.

اليوم م الموافق ‏24/‏شوال/‏1445هـ

 
 

 

لهيب أسواق المال يحرق القلوب

5063

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه, موضوعات عامة

الفتن, جرائم وحوادث, قضايا فقهية معاصرة

وليد بن وصل المغامسي

جدة

مسجد الإمام أبي حنيفة

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- آثار انهيار الأسهم على المساهمين. 2- فتنة المال. 3- ذم الجشع والطمع والحرص على الدنيا. 4- تحذير النبي من فتنة الدنيا. 5- فضل القناعة والرضا بقسم الله تعالى. 6- حث الإسلام على التجارة الراشدة. 7- الأرزاق مقسومة.

الخطبة الأولى

قام بربط حبل في أصل مروحة غرفته، ثم قام بلف الحبل على رقبته كما تلتف الحية الرقطاء على فريستها، وهو يقف على كرسيه الذي طالما جلس عليه وهو متسمر أمام شاشة حاسوبه يتابع بشغف مؤشر السوق الذي أوصله إلى هذه الحالة الكارثية، فما هي إلا لحظات بعد أن أزاح الكرسي برجليه إذ بجسمه يتدلى في الغرفة، وإذ برقبته تنعقف إلى الأمام، وإذ بلسانه يخرج من فمه طريحا على شفته، معلِنا خروجَ روحه من جسده، وإذ بعينيه تجحظ وتحكي عن صَولات وجولات في عالم الأسهم، أغلبها مأساوي.

وثان أصيب بجلطة دماغية ـ حمانا الله وإياكم ـ عندما راء الشاشة تتشحّط في دمائها، بل في دماء أمواله التي وصل نهاره بليله في سبيل تحصيلها.

وثالث ضربته نوبة قلبية مفاجئة، فأحالته جثة هامدة لا حراك فيها، عندما رأى أمواله التي اقترضها من البنك، ورهن في سبيلها مستقبله ومستقبل أسرته، أصابها إعصار فيه اختلاس فاحترقت.

ورابع سالت روحه على جنبه حسرات وآهات عندما أخطره البنك أن رصيده الذي كان يعدّ بعشرات الملايين أصبح بضعة من الألوف، فنزل من قمّة موجة كان يعدّ فيها من الأثرياء، إلى قاع موجة أصبح فيها من أهل الزكاة.

وخامس رهن مشاعِرَه ومشاعر أبنائه ومن حوله بلونين تعرفونهما جيدا، فإن كسي سهمه بحلّة خضراء بلون الربيع رأيته فرحانا جذلا آمنا مطمئنّا، كأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها، وإن كانت الأخرى التي تعرفون رأيت في وجهه غمّة البؤس وفي عينيه حمرة الموت بحمرة سهمه، فكأنما قد فقد كل أحبابه بل وكل أصدقائه وجيرانه وفصيلته وعشيرته.

وسادس وسابع وثامن إلى آخر تلك السلسلة الطويلة من المصائب والمآسي التي لا تخفى عليكم، حتى إنك لا تكاد تجد بيتا أو أسرة إلا وقد أصابها شيء من حرّها وقرها، وتلوّثت بشيء من دنسها وحرامها، وتمثّل فينا قول الله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [التغابن:14، 15]، وقول نبيه : ((إن لكل أمّة فتنة، وفتنة أمتي المال))، وقوله: ((يهرم ابن آدم ويشبّ منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال)).

وحتى أكون صريحا مع نفسي ومعكم، لا أجد سببا لهذه المصائب التي حلّت بمجتمعنا ـ وذلك فيما أستطيع أن أتحدث عنه ـ إلا الجري واللهث في طلب الدنيا والتسابق المحموم في تحصيل المال بأيسر الطرق وأسهلها والتنافس المذموم في القفز إلى عالم المال والثراء بأسرع الوسائل الشرعية وغير الشرعية، المنطقية وغير المنطقية، حتى أصبحنا كالفراش والجنادب التي رأت نارا مستوقدة في ظلمات الليل المدلهم، فظنت أنها تباشير الإصباح، فألقت نفسها في أجيجها، فاصطلت بلهيبها وما هو بلهيبها ولكنه لهيب الطمع، واحترقت بأوارها وما هو بأوارها ولكنه أوار الجشع. فعلت ذلك دونما تبصّر أو تفكر، ودونما إصغاء لتحذير العقلاء على قِلَّتهم، والذين كثيرا ما حذَّروا من نتائج هذا الاندفاع الأهوج، ومن آثار هذا الإقدام غير المحسوب. وهذا هو حال أسواق المال، فإن المتاجرة فيها مخاطرة ما بعدها مخاطرة، والاستثمار بها مع الجهل كغالب بني قومي شبيه بالانتحار، بل إنه من أسباب إهلاك الحرث والنسل وحلول والدمار، وعامل من عوامل البوار السريع في لمح البصر والإفقار المدقع بين غمضة عين وانتباهتها.

قد يقول أحدكم: إنك تبالغ كثيرا وإن هناك من حقّق ثروات كبيرة، أقول له: كم نسبة هؤلاء الذين حقّقوا الثروات الهائلة إلى الذين سرِقت أموالهم من أمام أعينهم وهم يؤملون. الإحصاءات العالمية تقول: إن 10 بالمائة في أسواق المال يربحون، و90 بالمائة يخسرون، ثم كيف ربح أغلب هؤلاء الرابحين إلا بالغش والتدليس غالبا ومعرفة الأخبار وبثّ الإشاعات كثيرا وعقد الصفقات خلف الكواليس دائما ضدّ المساكين الذين يسمَّون بالقطيع، وليس للقطيع إلا التسمين ثم الأكل، وهذا كلّه يحصل في جميع أسواق العالم على تفاوت بينهم في النصب والاحتيال.

ثم إنني أقول أيضا: ألا توجد الكثير والكثير من الشركات أسعار أسهمها لا تعكس قيمتَها الحقيقية؟! ألا توجد شركات بلغ سعر السهم الواحد فيها 200 ريال، وهي تقوم مشكورة مأجورة بتوزيع نصف ريال على السهم الواحد كأرباح سنوية؟! أي: أنك تستردّ رأس مالك المستثمر فيها خلال 400 سنة فقط، فقولوا لي بالله عليكم أيّ تجارة هذه؟! وأي تلاعب هذا؟! وأي إهدار للأموال والأوقات يحدث؟! وأي اختلاس وسرقة للأموال تتكرر؟! بل أين عقول من يشترون مثل هذه الأسهم؟! أقول لكم: إن عقولهم مأسورة بالحلم الزائف بالكنز الموعود والجنة الوارفة والراحة الدائمة الذي يعِد به منافقو المنتديات المنتشرة انتشار السوس وأبواق القنوات المستأجرة ويصدقه المساكين الذين يفرون من الفقر، ألا في الفقر سقطوا، بل إنه التنافس المسعور في الدنيا، الذي حذرنا منه نبينا وحبيبنا .

أخرج البخاري بسنده عن عمرو بن عوف المزني رضي الله عنه أن رسول الله بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان الرسول الله صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الفجر مع النبي ، فلما انصرف تعرضوا له، فتبسم رسول الله حين رآهم، ثم قال: ((أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء))، قالوا: أجل يا رسول الله، وكانوا فقراء لا يجدون قوت يومهم، قال: ((فأبشروا وأمّلوا ما يسرّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم))، وفي رواية عند مسلم: ((وتلهيكم كما ألهتهم)).

نعم أيها الإخوة الكرام، نبينا لم يخشَ علينا الفقر الذي نفرّ منه فرارنا من الأسد، ونحن والله في نعمة عظيمة تحتاج إلى شكر، ولكنه خشي علينا من هذا التنافس الأزعر على الدنيا، الذي بتنا نحسّه ونلمسه بل ونراه رأي العين في مجتمعنا، ووالله إن الحرص الشديد على الرزق لن يقدمه، ولن يؤخره، ولن يزيد فيه، ولن ينقص منه.

وليس الرزق عن طلب حثيث  ولكن ألقِ دلوك في الدلاء

ورزقك ورزقي مكتوب جرى به القلم قبل أن يجعل الله هذه الأرض فراشا وهذه السماء بناء، فعلى رسلي ورسلك، فلنجمِل في الطلب، ولنقنع بما كتبه الله لنا، فإن القناعة والرضا بما كتبه الله علينا من خير ما أوتيه الإنسان.

أفـادتني القنـاعة كل عز     وهل عزّ أعزّ من القناعـة

فصيّرها لنفسك رأس مال      وصيّر بعدها التقوى بضاعة

تحز ربْحا وتغنِى عن بَخيل       وتنعم في الجنان بصبر ساعة

ويقول ابن القيم رحمه الله: الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين وقرة عيون المشتاقين... ومن ملأ قلبه من الرضا بالقدر ملأ الله صدره غنى وأمنًا، وفرَّغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه، ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضدِ ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه.

إذا اشتدت البلوى تخفّفْ بالرضـا      عن الله قد فاز الرضـيُّ المراقب

وكـم نعمـة مقـرونـة ببليـة       على الناس تخفى والبلايا مواهب

ولنصبر على ما كتبه الله علينا، فإن الصبر على أقدار الله من علامة الفلاح في الدنيا والآخرة، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ.

أيها الإخوة النبلاء، إنني أرجو أن لا يظن ظان أنّني أزهد في التجارة وطلب المال وتحصيله، حاشا أن يكون ذلك مقصدي، فإن المتتبع لشريعة الإسلام في كتاب الله وسنة نبيه يرى حثا على تحصيل المال الصالح الحلال وأنه قوام الحياة، ويرى ندبا على حسن تدبيره وتثميره، يقول نبينا : ((ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده))، وقال: ((ألا من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة))، وقال رسول الله : ((إن كان خرج يسعى على وُلده صغارا فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان))، بل إن رسول الله عمل في التجارة مع خديجة، وشارك بعض الصحابة في المتاجرة، يقول السائب بن أبي السائب رضي الله عنه: كان رسول الله شريكي، وكان خير شريك؛ لا يداري ولا يماري.

إذًا نحن لا نحذر من طلب المال، ولا نزهد في استثماره وتنميته، وإنما نحذر من إلقائه في أتون محرقة أسواق المال دون علم ولا دراية. نحن نحث الناس على الاستثمار الحقيقي، والذي يتمثل في الإنتاج الصناعي والتطوير التقني والمعرفي وما يتبعه من خدمات وتأسيس بنية صناعية تقنية معرفية قوية داخل وطننا الغالي على قلوبنا، تساهم في تطوير البلد والرقي به إلى مصاف الدول المتطورة وحمايته من طوارق المستقبل الذي لا يبشر بخير، وتساهم في تشغيل وتثمير الأموال الفائضة عن حاجة الناس، والتي تكدست عبر قنطرة المتاجرة في الأسهم في يدي ثلة قليلة من الناس، فتكرست الطبقية المقيتة، وأطلت علينا الرأس مالية بوجهها الكالح، ومن أراد إلا أن يستثمر أمواله في أسواق المال وأن يتعامل بأصفار رقمية تصنعها الدوائر الكهربائية في شاشات التداول فعليه أن يتقي الله في ماله، فيجنبه الحرام والمختلط من الأسهم والمعاملات، وما أكثر الحرام والمختلط فيها، وعليه أن يتسلح بالعلم والمعرفة، وأن يتترس باليقظة وبعد النظر، وأن يتمنطق بالصبر وسعة الصدر والقناعة، والكلام في هذا الباب يطول.

وختاما أقول لكل من يخاف عوادي الأيام ومفاجأة الأقدار بالفقر: إن ذلك مكتوب على جبينك كما يقولون، ولن يغني حذر من قدر، فأجمل في الطلب، وإن كنت تظن أن الفقر في الدنيا عيب ومنقصة ومذلة فنبيك كان فقيرا وعزيزا، تقول عائشة رضي الله عنها: ما شبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير، وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: أكل رسول الله النقي؟ يعنى الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نثريه فنعجنه. واعلم أن الفقر الحقيقي هو فقر الآخرة يوم يودُ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ.

 

الخطبة الثانية

لم ترد.

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً