أما بعد: فإنَّ أصدقَ الحديث كلامُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعةٌ، وكلَّ بدعة ضلالة، من يُطعِ الله ورسوله فقد رشَد، ومن يعصِ الله ورسوله فإنه لا يضرُّ إلا نفسه، ولا يضرُّ الله شيئًا.
أيّها الناس، إنَّ الأدواءَ في المجتمعاتِ المسلمةِ متنوِّعة على تكاثُر، تدبُّ بين صفوفِها كدبيب النمل وهي لا تشعر، وهي أدواء تتفاوَت تفاوتًا ظاهرًا في الفتك والإضعاف. وإنَّ من بين هذه الأدواء الفتّاكة داءَ التّرف والكسل والعجز، الذي يُهلك الأفراد والأممَ ويقوِّض بينان المجتمعاتِ بعد أن يذكِيَ فيهم روحَ الأنانيةِ والاتكالية المُفرِزَين للبطالة والضيَاع، فيَعمون حينَها عن مسالك التشييدِ والبناء والجِدِّ والعمل، فضلاً عن مسالك العدل والإخاءِ والمساواة.
ثم إنَّ النِتاج الإيجابيَّ للمجتمعات المسلمة التي تَنشُد الرقيَّ والسموَّ بطاقاتها وثروَاتها مرهونٌ بمدَى تحقيقها لمبدأ العدلِ والمساواة والأولويّة للتفوُّق والامتياز وعَدمِ إهدار الفرص عن ذوي الكفاءات، ناهيكم عن الاحتكار فيها والجثُوم على ثغراتِ النهوض ببُسَطاء الأهلية على حسابِ ذوي الكفاءاتِ والمواهب الظاهرة.
وإنَّ مِن سمات المجتمع المسلم الرشيدِ الواعي انتشارَ العدل والمساواة وخفوتَ الظلم والأنانيّة والأثرة وحبّ الذات. وقد راعى الإسلام مبدَأ الأحقّيَّة والكفاءَةِ والامتياز في المجتمعِ المسلم، وقدَّم ذويها على من دونهم تقديرًا لتفوُّقهم واعترافًا بأهليّتهم، فقد جاء في الصحيحِ أنَّ النبيَّ قال: ((يؤمُّ القوم أقرَؤُهم لكتابِ الله)) الحديث رواه مسلم، وصحَّ من حديث عبد الله بن زيد في قصّة مشروعيّة الأذان أن النبيَّ قال له: ((ألقِه على بلال؛ فإنّه أندى منك صوتًا))، وقد كانَ يمتحِن الصحابةَ في القوّةِ والرمي حالَ تجهيز الجيش للغزوِ، فيقدِّم الكفءَ القويَّ، ولذلك ردَّ رافع بن خديج يومَ بدر لعدم كمال الأهلية.
إذًا فالإسلام جعَل للكفاءةِ والأهلية من المحلِّ والعناية والاعتبار ما يكفل به لكلِّ مجتمع واعِي أن يحيَا حياةَ الجدِّ والاستقرار والتوازُن في الاحتياج والإنتاج؛ ولأجل ذا فإنَّ المجتمعَ الذي يسودُه احترامُ بعضه بعضًا وتقديرُ أصحابِ الكفاءات والاعتبار بالأولويّة للأهلية وذوي الامتياز ليُعَدّ مجتمعًا متكامِلَ الرؤى متحِدَ المضامين، قد بنَى أسُسَه على شِرعةٍ من الحقّ والعدل والالتزام بالقِيَم والمُثُل المرعية.
بَيدَ أنّ في كثيرٍ من المجتمَعاتِ المسلِمة خَللاً وفُتوقًا أخلاَّ بمَوازينِ العَدلِ والمساوَاة عندها، بَل قلَّ أن تجِدَ لاعتبارِ الكفاءةِ والأهليّة محَلاًّ في ميادينِ العمَل والعِلمِ عندَها، فنشَأت في ميادينِهم آفةٌ فتَكَت بعجَلةِ التقدّمِ والنموِّ والنّهوضِ للأفضل، آفةٌ برَزَ دَورُها جليًّا في إعاقةِ عَمَليّة البناءِ والتطويرِ وتشجيعِ المواهبِ وشَحذِ الهمَم. إنها آفةُ ما يُسمّيه عوَامّ الناسِ بالوَاسطة أو الوَساطة، التي صَارَ لها في كثيرٍ مِنَ المجتمعاتِ المسلمة انتشارٌ متزايدٌ وتأثيرٌ بالِغ في مناحِي الحياةِ العلمية والعمليّة، وقد اكتَنَفَها كثيرٌ من السَّلبيّات التي انعكسَت بالضرورة على الفردِ والمجتمع، وإن كان ثَمَّ إيجابياتٌ ما فستكون إيجابياتٍ محدودةً وقاصرة في الوقت نفسه.
والواسطة ـ عبادَ الله ـ ظاهرة التبس على كثير من الناس مفهومُها، فأصبحت بارزة الخطورة؛ حيث إنها [تؤدِّي] بالمجتمع إلى تفشِّي روح الانتهازية ليصبحَ التعامل مع الفردِ بمقدارِ ما يحمِله من معرفةٍ وصِلة ومصلحةٍ شخصيّة، لا بما يحمله من كفاءةٍ وقُدرة وأولوية، وكلُّ ذلك منتجٌ للتراجعِ الإيجابيّ ومولِّدٌ للغَبن والتردُّد في العمل والأداء وحاجبٌ للابتكارِ والإبداع والتطوّر الذي ينعَكس على المصلحةِ العامّة للمجتمع بالسلب والفشل دون أدنى شكٍّ أو مماراة.
بل لقد وصلتِ الحال ببعض المجتمعاتِ إلى أن يشعرَ الفرد أنه لن يحيا حياةً متكامِلة بدون الواسطة، فلن يستطيع العملَ إلاّ بها، ولا السفرَ إلا بها، ولا الدراسةَ إلا بها، ولاَ التجارةَ إلاّ بها، ولا العلاجَ إلا بها، ولا تخليصَ الأعمالِ إلا بها.
وإنَّ مما يزيد الأمرَ عِلّةً والطين بِلّة أن يراها البعض من الناس ببسَب تفشِّيها مبرِّرًا للّجوء إليها وممارستها في كلِّ نواحي الحياة كيفَما اتَّفق، في حِينِ إنَّ حقيقتَها حالةٌ منَ الإفلاسِ تعترِي أصحابَها، كما أنَّ الظّروفَ الاجتماعيّةَ ليست مبرِّرًا للّجوء إلى الواسطة التي [تُؤدِّي] بصاحبها إلى هضمِ حقوق الغير وحرمانهم ممّا هم أهلٌ له قبلَه.
وإنَّ مما لا شكَّ فيه أن تفشيَ مثلِ تِلكم الآفة في مجتمعٍ مَا لن يدعَ لها في نهوضِها حَلاًّ ولا عَقدًا ولا أثَرًا لكفَاءاتها في منافعها العامّة، وإنما تكون خاضعةً للمصالح الشخصيّة والعلاقات المنفعيّة؛ ليجلبَ المجتمع على نفسه غائلةَ الفاقةِ والتخلّف، ويذكيَ في أوساطه شررَ الحسد والتباغض والتغابن، وقَلبِ المعايير علَى مَبدأ المصالح الشخصيّة لا على مبدأ الصالح العام والقبول للأصلح.
وإذا كانتِ الواسطة هي مساعدةَ الغير في تحقيقِ رغبته نحوَ أمر مخصوص فإنّنا لا نقصد بذلكم ـ عبادَ الله ـ الشفاعةَ التي عدَّها الإسلام مبدأً إيجابيًّا يقوم على أساس الإرفاق بالغير ونفعِه عند الاستطاعة تحت قاعدةِ التعاون على البرّ والتقوى والسعي في قضاء حوائجِ الناس ومصالحهم عملاً بقوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا [النساء:85]، وبقولِه : ((اشفَعوا تؤجَروا، ويقضي الله على لسانِ رسولِه ما يشاء)) رواه البخاري ومسلم.
غيرَ أنَّ كثيرًا من الناس قد توسَّعوا في استعمالِ هذا المبدأ وأَساؤوا فهمه، فأقحموه في غيرِ ما وضِعَ له حتى أصبحَ ظاهرة كثيرةَ التفشّي في المجتمعات المسلمة على نحو ما ذكرنا لكم آنفًا، فتحوَّل الأمر من كونِه محَلاً للإرفاقِ إلى كونه محلاًّ للمُضارَّة، والمضارّةُ لم تأتِ في كتاب الله إلا مذمومةً مَرفوضَة، كقوله تعالى: لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ [البقرة:233]، وكقوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البقرة:282]، وكقوله: وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق:6]، وفي الحديث الحسن الذي رواه أحمد والدّارقطني وابن ماجه وغيرهم أنَّ النبيَّ قال: ((لا ضررَ ولا ضرار)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذّكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
|