الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، إن كثيرا من الأمراض التي ظهرت في مجتمعنا التي أضرت بعلاقاتنا سببها العداوة والهجران، لذلك اعتبر الإسلام صلاح ذات البين من أهم العبادات، بل أفضل من الكثير منها كما ورد في الحديث السابق عن النبي قال: ((ألا أنبئكم بدرجة أفضل من الصلاة والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى، قال: ((صلاح ذات البين)) الحديث، فالمسلم الحق من يصلح علاقاته مع الناس، ويعتذر عما صدر منه من أذى أو خشونة في المعاملة أو فظاظة في القول أو غلظة في القلب. وصلاح ذات البين يتطلّب جهدا كبيرا وصبرا جميلا وغضا للطرف عما صدر عن الخصم من سوء المعاملة، وربما في بعض الأحيان يستوجب التنازل عن بعض الحقوق، قال تعالى: وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يلقاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:34، 35].
والصلح بين الناس قيمة خلقية عالية، باشرها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأهل الخير من هذه الأمة والأمم السابقة، قال تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ ٱبْتِغَاءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:14]، قال الإمام الرازي رحمه الله: "هذه الآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق مع بعض إلا أنها في المعنى عامة، والمراد: لا خير فيما يتناجى فيه الناس ويخوضون فيه من الحديث إلا ما كان من أعمال الخير. ثم إنه تعالى ذكر من أعمال الخير ثلاثة أنواع: الأمر بالصدقة، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، وإنما ذكر الله هذه الأقسام الثلاثة وذلك لأن عمل الخير إما أن يكون بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، أما إيصال الخير فإما أن يكون من الخيرات الجسمانية وهو إعطاء المال، وإليه الإشارة بقوله: إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ، وإما أن يكون من الخيرات الروحانية وهو عبارة عن تكميل القوة النظرية بالعلوم أو تكميل القوة العملية بالأفعال الحسنة، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف، وإليه الإشارة بقوله: أَوْ مَعْرُوفٍ، وأما إزالة الضرر، فإليها الإشارة بقوله: أَوْ إِصْلَـٰحٍ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، فثبت أن مجامع الخيرات مذكورة في هذه الآية"، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا)) رواه ابن حبان.
وللصلح مجالات مختلفة، قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين.
ومن صور الصلح:
1- الصلح بين الزوجين اللذين وقع بينهما نشوز أو خصومة، وهذا النوع من الصلح أصبح مُلِحًّا وضروريا لكثرة وقوع الخصومات والمشاكل في الحياة الزوجية، مشاكل قد تؤدي إلى الفراق وحلّ العصمة الزوجية، فينتج عن ذلك أضرار ومخاطر أسرية ومجتمعية، قال تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوِ اعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يَّصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 127].
2- الصلح في الحقوق المالية، وهذا النوع هو الذي عنون له الفقهاء في كتبهم وخصصوه بالحديث، وعرفه ابن عرفة بأنه انتقال عن حقّ أو دعوى بعوض لرفع نزاع أو خوف وقوعه.
3- الصلح في الجنايات.
4- الصلح في النيل من العرض أو الطعن في الشخصية.
وهناك أنواع أخرى من الصلح، كالصلح بين الدول والصلح بين المسلمين وغير المسلمين.
أيها الإخوة المؤمنون، قد تبين لنا جميعا ما ينتج عن العداوة والفرقة والشقاق والخصومات من الضرر الديني والنفسي والاجتماعي والاقتصادي؛ لذلك حرم الإسلام تلك السلوكيات الذميمة كلها، كما تبين لنا أيضا فضل إصلاح ذات البين والصلح بين الناس، وما له من ثمار ونتائج كريمة؛ كرفع الضرر ولمِّ الشمل.
فاتقوا الله عباد الله، وأصلحوا ذات بينكم، والحمد لله رب العالمين.
|