أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس جميعًا ـ ونفسي بتقوى الله عزّ وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، واتقوا ربَّكم يا أولى الألباب.
فهذه مواسمُ الخيرات والبِقاعُ الطاهرات المقدَّسات، يتفيّؤُها الزائر والحاجّ والعاكِفُ والبَاد في بيتِ الله الحرامِ والمشاعرِ العظام ومسجدِ رسولِه عليه الصلاة والسلام، وأيّامُ الحج أيّام ذِكر وقُرُبات، نجائِب تحمل الأحباب، صابرات على [الإيجاب] والإتعاب، تأخذ الزائرِين إلى ربِّ الأرباب، قد ادُّخِرت لهم الأجورُ والبشائر، مؤمِّلين من ربهم بالأجرِ الوافر، رَحِم فيهم شَعَث الشّعث ووعثاء المسافِر، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ [الحج: 27].
عبادَ الله، حجَّاجَ بيت الله، يشعر المسلمون أنَّ دينَهم يتعرَّض لهجمةٍ شرسة، تحدَّثوا عن هذا الهجوم وتداوَلوه في ندواتهم وكتاباتِهم ولقاءاتهم ووسائِلِ إعلامهم، والحديث ليس حديثَ تشفِّي، ولا المقام مَقامَ تلاوُم، ولا بإلقاء التبعَةِ على الأعداء والخصوم، وإن كان هذا له مصداقيّته وموقعه بالقدر الذي يَبني ويَدفَع إلى العمل لا إلى الإحباطِ والتحسُّر.
غير أنّه قد يكون من المناسب أن ينظرَ المسلمون إلى أحوالِهم في أنفسِهم في واقعيّة وإيجابية بإذن الله ممّا يدفع إلى العمل والبناءِ؛ لتسير القافلة وتدَعَ الأصواتَ النّشاز، ولقد قيل: إذا رأيتَ النّاسَ يرمونك بالحجارةِ مِن خلفك فما ذلك إلاّ لأنك في المقدِّمَة.
غيرَ أن ممّا يجِب أن يتقرَّرَ أنَّ الأمةَ لا تستطيع إعزازَ دينِها ولا نصرةَ إسلامها إلاّ إذا أعزَّت نفسَها وانتصرت على أهوائِها ورغباتها، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
معاشرَ الإخوةِ والأحبّة، وهذه وقفةٌ مع أحَدِ عوامل بناءِ الأمة، يوقِفُها على طبيعتها، ويدلُّها على عيوبها، ويعينُ على تشخيصِ بَعض أدوائِها، ويُبرِز لها مصادِرَ قَوّتها، بل تستطيعُ من خلاله بإذنِ الله أن تَفحصَ نفسَها وتقوِّمَ مسيرتها. إنها وَقفةٌ مع وَسيلةٍ مِن أعظمِ وسائل شهودِ المنافع، ومن أعظم وسائل تجنُّب الجدال المذموم، والموسمُ موسمُ حجٍّ وتجمّع، والعصرُ عصرُ إعلامٍ وانفتَاح وحِوار. ذلكم ـ عبادَ الله ـ هو فِقه الإنصاتِ وحُسن الاستماع.
أيّها الإخوة المسلمون، بِناءُ العلاقات مِفتاح النجَاح، وحُسن الإنصاتِ وأدَبُ الاستماع مِن أعظَمِ ما يَبني العلاقاتِ ويرسُم طريقَ النجاح. كم هو جميلٌ أن يفهَمَ الرّاغبُ في الحقّ والجادّ في البناء وجمعِ الكلمة أنَّ الحجّةَ وحدها ليسَت كافيةً لإيصال الحقّ وإقناع الناس، بل لا بدَّ أن ينضَمَّ إلى ذلك حُسنُ الخلق واللّينُ والقدوة الحسنة، فالعقلُ والمنطِق بمفرَدِه شيء جافٌّ جافي وإن كان حقًّا، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران: 159].
ومِن أحسن هذه الأخلاق التي تُرطِّب جَفَافَ الحقّ وقَسوةَ المنطق الاستماعُ الفعّال والإنصاتُ الثّاقب. الإنصات الحَسن والاستماع المؤدَّب احترامٌ وتقدير وامتِصاص لانفعالات الغضب وتجنُّب لمواطِنِ الخَطأ وسبيلٌ مستقيم لاتِّخاذِ القَرار السَّديد والرَّأي الرشيد. حُسنُ الاستِماع يُرسِّخ الثّقَةَ في النَّفسِ ويَردُم الجَفوَة ويسُدّ الهوَّة ويخفِّف وَطأةَ الخِلاف ويفتح المجالَ واسعًا للتفاهم والحوار البنّاء. المرءُ لا يصافِح الناسَ وكفُّه مقبوضةٌ، فكذلك لا يفهم الناسَ ولا يفهمونه وأذُنُه مغلَقَة مقفولة. ليس أسهلَ مجهودًا ولا أَفعَل تأثيرًا في تملُّكِ القلوب منَ الإنصات.
تأمَّلوا ـ رحمكم الله ـ كتابَ ربكم وما جاء فيه بشأن الاستماع والإنصاتِ، لقد ذَكَر سبحانه السمعَ والبصر في تِسعةَ عَشر موضعًا، وقدَّم السمعَ في سبعةَ عَشر موضعًا؛ ممّا ينبِّه على مكانِ السمع وقدرِه وعظيم أثره وكبيرِ نَفعه وفائدته، فالإنسانُ تبدأ معارِفُه بالسمع، وبه يفقَه التشريع، ويكون أهلَ التكليف والامتثال، يقول عزَّ شأنه: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ [الأنعام: 36]، قال أهل العلم: عبَّر بالسمع لأنّه طريق العلم بالحقّ والآياتِ والبراهين، والسماعُ والإنصات انتِباه وفهمٌ واستجابة.
وقِفوا ـ رحمكم الله ـ عند هذه الآيات الكريمات، يقول عزَّ شأنه: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الجن: 29، 30]، قال قتادة: "ما أَسرَعَ ما عَقل القومُ!"، ذلكم هو السماعُ الفعّال؛ سماعُ عِلمٍ وفقهٍ وتدبُّر وفهمٍ وتعقُّل وانصياع.
مَعاشر المسلمين، أنتم أمّةُ الاستماع، فقد خاطَبَكم ربُّكم بقوله: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف: 204]، الاستماع والإنصاتُ هو الوسيلة المثلى للتدبُّر من أجل الفهم والعمل. أنتم أمّة الاستماع، فاحذروا قوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأنفال: 21]، قال أهل العلم: ما الفائدة أن يقول المرء: سمِعنا وأطعنا ولم تظهر عليه آثارُ الطاعةِ والإيمان؟! فلا خيرَ في السمع ولا في الاستماع إذا لم يظهَر أثرُ ذلك بالقبول والامتِثال وابتغاء الحق، وصدق الحقّ تبارك وتعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ [يونس: 67].
أمّا في سنة رسول الله فقد رَوَى الطبرانيّ بإسناد صحيحٍ عن عمرِو بن العاص قال: كان رسولُ الله يُقبِل بوجهِه وحديثِه على شرِّ القوم يتألَّفُهم، وكان يقبِل بوجهِه وحديثِه عليَّ حتى ظننتُ أني خيرُ القوم. وإنَّ لكم في رسولِ الله لأسوةً حسنة.
أمّا أصحاب رسول الله فقد كانوا يستَمِعون وينصِتون إلى حبيبِهم محمّدٍ وكأنَّ على رؤوسهم الطير من فَرط التقدير والأدب والمهابَة والرغبة في الحقّ وحُسن الإنصات وأدب الاستماع.
معاشرَ الأحبة، المنصِتُ يحبِس لسَانَه ويرسِل أذُنيه، يَعرِفُه الجالِسون والمتحَدِّثون بحضورِه وهدوئِه وترقُّبِه وحُسن متابعتِه وأَدَبه وتقديرِه لمحدِّثه، يحمل روحَ المساواةِ والبُعد عن الاستعلاء والفوقية وتجنّب الجَزم بالانفرادِ بالحقّ والقَطع بمعرفةِ الصواب. ما أجملَ الأذُن الصاغِيَة ذات الهدوء والوَقَار وهي تحتضِن امرَأً يكادُ يتميَّز مِنَ الغيظِ والغضب ويضيقُ بالحزن ذَرعًا، يقول أبو الدرداء : (لا خيرَ في الحياة إلاّ لأحد رجلين: منصتٍ واعٍ أو متكلِّمٍ عالم)، ويقول بعضُ الحكماءِ: "إذا جالستَ العالمَ فأنصت، وإذا جالستَ الجاهل فأنصِت، ففي إنصاتِك للعالم زيادةُ علم، وفي إنصاتك للجاهل زيادة حِلم"، ويقول أبو حامِدٍ الغزالي رحمه الله مبيِّنًا خصالَ المنصِت وصفاتِه: "هو المُصغِي حاضِرُ القلب قليلُ الالتفات إلى الجوانِب مُتَحِرِّزًا عن النظرِ إلى وجوهِ المستمِعين وما يظهَر عليهم من أحوال وأوضاع مشتَغِلاً بنفسِه متحفِّظًا عن حركةٍ تشوِّش على أصحابِه، سَاكِن الظاهِرِ هادِئ الأطراف متحفِّظ من التنحنُح والتثاؤب".
معاشر المسلمين، كم حُلَّت المشكلاتُ بحسن الاستماع، فلا تقاطِع واسمَع حتى ينتهِيَ محدِّثُك، استَمِع إلى صاحبِك لتفهَمَ، لا لتَلتَقِطَ عَثراتِه وتتبّعَ زلاَّتِه، لا تسمع وأنت لا تَرغَب الفهمَ، لا تشتغِل بإعداد الردِّ أثناءَ الاستمتاع، ولا تستعجل الإجابَةَ، إنك إن فعلتَ ذلك فإنَّك لا تردّ إلاّ على نفسِك، ولا تحرِم إلا نفسَك، إياك أن تستمعَ لتتصيَّدَ الأخطاءَ؛ فهذا خذلانٌ وعَمى وحِرمان من الحقّ وضَرَرٌ عَلَى النّفسِ والقَلب والدين، لا تفسِّر كلامَ محدِّثك بوجهَةِ نظرِك، وانظر إلى الأمورِ بمنظورِه لا بمنظورِك، وسوف تجِد أنك سريعُ الفهم منشَرِح الصدر غيرُ قَلِق ولا مُتَحفِّز.
تأمّلوا هذه الكلمةَ العظيمة ذات الفِقه النَّفيس النّفسيّ العميق من الإمام ابن حَزم رحمه الله حيث يقول: "من أراد الإنصاتَ فليتوهَّم نفسَه مكانَ خصمه؛ فإنه يلوح له وجهُ تعسُّفِه". لا تحمِل أحكامًا مسبقة ولا قرارات مُقَولَبَة، بل كن مستَمِعًا جيِّدَ الإنصات لكل ما يقال ويُلقى.
أيّها المتحدّث، اعلم وتأكَّد أنَّ هناك أناسًا كثيرين لدَيهِم مِنَ الفطنة والفَهم والعِلم والبداهة أكثر مما عندك وما يفوقُ تقديرَك، وحين تستَمِع فلا تتصنَّع المتابَعَة؛ فجَليسُك ذكِيٌّ نبِيه، فاحترِمه واحترِم نفسَك وأدَبَك، فاستمِع ـ بارك الله فيك ـ استماعَ يَقَظةٍ وفَهمٍ وابتغاء للحَقّ.
يا أصحابَ الحقّ، أيها الدعاةُ إلى الله، يا رجالَ الحِسبة، يا أهلَ الرأي والفكر، إنَّ أفضلَ طريقٍ لإقناعِ الآخرين وأيسَر سبيلٍ إلى الوصول إلى الحقّ هو فِقه حسن الاستماع وأدب الإنصاتِ.
وبعد: عبادَ الله، فانظرُوا ـ حفظكم الله ـ حينما يكون المرءُ في ضيقٍ أو ضائقة فإنّه لا يجد الفرَحَ ولا الفَرَجَ إلاّ عند من يحسِن الإنصاتَ إليه والاستماعَ إلى شكواه؛ يواسيه ويسليه [ويتولاّه]، يحِبّ الناس المنصتَ لأنّه مغناطيس تنجذِب إليه القلوب وتَلجَأ إليه الناس، يفرَّج همومَها وأحزانها. إنَّ الاستماعَ الجيّد والإنصاتَ العَميق هو سِرّ نجاح كثيرين في علاقاتهم وأعمالهم، وإذا صَلح الاستماع صَلحَت الحياة واستقامَت.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 20-23].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمّد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائِر المسلمين من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|