ بِيَدِهِ اليُمنَى: ((أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ))، كُلَّمَا أَتى حَبلاً مِنَ الحِبَالِ أَرخَى لَهَا قَلِيلاً حَتَّى تَصْعَدَ، حَتَّى أَتى المُزدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغرِبَ وَالعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلم يُسَبِّحْ بَينَهُمَا شَيئًا، ثُمَّ اضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى طَلَعَ الفَجرُ، وَصَلَّى الفَجرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشعَرَ الحَرَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسفَرَ جِدًّا، فَدَفَعَ قَبلَ أَن تَطلُعَ الشَّمسُ، وَأَردَفَ الفَضلَ بنَ عَبَّاسٍ وَكَانَ رَجُلا حَسَنَ الشَّعرِ أَبيَضَ وَسِيمًا، فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولُ اللهِ مَرَّت بِهِ ظُعُنٌ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الفَضلُ يَنظُرُ إِلَيهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ عَلَى وَجهِ الفَضلِ، فَحَوَّلَ الفَضلُ وَجهَهُ إِلى الشِّقِّ الآخَرِ يَنظُرُ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللهِ يَدَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ عَلَى وَجهِ الفَضلِ يَصرِفُ وَجهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، حَتَّى أَتَى بَطنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلاً، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الوُسطَى الَّتِي تَخرُجُ عَلَى الجَمرَةِ الكُبرَى، حَتَّى أَتَى الجَمرَةَ الَّتِي عِندَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنهَا مِثلِ حَصَى الخَذْفِ، رَمَى مِن بَطنِ الوَادِي، ثُمَّ انصَرَفَ إِلى المَنحَرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشرَكَهُ في هَديِهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَت في قِدرٍ فَطُبِخَت، فَأَكَلا مِن لَحمِهَا وَشَرِبَا مِن مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَأَفَاضَ إِلى البَيتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهرَ، فَأَتَى بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ يَسقُونَ عَلَى زَمزَمَ فَقَالَ: ((انزِعُوا بَنِي عَبدِ المُطَّلِبِ، فَلَولا أَن يَغلِبَكُمُ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُم لَنَزَعتُ مَعَكُم))، فَنَاوَلُوهُ دَلوًا فَشَرِبَ مِنهُ.

هذا الحَدِيثُ العَظِيمُ في وَصفِ حَجَّةِ النبيِّ قَدِ اشتَمَلَ عَلَى جُمَلٍ مِنَ الفَوَائِدِ وَنَفَائِسَ مِن القَوَاعِدِ، وَقَد تَكَلَّمَ العُلَمَاءُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الفِقهِ وَأَكْثَرُوا، وَخَرَّجُوا فِيهِ مِن الفِقهِ عَشَرَاتِ المَسَائِلِ، وَلَعَلَّنَا نجتَزِئُ شَيئًا مِن فِقهِ هَذَا الحَدِيثِ في خُطبتِنَا هَذِهِ:

فَمِن ذَلِك قَولُهُ لأَسمَاءَ بِنتِ عُمَيسٍ وَقَد وَلَدَت: ((اغتَسِلِي وَاستَثفِرِي بِثَوبٍ وَأَحرِمِي))، فِيهِ اِستِحبَابُ غُسلِ الإِحرَامِ لِلنُّفَسَاءِ وصِحَّةُ إِحرَامِهَا، وَمِثلُها الحَائِضُ، فلا يجوزُ لهما تجاوزُ المِيقَاتِ إِلاَّ مُحرِمَتَينِ.

قَولُهُ: (فَصَلَّى رَكعَتَينِ) فِيهِ اِستِحبَابُ كَونِ الإِحرامِ بَعدَ صَلاةٍ.

قَولُهُ: (وَعَلَيهِ يَنزِلُ القُرآنُ وَهُوَ يَعرِف تَأوِيلَهُ) مَعنَاهُ: الحَثُّ عَلَى التَّمَسُّكِ بِمَا فَعَلَهُ في حَجَّتِهِ تِلكَ.

قَولُهُ: (وَأَهَلَّ النَّاس بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَم يَرُدَّ رَسُولُ اللهِ شَيئًا مِنهُ، وَلَزِمَ رَسُولُ اللهِ تَلبِيَته)، قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: "فِيهِ إِشَارَةٌ إِلى مَا رُوِيَ مِن زِيَادَةِ النَّاسِ في التَّلبِيَةِ مِنَ الثَّنَاءِ وَالذِّكرِ كَمَا رُوِيَ في ذَلِكَ عَن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّهُ كَانَ يَزِيدُ: (لَبَّيكَ ذَا النَّعمَاءِ وَالفَضلِ الحَسَنِ، لَبَّيكَ مَرهُوبًا مِنكَ وَمَرغُوبًا إِلَيكَ)، وَعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَبَّيكَ وَسَعدَيكَ، وَالخَيرُ بِيَدَيك، وَالرَّغبَاءُ إِلَيك وَالعَمَلُ)، وَعَن أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (لَبَّيكَ حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا)، وَلَكِنَّ المُستَحَبَّ الاقتِصَارُ عَلَى تَلبِيَةِ رَسُولِ اللهِ ".

قَولُهُ: (حَتَّى إِذَا أَتَينَا البَيت مَعَهُ اِستَلَمَ الرُّكنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَربَعًا)، فِيهِ أَنَّ الطَّوَافَ سَبعةُ أَشوَاطٍ، وأَنَّ المُحرِمَ إِذَا دَخَلَ مَكَّة قَبلَ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ سُنَّ لَهُ طَوَافُ القُدُوم، وَأَنَّ السُّنَّةَ فيه الرَّمَلُ في الثَّلاثةِ الأُوَلى، وَيَمشِي عَلَى عَادَتِهِ في الأَربَعةِ الأَخِيرَةِ، والرَّمَلُ هُوَ أَسرَعُ المَشيِ مَعَ تَقَارُبِ الخُطَى.

قَولُهُ: (اِستَلَمَ الرُّكنَ) أي: مَسَحَهُ بِيَدِهِ، وَهُوَ سُنَّةٌ في كُلِّ طَوَافٍ مَعَ القُدرَةِ عليه.

قَولُهُ: (ثُمَّ نَفَذَ إِلى مَقَام إِبرَاهِيم عَلَيهِ السَّلامُ فَقَرَأَ: وَاِتَّخِذُوا مِن مَقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى، فَجَعَلَ المَقَام بَينَهُ وَبَينَ البَيتِ)، هَذَا دَلِيلٌ لِمَا أَجمَعَ عَلَيهِ العُلَمَاءُ أَنَّهُ يَنبَغِي لِكُلِّ طَائِفٍ إِذَا فَرَغَ مِن طَوَافِهِ أَن يُصَلِّيَ خَلفَ المَقَامِ رَكعَتَي الطَّوَافِ، وَإِلاَّ فَفِي سائِرِ الحَرَمِ، ويَقَرَأُ فِيهِمَا: قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ [سورة الكافرون]، وَقُلْ هُوَ الله أَحَد [سورة الإخلاص].

قَولُهُ: (ثُمَّ خَرَجَ مِنَ البَابِ إِلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: إِنَّ الصَّفَا وَالمَروَة مِن شَعَائِر الله ((أَبدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ))، فَبَدَأَ بِالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيهِ حَتَّى رَأَى البَيتَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَوَحَّدَ اللهَ وَكَبَّرَ وَقَالَ: ((لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ، لا إِلَه إِلاّ اللهُ وَحدَهُ، أَنجَزَ وَعدَهُ، وَنَصَرَ عَبدَهُ، وَهَزَمَ الأَحزَابَ وَحدَهُ))، ثُمَّ دَعَا بَينَ ذَلِكَ، قَالَ مِثلَ هَذَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ)، في هَذَا أَنوَاعٌ مِنَ المَنَاسِكِ: مِنهَا أَنَّ السَّعيَ يُشتَرَطُ فِيهِ أَن يُبدَأَ مِنَ الصَّفَا، وَقَد ثَبَتَ في رِوَايَةِ النَّسَائِيِّ في هَذَا الحَدِيث بِإِسنَادٍ صَحِيحٍ أَنَّ النَّبِيّ قَالَ: ((ابدَؤُوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ))، هَكَذَا بِصِيغَةِ الأمر والجَمعِ. وَمِنهَا أَنَّهُ يَنبَغِي أَن يَرقَى عَلَى الصَّفَا وَالمَروَةِ، وهُوَ سُنَّةٌ لَيسَ بِشَرطٍ وَلا وَاجِبٍ، فَلَو تَرَكَهُ صَحَّ سَعيُهُ لَكِنْ فَاتَتهُ الفَضِيلَةُ. وَمِنهَا أَنَّهُ يُسَنُّ أَن يَقِفَ عَلَى الصَّفَا مُستَقبِلَ الكَعبَةِ وَيَذكُرَ اللهَ تَعَالَى بِهَذَا الذِّكرِ المَذكُورِ، وَيَدعُوَ وَيُكَرِّرَ الذِّكرَ وَالدُّعَاءَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ.

قَولُهُ: (ثُمَّ نَزَلَ إِلى المَروَةِ حَتَّى اِنصَبَّت قَدَمَاهُ في بَطنِ الوَادِي، حَتَّى إِذَا صَعِدَتَا مَشَى حَتَّى أَتَى المَروَة)، فِيهِ اِستِحبَابُ السَّعيِ الشَّدِيدِ في بَطنِ الوَادِي حَتَّى يَصعَدَ، ثُمَّ يَمشي بَاقِيَ المَسَافَةِ إِلى المَروَةِ عَلَى عَادَةِ مَشْيِهِ، وَلَو مَشَى في الجَمِيعِ أَو سَعَى في الجَمِيعِ أَجزَأَهُ وَفَاتَتهُ الفَضِيلَةُ.

قَولُهُ: (فَفَعَلَ عَلَى المَروَة مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا)، فِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ عَلَيهَا مِنَ الذِّكرِ وَالدُّعَاءِ وَالرُّقِيِّ مِثلُ مَا يُسَنُّ عَلَى الصَّفَا.

قَولُهُ: (حَتَّى إِذَا كَانَ آخِرُ طَوَافٍ عَلَى المَروَةِ)، فِيهِ دَلالَةٌ على أَنَّ الذَّهَابَ مِنَ الصَّفَا إِلى المَروَةِ يُحسَبُ مَرَّةً وَالرُّجُوعَ إِلى الصَّفَا ثَانِيَةٌ، وَالرُّجُوعَ إِلى المَروَةِ ثَالِثَةٌ وَهَكَذَا، فَيَكُونُ اِبتِدَاءُ السَّبعةِ مِنَ الصَّفَا، وَآخِرُهَا بِالمَروَةِ.

قَولُهُ: (فَحَلَّ النَّاس كُلُّهم وَقَصَّرُوا إِلاَّ النَّبِيَّ وَمَن كَانَ مَعَهُ هَديٌ)، المُرَادُ بِقَولِهِ: (حَلَّ النَّاس كُلُّهم) أَي: مُعظَمُهُم، وقَوْلُهُ: (وَقَصَّرُوا) أي: وَلم يَحلِقُوا مَعَ أَنَّ الحَلق أَفضَل لأَنَّهُم أَرَادُوا أَن يَبقَى شَعرٌ يُحلَقُ في الحَجِّ، فَلَو حَلَقُوا لم يَبقَ شَعرٌ، فَكَانَ التَّقصِيرُ هُنَا أَحسَنَ لِيَحصُلَ في النُّسُكَينِ إِزَالَةُ شَعرٍ. وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَن سَاق الهَديَ لَزِمَهُ الحَجُّ قَارِنًا، ولم يجُزْ لَهُ التَّحَلُّلُ حتى يَبلُغَ الهَديُ مَحِلَّهُ، وَمَن لم يَسُقْهُ سُنَّ لَهُ التَّمَتُّعُ.

قَولُهُ: (فَلَمَّا كَانَ يَوم التَّروِيَةِ تَوَجَّهُوا إِلى مِنًى فَأَهَلُّوا بِالحَجِّ)، فيه أنه يَنبَغِي لمنْ كَانَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الإِحرَامَ بِالحَجِّ أن يُحرِمَ يَومَ التَّروِيَةِ، وهُوَ الثَّامِنُ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَفي هَذَا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ إِلى مِنًى قَبلَ يَومِ التَّروِيَةِ.

قَولُهُ: (وَرَكِبَ النَّبِيُّ فَصَلَّى بِهَا الظُّهرَ وَالعَصرَ وَالمَغرِبَ وَالعِشَاءَ وَالفَجرَ)، فِيهِ بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ أَن يُصَلِّيَ بِمِنًى هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الخَمس، وأَن يَبِيتَ بِمِنًى لَيلَةَ التَّاسِعِ مِن ذِي الحِجَّةِ، وَهَذَا المَبِيتُ سُنَّةٌ لَيسَ بِرُكنٍ وَلا وَاجِبٍ، فَلَو تَرَكَهُ فَلا دَم عَلَيهِ بِالإِجمَاعِ.

قَولُهُ: (ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ)، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَخرُجُوا مِن مِنًى إلى عرفاتٍ حَتَّى تَطلُعَ الشَّمْسُ.

قَولُهُ: (وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِن شَعرٍ تُضرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ)، فِيهِ اِستِحبَابُ النُّزُولِ بِنَمِرَةَ إِذَا ذَهَبُوا مِن مِنًى؛ لأَنَّ السُّنَّةَ أَن لاَّ يَدخُلُوا عَرَفَاتٍ إِلا بَعدَ زَوَالِ الشَّمسِ وَبَعدَ صَلاتي الظُّهرِ وَالعَصرِ جَمعًا، وَفيه جَوَازُ الاستِظلالِ لِلمُحرِمِ.

قَولُهُ: (وَلا تَشُكُّ قُرَيشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِندَ المَشعَرِ الحَرَامِ كَمَا كَانَت قُرَيشٌ تَصنَعُ في الجَاهِلِيَّةِ)، مَعنَى هَذَا أَنَّ قُرَيشًا كَانَت في الجَاهِلِيَّةِ تَقِفُ بِالمَشعَرِ الحَرَامِ في المُزدَلِفَةِ، وَكَانَ سَائِرُ العَرَبِ يَتَجَاوَزُونَ المُزدَلِفَةَ وَيَقِفُونَ بِعَرَفَاتٍ، فَظَنَّت قُرَيشٌ أَنَّ النَّبِيَّ يَقِفُ في المَشعَرِ الحَرَامِ عَلَى عَادَتِهِم وَلا يَتَجَاوَزُهُ، فَتَجَاوَزَهُ النَّبِيّ إِلى عَرَفَاتٍ لأَنَّ الله تَعَالى أَمَرَ بِذَلِكَ في قَولِهِ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِن حَيثُ أَفَاضَ النَّاسُ أَي: سَائِرُ العَرَبِ غَير قُرَيشِ، وَإِنَّمَا كَانَت قُرَيشٌ تَقِفُ بِالمُزدَلِفَةِ لأَنَّهَا مِنَ الحَرَم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: نَحنُ أَهلُ حَرَمِ اللهِ فَلا نَخرُجُ مِنهُ.

قَولُهُ: (فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ) أي: جَاوَزَ المُزدَلِفَةَ وَلم يَقِفْ بِهَا بَل تَوَجَّهَ إِلى عَرَفَاتٍ.

قَولُهُ: (ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى العَصرَ وَلم يُصَلِّ بَينهمَا شَيئًا)، فِيهِ أَنَّهُ يُشرَعُ الجَمعُ بَينَ الظُّهرِ وَالعَصرِ في ذَلِكَ اليَومِ جمعَ تَقدِيمٍ، وَقَد أَجمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيهِ.

قَولُهُ: (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى أَتَى المَوقِفَ فَجَعَلَ بَطنَ نَاقَتِهِ القَصوَاءِ إِلى الصَّخَرَاتِ، وَجَعَلَ حَبلَ المُشَاةِ بَينَ يَدَيهِ، وَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمسُ وَذَهَبَتِ الصُّفرَةُ قَلِيلاً حَتَّى غَابَ القُرصُ)، في هَذَا الفَصلِ مَسَائِلُ وَآدَابٌ لِلوُقُوفِ: مِنهَا أَنَّهُ إِذَا فَرَغَ مِنَ الصَّلاتَينِ عَجَّلَ الذَّهَابَ إِلى المَوقِفِ، وَمِنهَا اِستِحبَابُ اِستِقبَالِ القِبلَةِ في الوُقُوفِ، وَمِنهَا أَنَّ الوُقُوفَ حَتَّى تَغرُبَ الشَّمسُ وَيَتَحَقَّقَ كَمَالُ غُرُوبِهَا، ثُمَّ يُفِيضُ إِلى مُزدَلِفَةَ، فَلَو أَفَاضَ قَبلَ غُرُوبِ الشَّمسِ صَحَّ وُقُوفُهُ وَحَجُّهُ وَلَزِمَهُ دَمٌ. وَأَمَّا وَقتُ الوُقُوفِ فَهُوَ مَا بَينَ زَوَالِ الشَّمسِ يَومَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الفَجرِ الثَّاني يَومَ النَّحرِ، فَمَن حَصَلَ بِعَرَفَاتٍ في جُزءٍ مِن هَذَا الزَّمَانِ صَحَّ وُقُوفُهُ، وَمَن فَاتَهُ ذَلِكَ فَاتَهُ الحَجُّ.

قَولُهُ: (يَقُولُ بِيَدِهِ: السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ) أَي: اِلزَمُوا السَّكِينَةَ، وفِيهِ أَنَّ السَّكِينَةَ في الدَّفعِ مِن عَرَفَاتٍ سُنَّةٌ، فَإِذَا وَجَدَ فُرجَةً يُسرِعُ كَمَا ثَبَتَ في الحَدِيثِ الآخَرِ.

قَولُهُ: (حَتَّى أَتَى المُزدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا المَغرِبَ وَالعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَينِ، وَلم يُسَبِّحْ بَينَهمَا شَيئًا)، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلدَّافِعِ مِن عَرَفَاتٍ أَن يجمَعَ بَينَ المغربِ والعِشاءِ في المُزدَلِفَةِ.

قَولُهُ: (ثُمَّ اضطَجَعَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى طَلَعَ الفَجرَ، فَصَلَّى الفَجرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبحُ)، فيه أَنَّ المَبِيتَ بِمُزدَلِفَةَ لَيلَةَ النَّحرِ بَعدَ الدَّفعِ مِن عَرَفَاتٍ نُسُكٌ، وَأنَّهُ يَبقَى بِالمُزدَلِفَةِ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبحَ إِلاَّ الضَّعَفَةَ فَلَهُم الدَّفعُ قَبلَ الفَجرِ.

قَولُهُ: (ثُمَّ رَكِبَ القَصوَاءَ حَتَّى أَتَى المَشعَرَ الحَرَامَ فَاستَقبَلَ القِبلَةَ فَدَعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ وَوَحَّدَهُ، فَلَم يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسفَرَ جِدًّا وَدَفَعَ قَبل أَنْ تَطلُعَ الشَّمسُ)، فيه مَشرُوعِيَّةُ ما ذُكِرَ وَسُنِيَّةُ الدَّفعِ مِن مُزدَلِفَةَ قَبلَ طُلُوعِ الشَّمسِ إذا أَسفَرَ جِدًّا.

قَولُهُ: (حَتَّى أَتَى الجَمرَةَ الَّتِي عِندَ الشَّجَرَةِ فَرَمَاهَا بِسَبعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنهَا مثلِ حَصَى الخَذفِ)، فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لِلحَاجِّ إِذَا دَفَعَ مِن مُزدَلِفَةَ فَوَصَلَ مِنًى أَن يَبدَأَ بِجَمرَةِ العَقَبَةِ وَلا يَفعَلَ شَيئًا قَبلَ رَميِهَا، وَفِيهِ أَنَّ الرَّميَ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، فَلَو بَقِيَت مِنهُنَّ وَاحِدَة لم تَكفِهِ السِّتّ، وَأَنَّ قَدرَهُنَّ بِقَدرِ حَصَى الخَذْفِ وَهُوَ نَحوَ حَبَّةِ البَاقِلاءِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يُسَنُّ التَّكبِيرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ التَّفرِيقُ بَينَ الحَصَيَاتِ، فَإِنْ رَمَى السَّبعَ رَميَةً وَاحِدَةً حُسِبَ ذَلِكَ كُلُّهُ حَصَاةً وَاحِدَةً، لأنَّهُ قال: (يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ)، وهو تَصرِيحٌ بِأَنَّهُ رَمَى كُلَّ حَصَاةٍ وَحدَهَا.

قَولُهُ: (ثُمَّ اِنصَرَفَ إِلى المنَحرِ فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بِيَدِهِ، ثُمَّ أَعطَى عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، وَأَشرَكَهُ في هَديِهِ)، فِيهِ اِستِحبَابُ تَكثِيرِ الهَديِ، وَفِيهِ اِستِحبَابُ ذَبحِ المُهدِي هَديَهُ بِنَفسِهِ، وَجَوَازُ الاستِنَابَةِ فِيهِ، وَفِيهِ اِستِحبَابُ تَعجِيلِ ذَبحِ الهَدَايَا وَإِن كَانَت كَثِيرَةً في يَومِ النَّحرِ، وَمَكَّةُ كُلُّها مَنحَرٌ وَمَوضِعٌ لِلذَّبحِ.

قَولُهُ: (أَمَرَ مِن كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضعَةٍ فَجُعِلَت في قِدرٍ فَطُبِخَت، فَأَكَلا مِن لَحمِهَا وَشَرِبَا مِن مَرَقِهَا)، البَضعَةُ هِيَ القِطعَةُ مِنَ اللَّحمِ، وَفِيهِ اِستِحبَابُ الأَكلِ مِن هَديِ التَّطَوُّعِ وَأُضحِيَّتِهِ.

قَولُهُ: (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ فَأَفَاضَ إِلى البَيتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهرَ)، هَذَا هُوَ طَوَافُ الإِفَاضَةِ، وَهُوَ رُكنٌ مِن أَركَانِ الحَجِّ بِإِجمَاعِ المُسلِمِينَ، وَأَوَّلُ وَقتِهِ مِن نِصفِ لَيلَةِ النَّحرِ، وَأَفضَلُهُ بَعدَ رَميِ جَمرَةِ العَقَبَةِ وَذَبحِ الهَديِ وَالحَلقِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ ضَحوَةَ يَومِ النَّحرِ، وَيَجُوزُ في جَمِيعِ يَوم النَّحرِ بِلا كَرَاهَةٍ، وَيُكرَهُ تَأخِيرُهُ عَنهُ بِلا عُذرٍ، وَتَأخِيرُهُ عَن أَيَّامِ التَّشرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةٍ، وَشَرطُهُ أَن يَكُونَ بَعدَ الوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَاتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لا يُشرَعُ في طَوَافِ الإِفَاضَةِ رَمَلٌ وَلا اِضطِبَاعٌ.

 

الخطبة الثانية

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَيَبقَى عَلَى الحَاجِّ بَعدَ يَومِ العِيدِ أَن يَبِيتَ بِمَنًى لَيلَةَ الحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانيَ عَشَرَ، وَلَيلَةَ الثَّالِثَ عَشَرَ لِمَن غَربَت عَلَيهِ الشَّمسُ وَهُوَ في مِنًى، وَهَذَا المبيتُ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، عَلَى مَن تَرَكَهُ دَمٌ، وَفي أَيَّامِ التَّشرِيقِ يَرمِي الحَاجُّ الجَمَرَاتِ الثَّلاثَ بَعدَ الزَّوَالِ، مُبتَدِئًا بِالجَمرَةِ الصُّغرَى وَهِيَ الشَّرقِيَّةُ، ثم الوُسطَى ثم العَقَبَةِ وَهِيَ أَقرَبَهُنَّ مِن مَكَّةَ، يَرمِي كُلَّ وَاحِدَةٍ بِسَبعِ حَصَيَاتٍ، وَهُوَ مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ أَيضًا، يَجبُرُهُ مَن تَرَكَهُ بِدَمٍ. وَيجُوزُ لِمَن كَانَ مَرِيضًا أَو ضَعِيفًا أَو صَغِيرًا أَن يُوَكِّلَ مَن يَرمِي عَنهُ، بِشَرطِ أَن يَكُونَ ذَلِكَ المُوَكَّلُ حَاجًّا، فَيرمِي عَن نَفسِهِ ثم عَن مُوَكِّلِهِ، فَإِذَا قَضَى الحَاجُّ مَا عَلَيهِ وَرَمَى الجَمَرَاتِ في يَومِ نَفرِهِ أَو رُمِيَت عَنهُ إِن لم يَستَطِعْ وَجَبَ عَلَيهِ أَن يَطُوفَ بِالبَيتِ طَوَافَ الوَدَاعِ قَبلَ أَن يخرُجَ مِن مَكَّةَ، وَهُو مِن وَاجِبَاتِ الحَجِّ، وَعَلى مَن تَرَكَهُ دَمٌ، إِلاَّ أَن تَكُونَ امرأةً حَائِضًا فَلا وَدَاعَ عَلَيهَا؛ لما في الصَّحِيحَينِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا قَالَ: أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهدِهِم بِالبَيتِ إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحَائِضِ. وَيجُوزُ لِمَن أَخَّرَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ أَن يَنوِيَهُ عَنِ الوَدَاعِ فَيُجزِئَهُ، وَيلزَمُ مَن كان مُتَمَتِّعًا أو كَانَ قَارِنًا أَو مُفرِدًا وَلم يَسعَ مَعَ طَوَافِ القُدُومِ أَن يَسعَى لِحَجِّهِ مَعَ طَوَافِ الإِفَاضَةِ.

اللهم إَنَّا نَسأَلُكَ أَن تُوَفِّقَنَا لما تحبُّ وَتَرضَى، وَأَن تَأخُذَ بِنَواصِينا لِلبرِّ وَالتَّقوَى...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً